46/10/14
بسم الله الرحمن الرحیم
الخاتمة؛ الشرط الأول؛ البحثان/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /الخاتمة؛ الشرط الأول؛ البحثان
خاتمة حول شروط جریان الاستصحاب
الشرط الأول: بقاء الموضوع
تبقى لدينا بحثان:
البحث الأول: معيار بقاء الموضوع أو اتحاد القضيتين.
الشکّ في الحمل الأولي أو الحمل المترتّب ناشئ عن التغيير والاختلاف الذي طرأ على القضية، بحيث يُثار الترديد في اتحاد القضية المشكوكة والقضية اليقينية. ولتوضيح هذا البحث، لا بدّ من طرح بعض النقاط:
الأمر الأوّل: محل البحث جریان الاستصحاب في الشبهات الحكمیة
الشبهات الموضوعية:
في الشبهات الموضوعية، غالباً تكون القضية المشكوكة والقضية اليقينية متّحدتين من حيث الموضوع والمحمول، كالشکّ في قيام الرجل؛ حيث إن موضوع هذه القضية هو الرجل، ومحمولها هو القيام، وفي هذا الموضع لا يوجد اختلاف بين العرف والعقل.
ومع ذلك، قد يحدث اختلاف بين العرف والعقل، كما في مثال كُرّيّة الماء، فإذا نقص منه مقدارٌ ما، تكون القضية اليقينية والقضية المشكوكة مختلفة من حيث العقل، ولكنها متّحدة من حيث العرف.
نعم، لا يجري الاستصحاب في الحكم الجزئي، لأن الشکّ فيه ناشئٌ عن الشکّ في الموضوع، وجريان الأصل الموضوعي يغنينا عن جريان الأصل الحكمي.
ولكن، في حال عدم جريان الأصل الموضوعي، يأتي دور جريان الأصل الحكمي، وفي أغلب الحالات لا يوجد مانعٌ لجريانه، لأن القضية اليقينية والقضية المشكوكة غالباً ما تكونان متّحدتين، كما ذكرنا سابقاً. وهذا خلافاً لرأي المحقّق الخوئي الذي يقول:
«بل لایجري الاستصحاب في الحكم و لو لمیجر الاستصحاب في الموضوع لمانع كابتلائه بالمعارض، و ذلك لعدم إحراز بقاء الموضوع، فلمیحرز اتّحاد القضیة المتیقّنة و القضیة المشكوك فیها»([1] [2] ).
إيراد الأستاذ على المحقق الخوئي
أما كما بيّنا، فإن اتحاد القضية من وجهة نظر العرف يتحقق، وعدم تحققه من وجهة نظر العقل، كقضية كُرّيّة الماء، لا يُضرّ بتحقق الاتحاد العرفي. في هذه الحالات، إذا اعتبر العرف موضوع القضية اليقينية والمشكوكة واحداً، فيجب أن يُجري الاستصحاب، حتى لو كان هناك اختلاف من وجهة نظر عقلية. لأن الملاك الرئيسي في جريان الاستصحاب هو التشخيص العرفي، وليس العقلي. وبالتالي، إذا اعتبر العرف القضية متحدة، فسيجري الاستصحاب. ولكن إذا كان الموضوع مختلفاً من حيث العرف والعقل، في هذه الحالة لا يمكن تنفيذ الاستصحاب، وسيكون إيراد المحقق الخوئي وارداً.
هذا فيما يتعلق بالشبهات الموضوعية.
الشبهات الحكمية
أما في ما يتعلق بالشبهات الحكمية من جهة احتمال النسخ، فقد قال بعض الأعلام إن الاستصحاب في هذه الحالات لا يُجري. وقد شرح المحقق الخوئي هذا الموضوع بقوله:
«و أما إذا كان الشك في الحكم الكلي لاحتمال النسخ، فلايجري الاستصحاب فيه لأنّ النسخ بمعنى الرفع مستحیل في حقّه تعالى و النسخ بمعنى الدفع یرجع إلى الشك في حدوث التكلیف لا في بقائه، فلا مجال لجریان الاستصحاب فیه»([3] ).
لكن كما تم بيانه في التنبيه السادس، فإن هذا الرأي باطل. جريان استصحاب عدم النسخ يتوافق مع المبادئ المقبولة، والأدلة الأربعة التي تم طرحها لمنع جريان الاستصحاب قد تم دحضها بشكل مستدل سابقاً؛ وللمزيد من المعلومات، يمكن الرجوع إلى الشروح المقدمة في التنبيه السادس.
سبب قبول هذا الرأي هو أن الموضوع لم يتغير وما زال ثابتا؛ والاحتمال الوحيد المطروح هو وقوع النسخ. في مثل هذه الحالات، الأصل هو عدم النسخ، وبناءً عليه، يُجري استصحاب عدم النسخ. هذا الجريان يُظهر متانة مبدأ الاستصحاب في مثل هذه الحالات، حيث إن استمرار وحدة الموضوع، فإن الشك حول النسخ لن يمنع من تنفيذ الاستصحاب.
أما فيما يتعلق بالشبهات الحكمية غير المتعلقة بالنسخ، يقول المحقق النائيني:
«إنّ الغالب فیها اختلاف القضیتین، لأنّ الشك في بقاء الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان علیه من الخصوصیات لایمكن إلا في باب النسخ و أمّا في غیر باب النسخ، فالشك في بقاء الحكم غالباً أو دائماً یستند إلى انتفاء بعض خصوصیات الموضوع([4] )، فیحصل الاختلاف بین القضیة المشكوكة مع القضیة المتیقّنة، من غیر فرق في ذلك بین الأحكام الشرعیة المستكشفة من المستقلات العقلیة بقاعدة الملازمة و بین الأحكام الشرعیة المستكشفة من الأدلّة السمعیة التي لا سبیل للعقل إلى إدراكها، لاشتراك الكلّ في توقّف حصول الشك على انتفاء بعض خصوصیات الموضوع، و لذلك مسّت الحاجة إلى أخذ الموضوع من العرف و الرجوع إلیه في اتّحاد القضیة المشكوكة مع القضیة المتیقّنة، لاختلاف العقل و العرف و الدلیل في ذلك»([5] [6] ).
وهنا نصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا رأى العرف أن الموضوع في القضية المشكوكة والقضية اليقينية واحد، فإنه يمكن حينها إجراء الاستصحاب. أما إذا رأى العرف أن الموضوع في القضيتين مختلف، فإن الحكم الشرعي لا ينطبق عليه، وبالتالي، لا يمكن إجراء الاستصحاب. وبعبارة أخرى، يعتبر المحقق النائيني أن المعيار في تشخيص الموضوع هو العرف، ويعتقد أنه إذا اعتبر العرف أن الموضوع واحد، فإن الحكم يُطبق. ولكن إذا لم يُعطِ العرف هذا التشخيص، فإن إمكانية إجراء الاستصحاب تكون منتفية.
الأمر الثاني: المرجع في مفاهیم الألفاظ هو العرف العام
إن المرجع الأساسي في مفاهيم الألفاظ هو العرف العام، ولا اعتبار للتسامحات العرفية في تشخيص المصاديق. لم يرجعنا الشارع المقدس إلى القواميس أو العرف الخاص، بل بيّن أحكامه بناءً على العرف العام. لذا، المعيار هنا ليس المعنى اللغوي، لأن الكلمة قد تكون لها معنى معين في اللغة لكنها لا تُستخدم بنفس الشكل في العرف الحالي.
النقطة الجديرة بالاهتمام هي أن النقاش هنا يتعلق بحالة اختلاف بين المعنى العرفي العام والمعنى اللغوي. لا ينبغي أن يتوهم أن المعنى العرفي العام هو نفسه المعنى اللغوي. في الواقع، المقصود أن اللفظ في العرف العام لم يُستخدم بالمعنى الجديد بشكل مكثّف إلى درجة يُقال إنه انتقل بالكامل من معناه السابق. بعبارة أخرى، اللفظ لا يزال يحتفظ بمعناه الأولي، لكنه اكتسب في العرف استخداماً مختلفاً، وهذا الاستخدام هو الذي يُعتبر معياراً لتشخيص الأحكام الشرعية.
يقول المحقق النائيني:
«لا عبرة باللغة إذا كان العرف العامّ على خلافها، فإنّ الألفاظ تنصرف إلى مفاهیمها العرفیة بحسب ما ارتكز في أذهان أهل المحاورات، فعند تعارض العرف و اللغة في مفهوم اللفظ یحمل على المفهوم العرفي ... [و] لا عبرة بالمسامحات العرفیة في شيء من الموارد، و لایرجع إلى العرف في تشخیص المصادیق بعد تشخیص المفهوم، فقد یتسامح العرف في استعمال الألفاظ و إطلاقها على ما لایكون مصداقاً لمعانیها الواقعیة، فإنّه كثیراً ما یطلق لفظ الكرّ و الفرسخ و الحقّة و غیر ذلك من ألفاظ المقادیر و الأوزان على ما ینقص عن المقدار و الوزن أو یزید عنه بقلیل»([7] ).
لا ينبغي التغافل عن هذه النقطة، وهي أن القول بأن العرف العام هو المرجع في تحديد مفاهيم الألفاظ، وأن اللغة والعقل لا يتدخلان في هذا المجال، ينحصر فقط في إطار تشخيص المفاهيم والمعاني للألفاظ. فالعرف، بوصفه نظاماً اجتماعياً، يُعدّ المعيار الأساسي في فهم معاني الألفاظ، لأن الألفاظ تكتسب معانيها من خلال الاستخدام العرفي والمحاورات الشائعة. ولهذا السبب، فإن اللغة والعقل تابعان للعرف عند تحديد معاني الألفاظ، ولا يمكنهما إزاحة مكانة العرف.
لكن هذه القاعدة لا تسري في مجال تحديد المصاديق. ففي تحديد المصاديق، لا يمكن اعتبار العرف مرجعاً نهائياً، لأن العرف كثيراً ما يتساهل، وهذا التساهل يؤدي إلى وقوعه في أخطاء عند تشخيص المصاديق الحقيقية. قد ينسب العرف، بسبب التبسيط أو التسامح، مصاديق معينة إلى مفهوم ما، في حين أنها ليست مصاديق حقيقية لذلك المفهوم بناءً على الدقة العقلية.
على سبيل المثال، قد يعرّف العرف مقدار “الكُرّ” بشكل إجمالي وتقريبي، فيقول إن “الكُرّ” يُطلق على كمية كبيرة من الماء. ولكن عند تحديد مصداق “الكُرّ” بشكل دقيق، لا يمكن الاعتماد على هذا التعريف التقريبي أو التسامحي. فإذا قال العرف إن كمية من الماء تقلّ بقليل عن المقدار الحقيقي لـ"الكُرّ" تُعدّ أيضاً “كُرّاً”، فإن هذا التسامح العرفي ليس معتبراً في الفضاءات العلمية أو الفقهية. ففي هذه الحالات، يجب الرجوع إلى الدقة العقلية والمعايير الدقيقة لتحديد المصداق الحقيقي لـ"الكُرّ".
ولتوضيح هذه النقطة أكثر، لنفترض أن العرف يقول إن كمية من الماء تقلّ عن مقدار “الكُرّ” بمقدار لتر واحد يمكن أن تُعتبر “كُرّاً”. هذا النوع من الإطلاق العرفي ناشئ عن التسامح، ولا يمكن اعتماده، لأن مفهوم “الكُرّ” في الفقه له معيار دقيق يجب تحديده بناءً على العقل والحسابات الدقيقة.
وعليه، فإنه بالرغم من أن للعرف الدور الأساسي في تحديد مفهوم الألفاظ، فإن التسامحات العرفية ليس لها مكانة في تحديد المصاديق، ولا يمكنها أن تكون أساساً للقرارات الدقيقة والمبدئية. وفي مثل هذه الحالات، يُعدّ العقل المعيار النهائي الذي يحلّ محل العرف لتجنب الأخطاء الناتجة عن التسامحات العرفية، وليتم تشخيص المصاديق وفق معايير دقيقة.
الأمرالثالث: منشأ الشك في الحكم علی ثلاث صور
إنّ التغیّر و الاختلاف الذي هو منشأ الشك في الحكم على ثلاث صور:
الصورة الأولی: التغیّر في القید المقوّم للموضوع بنظر العرف
أن یكون التغیّر في القید المقوّم للموضوع بنظر العرف و حینئذ لا مجال لجریان الاستصحاب لتغیّر الموضوع حقیقةً و عدم اتّحاد القضیة المتیقّنة و القضیة المشكوكة في هذه الصورة، فلاتصدق هنا أخبار «لَاتَنْقُض».
الصورة الثانیة: التغیّر في القید الذي لا دخل له في ذات الموضوع بنظر العرف
أن یكون التغیّر في القید الذي هو من حالات الموضوع بحیث لمیكن دخیلاً في ذات الموضوع بنظر العرف، و لا شك في عدم كونه مقوّماً للموضوع و حینئذٍ لا إشكال في جریان الاستصحاب، لإحراز اتّحاد القضیة المتیقّنة و القضیة المشكوكة في هذه الصورة بنظر العرف، فتصدق هنا أخبار «لَاتَنْقُض» و تشمل المقام.
الصورة الثالثة: الشكّ في كون التغيّر مقوّماً للموضوع أو لا
أن یكون التغیّر و الاختلاف في القید الذي نشك في أنّه قید مقوّم للموضوع أو من الحالات التي لا دخل لها في قوام الموضوع، و هنا لایجري الاستصحاب، لأنّ احتمال مقومیته للموضوع یوجب عدم إحراز وحدة الموضوع في القضیة المتیقّنة و القضیة المشكوكة، فالتمسّك بالاستصحاب من قبیل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقیة لذلك العامّ.