< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

44/11/10

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس المئة: قيام الدليل على وجوب التصدق فيما إذا كان المال لعددٍ غير محصور أو لا يعلم به أصلاً

 

قيام الدليل على وجوب التصداق فيما إذا كان المال لعددٍ غير محصور أو لا يعلم به أصلا، ولا خلاف في وجوب التصدق إذ أن التصدق أقرب الطرق لإيصال المال إلى صاحبه ومالكه الواقعي إذ أن نفع التصدق يرجع إلى مالكه الأصلي.

فقد دلّ الدليل على وجوب التصدق نيابة عن صاحب المال، ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب التصدق، وقد يستدل عليه بروايتين:

الرواية الأولى صحيحة يونس بن عبد الرحمن قال: <سئل أبو حسن الرضا ـ عليه السلام ـ وأنا حاضر> إلى أن قال: <رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا، فلما صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فأي شيء نصنع به؟> قال: <فقال: تحملونه حتى تحملوه إلى الكوفة، قال: لسنا نعرفه، ولا نعرف بلده، ولا نعرف كيف نصنع؟ قال: ـ عليه السلام ـ : إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه. قال له: على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية>[1] .

هذه الروايات صحيحة من جهة السند.

وأما من جهة الدلالة فهي واضحة فإنها وإن كان موردها العين الخارجية وهو متاع الرفيق، ولذلك أمر الإمام ـ عليه السلام ـ بحمله ثم بيعه والتصدق بثمنه، ولكن المستفاد بحسن الفهم العرفي هو إلغاء الخصوصية، فخصوصية العين الخارجية تلغى كما أن خصوصية كون الواقعة حصلت في السفر إلى مكة أيضاً تلغى بحسب الفهم العرفي إذ أن المناط في التصدق هو عدم التمكن من إيصال المال إلى صاحبه سواء كان هذا المال عيناً أو ديناً في الذمة.

كما أنه يمكن إرجاع ما في الذمة إلى الخارج بتسليم هذا المال إلى الحاكم الشرعي، وعند التعذر يسلم إلى عدول المؤمنين، فيتميز المال، وبعد التميز يتصدق به، إذ أن المرجع في مجهول المالك هو الحاكم الشرعي ويكون التصدق بإذن الحاكم الشرعي نيابة عن المالك الأصلي.

إذا الرواية الأولى وهي صحيحة يونس بن عبد الرحمن تامةٌ سنداً ودلالةً.

الرواية الثانية رواية معاوية بن وهاب عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ : <في رجل كان له على رجلٍ حقّ ففقده، ولا يدري أين يطلبه ولا يدري أحي هو أم ميت ولا يعرف له وارثاً ولا نسباً ولا بلدان.

قال ـ عليه السلام ـ : اطلبه.

قال: فإن ذلك قد طال فأتصدق به.

قال ـ عليه السلام ـ : اطلبه>[2] .

إذا الرواية مروية في جميع الكتب الأربعة للمحمدين الثلاثة.

تقريب الاستدلال من جهة الدلالة:

قد ورد في هذه الرواية لفظة حقّ، والحق كما يشمل العين الخارجية يشمل أيضاً ما في الذمة، فقد ورد في سؤال السائل قوله: <في رجلٍ كان له على رجلٍ حقّ ففقده، ولا يدري أين يطلبه> فنتمسك بإطلاق لفظ الحقّ الشامل للعين الخارجية والدين في الذمة.

ويستأنس وجوب التصدق من قول السائل: <فأتصدق به> مما يعني أن المرتكز عند أصحاب الإمام الصادق هو التصدق بالمال إذا لم يظهر بالمالك.

ويستظهر من قوله ـ عليه السلام ـ : <اطلبه> أن النوبة لا تصل إلى التصدق إلا بعد اليأس من الظفر بصاحب المال، لذلك لا بدّ من طلب صاحب المال فإذا تم اليأس من الظفر به تصل النوبة إلى التصدق، فتكون الرواية دليلاً على المدعى.

لكن يمكن المناقشة في هذه الرواية سنداً ودلالة.

أما من جهة الدلالة فالإمام ـ عليه السلام ـ لم يأمر بالتصدق مع أن السائل سأل عن التصدق لكن الإمام ـ عليه السلام ـ أمره بالطلب وقد تكرر الطلب مرتين من الإمام، مرة بعد سؤال السائل مباشرة من دون أن يسأل عن التصدق، والمرة الثانية بعد سؤال السائل عن خصوص التصدق، مما يعني أن المدار على العنوان الذي ذكره الإمام ـ عليه السلام ـ وهو خصوص الطلب، ومفردة التصدق وردت في كلام السائل ولم يجبه الإمام ـ عليه السلام ـ بذلك بل أمره بالفحص عن صاحب المال وطلبه فلا تدل الرواية على التصدق.

إذا هذه الرواية ليست تامة من جهة الدلالة.

وأما من جهة السند فقد عبر عنها السيد الخوئي بالصحيحة[3] ، إذا عبر عنها السيد الخوئي صحيحة معاوية بن وهب، لكن يمكن المناقشة في هذه الرواية من جهتين فقد ورد فيها عنوان أبو ثابت وفي نسخة ابن ثابت، وورد فيها أيضاً عنوان ابن عون، وهما غير معروفين.

نعم، ذكر السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ في معجم رجال الحديث[4] أن أبا ثابت هو أبو ثابت الأنصاري الأسدي وعده البرقي في أصحاب الصادق ـ عليه السلام ـ [5] .

وقد يدعى أنه يمكن تصحيح سند الرواية لأن كتاب معاوية بن وهاب معروفٌ مشهورٌ ويرويه جماعة كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي في الفهرست[6] وما دام كتاب معاوية بن وهاب معروف ومشهور كما نسب دعوة ذلك للشيخ الطوسي فلا نحتاج إلى السند إذا أننا نحتاج إلى السند لإثبات صحة نسبة كتاب معاوي وهاب إليه ومعه اشتهار هذا الكتاب واشتهار نسبته إلى معاوية بن وهب لا نحتاج إلى السند.

لكن هذه العبارة ليست موجودة في فهرست الشيخ الطوسي وما هو موجود في فهرست الشيخ الطوسي لا يدل على مشهورية ومعروفية كتاب معاوية بن وهب.

الله يذكره بالخير أستاذ الشيخ محمد باقر الإيرواني قال: ها عدنا شكم معاوية ثقة، معاوية بن وهب، معاوية بن عمار، وأخذ يذكر أسماء معاوية من كبار الأجلاء ـ حفظه الله ـ .

جيد، وعلى فرض التسليم بأن كتاب معاوية بن وهب مشهور ومعروف هذا تام بناء على مبنى الشيخ الداوري، على مبنانا معرفية ومشهورية الكتاب مجرد الشهرة لا تكفي إلا إذا علم اشتهار النسخ، وحتى في موردنا بناءً على مبنى الشيخ الداوري أيضاً لا يمكن تصحيح سند هذه الرواية بالخصوص، فقد ذكر الشيخ النجاشي أن لمعاوية بن وهب كتباً منها كتاب فضائل الحج[7] .

ولا يعلم أن هذه الرواية لمعاوية بن وهب هي من كتاب فضائل الحج أو من كتاب آخر، ولا يعلم هل جميع هذه الكتب مشهورة ومعروفة أو أنه كتاب خاص؟ وأن هذه الرواية هل أخذت من الكتاب المشهور المعروف أو من غيره؟

ولو صححنا هذه الرواية من جهة مشهورية الكتاب إلا أن الكتاب الذي أخذت منه غير معلوم أنه مشهور ومعروف.

إذا هذه الرواية ليست تامة سنداً ودلالةً، فلا يصلح أن تشكل دليلاً على المدعى، وقد استدل بها السيد الخوئي وجعل الروايتين دليلين على المدعى.

والصحيح أن رواية معاوية بن وهب مؤيدة للدليل وهو صحيحة يونس بن عبد الرحمن.

هذا تمام الكلام فيما يدل على وجوب التصدق عند مجهولية المالك ومعلومية مقدار المال.

وبذلك ينتهي الكلام في الصورة الثالثة.

ويبقى الكلام في الصورة الرابعة والأخيرة وهي ما إذا كان المال مجهولاً والمالك معلوماً، وهذه المسألة لها عدة فروض ولنذكر فروض المسألة بناءً على أن يكون المال مجهولاً والمالك قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً.

الفرض الأول إذا كان المال مجهولاً من جهة المقدار، فهل هو مقدار عشرة دنانير أو خمسين دينار أو ألف دينار؟ والمالك قد يكون معلوماً بعينه ومتشخصاً، وقد يكون محصوراً ومعلوماً في عدد محصور ومتشخص، وقد يكون هذا المالك يدور في عدد غير محصور أو أن يكون المالك الواقعي غير معلوم.

ويجمع بين هذه الصور أن المقدار مجهولٌ فإن كان هذا المقدار مردداً بين الأقل والأكثر سواء كان مثلياً أو قيمياً فالظاهر من كلام السيد الماتن في العروة الوثقى وغيره هو الحكم بوجوب إعطاء الأقل وتجري البراءة الشرعية عن وجوب الزائد لأن العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر ينحل.

نعم، إذا أقام المالك البينة على أن له الأكثر ثبت له الأكثر وإن لم يقم البينة والدليل فيحكم بالزائد لمن بيده المال لأن يده على المال فبمقتضى قاعدة اليدّ تثبت ملكيته للأكثر ويجب عليه دفع الأقل، هذا من جهة مجهولية مقدار المال.

وأما من جهة المالك أنه معلوم أو يدور في عدد محصور أو في عدد غير محصور فقد تقدم الكلام عنه في الصورة الثالثة.

هذا تمام كلام في الفرض الأول من الصورة الرابعة وهو أن يكون المال مجهولاً من جهة المقدار.

الفرض الثاني إذا كان المال مجهولاً من جهة الجنس وكان الترديد بين قيميين كما إذا تردد المال بين شاة أو بقرة أو تردد المال بين بيت أو سيارة فهذه من القيميات، والحكم في الفرض الثاني يرجع إلى الفرض الأول لأن القيمية عند التلف يرجع فيه إلى القيمة، فيرجع المال إلى دين في ذمة المكلف، إذ أن مال القيمي ينتقل إلى دينٍ في ذمة المتلف ويدور هذا الدين المضمون على المتلف بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن الأكثر، ويجب عليه دفع الأقل إلا إذا أقام صاحب المال البينة فيثبت له الأكثر، وإن لم يقم البينة أو الدليل ثبت الأكثر لصاحب اليدّ.

الفرض الثالث وهو المشكل وهو ما إذا كان المال مجهولاً من جهة الجنس أيضاً لكن كان الترديد بين مثليين أو كان أحدهما مثلياً والآخر قيمياً كما إذا تردد المال بين الحنطة أو الشعير، أو بين البقرة أو الحنطة، أو بين الشاة أو الشعير، والحكم في الفرض الثالث مشكلٌ لأن المثلي عند التلف لا ينتقل إلى القيمة حتى تصبح ديناً في ذمته بل المثلي عند التلف ينتقل إلى لزوم المثل فيدخل المثل في ذمة المتلف فيدور الأمر في ذمته بين شيئين متباينين لأن ذمة المتلف اشتغلت بالحنطة أو الشعير، أو بين قيمة الشاة أو الشعير، أو بين قيمة البقرة أو الحنطة.

فلو دار الأمر بين القيميين وانتقلت القيمة إلى دين في ذمة المتلف فحينئذ يدور الأمر بين الأقل والأكثر فيجب دفع الأقل وتجري البراءة عن الأكثر، لكن الملاحظة في مثل المال أن الذمة تنشغل بالمثلي كمثل الحنطة أو الشعير أو الزبيب لا بقيمة هذه الأجناس فتصبح المسألة من باب دوران الأمر بين المتباينين، فهل اشتغلت ذمته بخصوص الشعير أو بخصوص الحنطة أو بخصوص الزبيب ولا ينتقل إلى القيمة؟

وفي هذه المسألة أقوال ستة:

القول الأول الحكم بالتنصيف.

القول الثاني الحكم بالقرعة.

وقد ذكرهما السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ واختار القرعة إلا أنه لم يختر القرعة لأول وهلة بل قال:

<يجب الإرضاء فإن لم يتمكن من الإرضاء تعينت القرعة>[8] .

القول الثالث الحكم بالاحتياط، بإعطاء المالك أعلى الجنسين حتى يحصل الفراغ اليقيني، وهذا هو أحد الاحتمالين اللذين عبر عنهما السيد صاحب العروة بقوله: <وجهان>.

القول الرابع الحكم بإعطاء الأقل، وتجري البراءة في الزائد كما في صورة التردد في المقدار، فيصير حكم الفرض الثالث نفس حكم الفرض الأول والثاني.

القول الخامس الحكم بإعطاء أقل الجنسين إذا رضي المالك، وعند عدم رضا المالك ينصف الجنسان، ويعطى نصف كل منهما.

ولعل هذا القول الخامس يرجع إلى القول الأول القول بالتنصيف، لكن عند عدم الرضا.

القول السادس والأخير التفصيل بينما إذا كانت يده عدوانية فعليه أن يعطي الأعلى منهما لأن اليد العدوانية تؤخذ باشق الأحوال وإن لم تكن يده عدوانية فينصف الجنسان.

هذا تمام الكلام في بيان الأقوال الستة، تحقيق الأقوال فيها يأتي عليه الكلام.


[1] تهذيب الأحكام، ج6، ص455، الحديث 310.وسائل الشيعة، ج25، ص450، الباب7، من أبواب اللقطة، الحديث 2، مع اختلاف يسير.
[2] فروع الكافي، الكليني، ج7، ص153، كتاب المواريث، الباب88، الحديث 2.من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص331، الحديث 5713، مع اختلاف يسير.تهذيب الأحكام، ج9، ص331، الحديث 1388.الاستبصار، الشيخ الطوسي، ج4، ص272، الحديث 737.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج26، ص297، الباب6، من أبواب ميراث الخنثى، الحديث 2.
[3] المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الخمس، تقرير الشهيد البروجردي، ص155.
[4] ج22، ص80، ترجمه 14023.
[5] الفهرست، ص463، ترجمة 738.
[6] الفهرست، ص463، ترجمة 738.
[7] رجال النجاشي، ص412، الحديث 1097.
[8] المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الخمس، ص158 إلى 159.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo