46/05/21
الدرس (الثاني والثلاثون): الجهاد الدفاعي
الموضوع: الدرس (الثاني والثلاثون): الجهاد الدفاعي
الجهاد الدفاعي
[القسم الأول من الجهاد: الجهاد الإبتدائي وتعريفه ومناطه]
اتضح مشروعية ووجوب الجهاد الابتدائي، ويراد به ابتداء القتال من أجل دعوة الكافر إلى الإسلام، ولو لم يسبقه اعتداء منه، فمناط وملاك مشروعية الجهاد الابتدائي هو كفر العدو.
[القسم الثاني: الجهاد الدفاعي]
والقسم الثاني هو الجهاد الدفاعي، فإذا تعرضت بلاد الإسلام إلى اعتداء من الكافر أو تعرض المسلمون إلى اعتداء من الكفار وجب الدفاع.
[معنى الدفاع في اللغة]
الدفاع في اللغة يشمل حالتين:
الأولى الرد على عدوانٍ واقع بالفعل أو في سبيله إلى الوقوع، فالدفاع إما دفع عدوان قد وقع فعلاً أو رفع عدوان في سبيله إلى الوقوع.
الثانية: درء العدوان قبل وقوعه، وهو ما يعبر عنه بالردع الوقائي، أي القيام بقتال وضربه استباقيه إذا علم أن العدو قد أعد العدة لقتال المسلمين واستشعر المسلمون الخطر.
[حقيقة الدفاع]
الدفاع من كل حي متحرك عاقل يلازم تكوين وجود عدوٍ وخطرٍ محدق بالمهاجم المستهدف، يهدد أمنه وطمأنينته.
[رد العدوان بأحد الطريقين]
فيتم رد هذا العدوان بأحد طريقين:
الطريق الأول: التحصن الذاتي، فإذا لم يبلغ عدوان العدو مرحلة الخطر الفعلي، فحينئذٍ يقوم المستهدف بالتوقي والتحصن.
مثال ذلك في حياتنا اليومية: لبس ثياب الشتوية السميكة التي لدفع خطر البرد القادم، وتهيئة وسائل التدفئة لدفع خطر البرد.
كما قال أمير المؤمنين: « توقوا البرد في أوله وتلقوه في آخره فانه يفعل بالأبدان كما يفعل بالأشجار ، أوله يحرق وآخره يورق »[1] هذه هي الوقاية والتحصن الشخصي.
ويوجد تحصن ضد العدو كاللجوء إلى حصن يصعب على العدو أن يصل إليه، فهذه هي الوسيلة الأولى للدفاع «التحصن الذاتي».
الطريق الثاني: النشاط العملي الخارجي.
مثال ذلك في الحياة الشخصية: إذا هاجم عليه السبع، فإذا أصبح الخطر فعلياً فإنه لا يلجأ إلى التحصن الذاتي، فهذا إجراء وقائي، بل يمارس الدفاع العملي الخسارجي.
[المراد من الدفاع هو الطريق الثاني]
وكلامنا في وجوب الجهاد الدفاعي هو من قبيل الثاني أي النشاط القتالي والعسكري الموجه ضد العدو الذي يهدد المسلمين وبلادهم، وليس المراد من الوسيلة الأولى مجرد التحصن والبقاء خلف الأسوار.
إذ المراد بالدفاع والجهاد الدفاعي إيجاد نشاط عسكري وقتالي لدفع العدوان من الكفار.
[وجوب الجهاد الدفاعي]
[وجوب الجهاد الدفاعي في الآيات]
لا شك ولا ريب في ثبوت وجوب أصل الجهاد الدفاعي في جميع الأزمنة من دون فرق بين حضور المعصوم عليه السلام وبين زمن غيابه صلوات الله وسلامه عليه، ويمكن أن يتمسك بإطلاق قوله تبارك وتعالى:
﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾[2]
فهذا الأمر: ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ مطلق يستوعب جميع الأزمنة ولا يصلح للتقييد. بل هو أبعد عن التقييد كما يمكن أن يتمسك بوجوب الجهاد الدفاعي بقوله تبارك وتعالى:
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾[3] .
هذا بالنسبة إلى الآيات.
[وجوب الجهاد الدفاعي في السيرة]
وأما بالنسبة إلى السيرة فقد جرت سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في حروبه على الدفاع، بل قيل: إن جميع حروب النبي ليست ابتدائية، كما أنه بالنسبة إلى دعوة إجماع المسلمين على وجوب الجهاد.
قلنا إنه ناظر إلى الجهاد الابتدائي والدفاعي، لكن قد يقول البعض إن القدر المتيقن من إجماع المسلمين هو خصوص الجهاد الدفاعي دون الجهاد الابتدائي.
[موارد الجهاد الدفاعي]
[القدر المتيقن من وجوب الجهاد الدفاعي]
يوجد قدران متيقنان من وجوب الجهاد الدفاعي:
المورد الأول: الدفاع الفعلي.
إذا تعرض المسلمون لعدوان فعلي، فلو هجم جيش الكفار على المسلمين أو بلاد المسلمين وجب الدفاع نظراً لتحقق العدوان فعلياً فيجب الدفاع فعلاً، كما حصل في غزوة أحد والخندق إذ تحرك جيش الكفار من مكة إلى المدينة وخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله عند جبل أحد،ٍ وفي معركة الأحزاب حاصر الأحزاب المدينة المنورة، فاضطر النبي إلى حفر الخندق، فأبرز مصداقين بارزين للمورد الأول هي غزوة الأحزاب والخندق وغزوة أحد.
المورد الثاني: الإجراء الوقائي والضربة الاستباقية.
كما لو علم المسلمون أن الكفار يعدون للهجوم على مسلمين، لكن الهجوم لم يحصل فعلاً، فهنا لا يقال انتظروا لأن الكفار لم يعتدوا ولم يهجموا بالفعل، وأن القتال الدفاع لا يشرع إلا إذا تحقق العدوان الفعلي، بل الجهاد الدفاعي يشرع حتى لو لم يقع العدوان فعلاً، كما لو هيأ العدو مقدمات العدوان على المسلمين، فحينئذٍ يجب على المسلمين التحرك الفوري لردع ذلك العدوان القريب من الفعلية، وهذا ما حصل في غزوة خيبر حينما حاصر النبي صلى الله عليه وآله حصن خيبر لمعرفته بمكائد اليهود وما يدبرونه للمسلمين.
هذان موردان متيقنان من موارد وجوب الجهاد في الدفاع.
[الموارد الأخرى للجهاد الدفاعي]
ولكن يمكن تصور موارد أخرى قد تندرج تحت حكم الجهاد الابتدائي.
[ثلاثة موارد ادعي تندرج تحت عنوان الجهاد الدفاعي]
وقد ذكر المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين ثلاثة موارد ادعى أنها تندرج تحت عنوان الجهاد الدفاعي، على أنه يمكن التأمل في بعضها فعلى مسلك مشهور يندرج المورد الأول، وقد يقال إن المورد الثاني أيضاً يندرج على مسلك المشهور دون المورد الثالث، وسنتطرق إلى الموارد الثلاثة تباعًا وننظر في حكمها.
المورد الأول: أن يعتدي الكفار على المسلمين أو يهموا بذلك، وهذا ما ذكرناه في الموردين اللذين هما قدر متيقن من وجوب الجهاد الدفاعي.
ثم قال المرحوم شمس الدين[4] : «يمكن دعوة شمول هذا القسم للعدوان الاقتصادي، بإرهاب الطرق الدولية لتجارة المسلمين ومحاصرة وارداتهم أو صادراتهم من المواد الخام ومصادر الطاقة وتغيير مجاري الأنهار ومنابع المياه وما أشبه ذلك».
المورد الثاني: أحداث الكفار الفتنة بين المسلمين بتحزيب الأحزاب وتفريق الكلمة، وتسبب ما يمكن أو يؤدي إلى إشعال نار الحرب الداخلية بين أبناء المجتمع الواحد المسلم أو مجتمعات المسلمين، أو إحداث ما يوجب ضعف قوة المسلمين واستنزاف طاقاتهم.
المورد الثالث: أن يعتدي الكفار على شعب مستضعف، إما مسلم في مجتمع آخر أو كافر كذلك يعني في مجتمع آخر.
[مورد آخر خارج عن الجهاد الدفاعي]
ونلفت إلى أن هناك صورة خارجة عن مورد الجهاد الدفاعي، وهي ما لو كان الاعتداء من قبل المسلمين، بأن اعتدت جماعة مسلمة على جماعة مسلمة أخرى، فهذا داخل في موضوع البغي والحرابة، التي سيأتي حكمها إن شاء الله عند التعرض إلى قتال البغاة والمحاربين.
[تفاوت أحكام البغاة عن أحكام الجهاد]
سؤال: هل يشترط في المعتدي أن يكون كافراً أم لا؟
الجواب: من الواضح أن المعتدي لا بدّ أن يكون كافراً، إذ أننا نبحث الجهاد، والجهاد إنما يكون مع الكفار، فهذا الجهاد إما ابتدائي لدعوة الكفار إلى الإسلام، وإما دفاعي لردع الكفار عن عدوانهم، وأما إذا كان المعتدي مسلماً، فهذا يندرج تحت حكم البغاة.
قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾[5]
لذلك يذكر الفقهاء أحكام الجهاد، ثم أحكام الدفاع، ثم أحكام البغاة.
لكن من الغريب ما نسبه سيد الرياض إلى الأكثر من عدم اشتراط كون المعتدي كافراً، فقال السيد علي الطباطبائي في "الرياض" ما نصّه:
« وهل يشترط في العدو الزاحم كونه كافرا، كما عن الشيخ ، أم لا كما عن الأكثر؟ قولان. »[6] .
يوجد للشهيد الثاني في "المسالك" كلام يماثل كلام صاحب الرياض، فقال ما نصه:
«وهل يشترط في العدو الهاجم كونه كافراً أو يجوز دفعه وإن كان مسلماً؟ قيل بالقول الأول وبه صرح الشيخ في النهاية لتحريم قتل المسلم، وظاهر الأكثر عدم الاشتراط لأنه مدافع عن نفسه، والمسلم يجوز دفعه كذلك»[7] .
فالشهيد الثاني في "المسالك" كالسيد علي الطباطبائي في "رياض المسائل" رجح وذكر قولين ونسب إلى الأكثر عدم الاشتراط، لكن صاحب "المسالك" نسب عدم الاشتراط إلى ظاهر الأكثر، ولعل منشأ هذا الظهور إطلاق كلمات الأصحاب رضوان الله عليهم مع ملاحظة التعليل البديهي الذي ذكره الشهيد الثاني رحمه الله.
لكن الصحيح هو ما ذهب إليه الشيخ الطوسي في النهاية من اشتراط أن يكون المعتدي كافراً، فلو كان المعتدي مسلماً أصبح الموضوع هو قتال البغاة والمحاربين، وليس الجهاد الدفاعي.
هذا تمام الكلام في بيان الموارد الثلاثة، يبقى الكلام في حكم الموارد الثلاثة، يأتي عليه الكلام.