46/08/16
بسم الله الرحمن الرحیم
تنبیهات الاستصحاب؛ التنبیه العاشر: الشك في تقدم الحادث و تأخره/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب / تنبیهات الاستصحاب؛ التنبیه العاشر: الشك في تقدم الحادث و تأخره
القسم الأول: حالة ترتب الأثر على الوجود (الحادثة) بمفاد “كان التامة”.
القسم الأول يتعلق بالحالة التي يترتب فيها الأثر، بمفاد «كان التامة»، على الوجود. الأثر هو موضوع الحكم. لدينا موضوعان للحكم: أحدهما موضوع الحكم بالإرث، والآخر موضوع الحكم بعدم الإرث. موضوع عدم الإرث هو أنه عندما يتوفى المورث (مثلاً الأب)، لا يكون الوارث (مثلاً الابن) قد أسلم في تلك اللحظة. في هذه الحالة، يصبح عدم إسلام الوارث في زمن موت المورث موضوعًا للحكم بعدم الإرث. أما موضوع الإرث فهو أن يكون الوارث مسلمًا في لحظة موت المورث؛ أي أن يكون إسلامه قد تحقق قبل وفاة المورث. في هذه الحالة، سيكون إسلام الوارث موضوعًا للحكم بالإرث.
في القسم الأول، يترتب الأثر، بمفاد «كان التامة»، على الوجود. هنا يجري الاستصحاب، ولكن ليس استصحاب وجود الموضوع، لأن الموضوع أمر وجودي وليس له حالة سابقة. بدلاً من ذلك، نجري استصحاب عدم تحقق الموضوع؛ لأن عدم تحقق الموضوع له حالة سابقة. بعبارة أخرى، نقول إن هذا الموضوع (إسلام الوارث) لم يكن موجودًا في الماضي، وباستصحاب، نثبت عدم تحقق الموضوع. وعليه، يُحدد الحكم الشرعي على هذا الأساس.
لهذا القسم صور متعددة، لأن الاستصحاب يجري أحيانًا في الطرف الآخر وأحيانًا لا يجري. إذا لم يكن للاستصحاب معارض، تنتهي المسألة. أما إذا كان هناك استصحاب آخر في مقابله، فإما أن يتعارض هذان الاستصحابان أو لا يتعارضان. في حالة وجود علم إجمالي بتقدم إحدى الحادثتين على الأخرى، يقع التعارض بين الاستصحابين، لأنه لا يمكن أن يكون كلاهما مؤخرًا أو مقدمًا في نفس الوقت. أما إذا كان هناك احتمال تقارن بين الحادثتين ولم يكن لدينا علم إجمالي بتقدم أو تأخر إحداهما، فلا يقع تعارض ويكون كلا الاستصحابين قابلين للجريان.
هذه الحالة في الموارد التي يوجد فيها احتمال تقارن بين الحادثتين، تشبه المباحث التي طُرحت في القسم الأول من مجهولي التاريخ.
القسم الثاني: حالة ترتب الأثر على الوجود (الحادثة) بمفاد “كان الناقصة”.
القسم الثاني يتعلق بحالة يترتب فيها الأثر على الوجود، ولكن ليس بمفاد «كان التامة»، بل بمفاد «كان الناقصة». هنا يوجد اختلاف في الرأي بين العلماء في جريان الاستصحاب. يعتقد صاحب الكفاية(قدسسره)[1] أنه في هذه الحالة، لا يجري الاستصحاب، لأنه لا توجد حالة سابقة. ويبين أنه بتحويل «كان التامة» إلى «كان الناقصة»، لا يتصل اليقين بالشك ويُفقد أحد أركان الاستصحاب، وهو اليقين السابق.
في المقابل، يعتقد المحقق الأصفهاني[2] والمرحوم الخوئي(قدسسرهما)[3] أنه في هذه الحالة أيضًا يمكن إجراء الاستصحاب. حسب رأيهم، توجد الحالة السابقة بنحو «العدم الأزلي». على سبيل المثال، كما يجري استصحاب العدم الأزلي في مسألة المرأة القرشية، يمكن هنا أيضًا الاستناد إلى نفس المبنى وقبول الحالة السابقة. وعليه، فإن اليقين السابق قائم بنحو «سالبة بانتفاء الموضوع» وأحد أركان الاستصحاب ليس مفقودًا.
ونتيجة لذلك، يرى صاحب الكفاية(قدسسره) أن أحد ركني الاستصحاب، وهو اليقين السابق، غير موجود ولا يجري الاستصحاب. أما المحقق الأصفهاني والمرحوم الخوئي(قدسسرهما) فيعتقدان أن اليقين السابق موجود بنحو العدم الأزلي وأن الاستصحاب قابل للجريان في هذه الحالة أيضًا.
القسم الثالث: حالة ترتب الأثر على العدم (الحادثة) بمفاد “ليس ناقصة”.
في القسم الثالث، يترتب الأثر على العدم، ولكن بمفاد «ليس ناقصة». هنا أيضًا يعتقد صاحب الكفاية(قدسسره) أنه لا توجد حالة سابقة وأن الاستصحاب لا يجري. ويبين أنه في هذه الحالة، لا يتصل اليقين بالشك ويُفقد أحد أركان الاستصحاب، وهو اليقين السابق. في المقابل، يرى المحقق الأصفهاني والمحقق الخوئي(قدسسرهما) أن الحالة السابقة موجودة بنحو «العدم الأزلي» وأن الاستصحاب قابل للجريان.
لتوضيح أكثر، كما يجري استصحاب العدم الأزلي في مسألة المرأة القرشية، يمكن هنا أيضًا الاستناد إلى هذا المبنى. كان صاحب الكفاية(قدسسره) قد قبل في بحث المرأة القرشية أن المرأة، قبل أن توجد، لم تكن امرأة قرشية (سالبة بانتفاء الموضوع). وعليه، يمكن هنا أيضًا الاستناد إلى نفس المبنى وقبول الحالة السابقة. وبناءً على هذا، يعتقد المحقق الأصفهاني والمحقق الخوئي(قدسسرهما) أن أحد أركان الاستصحاب، وهو اليقين السابق، قائم بنحو «العدم الأزلي» ويجري الاستصحاب.
القسم الرابع: حالة ترتب الأثر على العدم (الحادثة) بمفاد “ليس تامة”.
في القسم الرابع، يترتب الأثر على العدم، ولكن بمفاد «ليس تامة». هنا، النظرية المشهورة لدى الأصوليين هي التفصيل بين معلوم التاريخ ومجهول التاريخ. بمعنى أن الاستصحاب لا يجري في معلوم التاريخ، ولكنه قابل للجريان في مجهول التاريخ.
لتوضيح هذه النظرية، يُطرح مثال إسلام الوارث وموت المورث. إذا كان زمان موت المورث معلومًا (مثلاً، تحدد أن المورث توفي الساعة الثانية عشرة يوم الجمعة)، فلا يوجد شك في هذا الزمان. أما بخصوص إسلام الوارث، إذا لم يكن معلومًا هل أسلم قبل وفاة المورث أم بعدها، فيجري استصحاب عدم إسلام الوارث. وبهذه الطريقة، تكون نتيجة الاستصحاب أن الوارث لم يكن مسلمًا قبل وفاة المورث، وبالتالي يُحرم من الإرث.
النظرية المشهورة لدى الأصوليين: التفصيل بين معلوم التاريخ ومجهول التاريخ
تنص النظرية المشهورة لدى الأصوليين هنا على أن الاستصحاب لا يجري في معلوم التاريخ، مثل موت المورث، لأنه لا يوجد شك في زمانه. أما في مجهول التاريخ، مثل إسلام الوارث، فالاستصحاب جارٍ. في هذه الحالة، لجريان الاستصحاب، يجب استصحاب عدم إسلام الوارث، لأن الإسلام قابل للاستصحاب بنحو «العدم الأزلي». والنتيجة هي أن الوارث لم يكن مسلمًا قبل وفاة المورث ويُحرم من الإرث. ومن ناحية أخرى، فإن استصحاب عدم موت المورث حتى زمان إسلام الوارث غير قابل للجريان، لأن زمان موت المورث معلوم ولا شك فيه. هذا الموضوع هو وجه الإشكال في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ومجهول التاريخ.
بيان الشيخ الأنصاري(قدسسره)
يرى جمع من الأعلام، منهم الشيخ الأنصاري، وصاحب الكفاية، والمحقق النائيني، أن الاستصحاب لا يجري في الحالات التي يكون فيها أحد الحادثين معلوم التاريخ. بيان الشيخ الأنصاري(قدسسره) في هذا الصدد كالتالي:
«إن كان أحدهما معلوم التاریخ، فلایحكم على مجهول التاریخ إلا بأصالة عدم وجوده في تاریخ ذلك لا تأخّر وجوده عنه بمعنی حدوثه بعده. نعم یثبت ذلك على القول بالأصل المثبت.
فإذا علم تاریخ ملاقاة الثوب للحوض و جهل تاریخ صیرورته كرّاً، فیقال: الأصل بقاء قلّته و عدم كرّیته في زمان الملاقاة و إذا عُلم تاریخ الكرّیة حُكم أیضاً بأصالة عدم الملاقاة في زمان الكرّیة و هكذا.
و ربّما یتوهّم جریان الأصل في طرف المعلوم بأن یقال: الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعي للآخر و یندفع بأنّ نفس وجوده غیر مشكوك في زمانٍ، و أمّا وجوده في زمان آخر فلیس مسبوقاً بالعدم»[4] .
إذا كان أحد الحادثين معلوم التاريخ، فلا يُحكم على مجهول التاريخ بناءً على الاستصحاب إلا بأصالة عدم وجود الحادث مجهول التاريخ في زمن الحادث معلوم التاريخ». وبعبارة أخرى، يمكن فقط إثبات عدم وجود الحادث مجهول التاريخ في زمن الحادث معلوم التاريخ. أما تأخر الحادثة مجهولة التاريخ عن الحادثة معلومة التاريخ فلا يمكن إثباته إلا بالأصل المثبت.
لتوضيح المطلب، نطرح مثالاً: لنفترض وجود حوض أصبح كرًا يوم الجمعة. قبل ذلك، كان ماء هذا الحوض قليلاً. ذهبت إلى الحديقة يوم الجمعة، فتحت صنبور الماء وأصبح ماء الحوض كرًا. احتفظوا بهذه النقطة. من ناحية أخرى، من الواضح أنه تم غسل ثوب نجس تمامًا في هذا الحوض. الشخص الذي كان يملك مفتاح الحديقة يصرح بأنه غسل الثوب في هذا الحوض. ولكن ليس من الواضح هل تم هذا الغسل قبل يوم الجمعة أم بعده، أي عندما أصبح ماء الحوض كرًا. إذا تم الغسل قبل أن يصبح الماء كرًا، فبسبب قلة الماء، لن يُطهّر الثوب فحسب، بل سيتنجس الحوض أيضًا. أما إذا تم الغسل بعد أن أصبح الماء كرًا، فبسبب كرية الماء، سيُطهر الثوب ولن تحدث مشكلة.
هنا يمكن دراسة حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان تاريخ الكرية معلومًا، ولكن تاريخ الملاقاة مجهول، ففي هذه الحالة يمكن إجراء استصحاب عدم الملاقاة حتى زمن الكرية. بمعنى أنه حتى قبل أن يصبح الماء كرًا، لم تقع أي ملاقاة. وعليه، فإن ملاقاة الثوب بماء الحوض قد تمت بعد أن أصبح الماء كرًا، ونتيجة لذلك، الثوب طاهر. هنا أركان الاستصحاب كاملة، لأننا على يقين بأنه حتى زمن الكرية، لم تقع ملاقاة، والآن نشك في هذا الأمر.
الحالة الثانية: إذا كان تاريخ الملاقاة معلومًا، ولكن تاريخ الكرية مجهول، ففي هذه الحالة يمكن إجراء استصحاب قلة الماء حتى زمن الملاقاة. بمعنى أنه حتى زمن الملاقاة، كان الماء لا يزال قليلاً. وعليه، فإن ملاقاة الثوب بالماء القليل قد وقعت، ونتيجة لذلك، سيكون الثوب والحوض نجسين. هنا أيضًا أركان الاستصحاب كاملة، لأننا على يقين بأن ماء الحوض كان قليلاً حتى أصبح كرًا، والآن نشك في هذا الأمر. ونتيجة لذلك، فإن جريان الاستصحاب يعتمد على أي حادثة معلومة التاريخ وأي حادثة مجهولة التاريخ. إذا كان لدينا يقين بزمن الكرية وشك في زمن الملاقاة، يجري استصحاب عدم الملاقاة حتى زمن الكرية ولن يتنجس شيء. أما إذا كان لدينا يقين بزمن الملاقاة وشك في زمن الكرية، فيجري استصحاب قلة الماء ويُحكم بالنجاسة.
إشكال
يقول الشيخ الأنصاري(قدسسره) إن البعض يعتقد أن الأصل يجري في طرف المعلوم أيضًا. بمعنى أن الأصل هو عدم وجود الحادثة في الزمن الواقعي للآخر. هؤلاء الأشخاص يبينون أنه في الحالات التي ثبتت فيها الكرية لزمن الجمعة، لا ينبغي فقط إجراء أصل عدم الملاقاة حتى زمن الكرية، بل يجب أيضًا إجراء أصل عدم الكرية في زمن الملاقاة. في هذه الحالة، يتعارض هذان الأصلان ويسقط كلاهما. ونتيجة لذلك، بسقوط كلا الأصلين، يجب اللجوء إلى أصل عملي آخر. هذه النظرة ترى أن جريان الأصل لا ينبغي أن يكون من جانب واحد، ويجب دراسة كلا الطرفين.
يقول الشيخ الأنصاري(قدسسره) إن البعض يعتقد أن الأصل يجري في طرف المعلوم أيضًا. ويجيب على هذه النظرة مبينًا أن نفس وجوده ليس مشكوكًا في زمنه. بمعنى أنه عندما نكون على يقين من وقوع الكرية يوم الجمعة، لا شك لدينا في زمن وقوعها لنجري الاستصحاب. ووجوده في زمن آخر ليس مسبوقًا بالعدم. هذه النقطة دقيقة جدًا، والشيخ الأنصاري(قدسسره) يبيّن المطلب كله في جملتين قصيرتين.
لهذه المسألة فرضان:
الفرض الأول: عندما نقيس الكرية بالنسبة لزمانها. في هذه الحالة، زمان الكرية محدد ولا شك لدينا في وقوعها. على سبيل المثال، نعلم أن الكرية وقعت الساعة الثانية عشرة يوم الجمعة. وعليه، لا معنى للاستصحاب، لأننا على يقين بأنه قبل الساعة الثانية عشرة لم تكن هناك كرية، ومن الساعة الثانية عشرة فصاعدًا حصلت الكرية. في مثل هذه الحالة، لا يوجد أي شك لكي يجري الاستصحاب.
الفرض الثاني: عندما نقيس الكرية بالنسبة لزمان حادث آخر، مثل زمان ملاقاة الثوب النجس بماء الحوض. في هذه الحالة، على الرغم من أن زمان الكرية محدد (الساعة الثانية عشرة يوم الجمعة)، إلا أن زمان الملاقاة غير معلوم ولدينا شك فيه. نريد هنا أن نعلم هل كانت الكرية موجودة في زمن الملاقاة أم لا. هنا يوجد شك، ولكن الشيخ الأنصاري(قدسسره) يقول إن هذا الشك ليس له حالة سابقة. وبعبارة أخرى، لا يوجد يقين سابق لنتمكن من القول إن الكرية لم تكن موجودة في زمن الملاقاة سابقًا وهي ليست كذلك الآن.
يوضح الشيخ الأنصاري(قدسسره) أنه في هذه الحالة، تُقاس الكرية بالنسبة لزمان حادث آخر (مثل الملاقاة)، وهذه المسألة تشبه قضايا “كان الناقصة”. الحديث هنا ليس عن زمان الكرية نفسها، بل تُقارن الكرية بزمان حادث آخر. وعليه، ليس لهذه الحالة سابقة ولا يمكن إجراء استصحاب عدم الكرية في زمن الملاقاة. ويتابع الشيخ الأنصاري(قدسسره) مبينًا أنه في الفرض الأول، أركان الاستصحاب غير كاملة لعدم وجود شك. أما في الفرض الثاني، فعلى الرغم من وجود شك، إلا أنه لا يوجد يقين سابق. لهذا السبب، لا يجري الاستصحاب في هذه الحالة أيضًا. ويصرح بأن الكرية في زمن الملاقاة ليست مسبوقة بالعدم، لأنه قبل وقوع الملاقاة، لم تكن هناك ملاقاة أساسًا لنتمكن من القول إن الكرية لم تكن موجودة في ذلك الزمان. [5]
ونتيجة لذلك، يمكن تصور فرضين:
١. عندما نقيس الكرية بالنسبة لزمانها. في هذه الحالة، لا يوجد شك ولا يجري الاستصحاب.
٢. عندما نقيس الكرية بالنسبة لحادث آخر، مثل الملاقاة. في هذه الحالة، على الرغم من وجود شك، إلا أنه لا يوجد يقين سابق ولا يجري الاستصحاب أيضًا.
يصرح الشيخ الأنصاري(قدسسره) بأنه في الفرض الثاني، لا يوجد يقين سابق، وهذه المسألة من موارد “السالبة بانتفاء الموضوع”. ويؤيد المرحوم المحقق الأصفهاني(قدسسره) هذه النظرة أيضًا ويعرفها كحالة من حالات استصحاب العدم الأزلي. المستفاد من كلام الشيخ الأنصاري(قدسسره) هو أن جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ يكون بصورة أن أصل عدم وجوده يجري في زمن معلوم التاريخ. أما بالنسبة لمعلوم التاريخ، فلا يجري الاستصحاب، لأن وجوده في زمن آخر ليس مسبوقًا بالعدم. ونتيجة لذلك، لا يوجد يقين سابق هنا ولا تكتمل أركان الاستصحاب.
بيان صاحب الكفاية(قدسسره)
بيان صاحب الكفاية(قدسسره) في هذا الموضوع مشابه أيضًا. يقول سماحته:
«لو عُلم بتاریخ أحدهما، فلایخلو أیضاً إما یكون الأثر المهم مترتباً على ... و إمّا یكون مترتّباً على عدمه الذي هو مفاد لیس التامّة في زمان الآخر، فاستصحاب العدم في مجهول التاریخ منهما كان جاریاً، لاتّصال زمان شكه بزمان یقینه، دون معلومه لانتفاء الشك فیه في زمان، و إنّما الشك فیه بإضافة زمانه إلى الآخر، و قد عرفت جریانه فیهما تارة و عدم جریانه كذلك أخری»[6] .
إذا كان تاريخ أحد الحادثين معلومًا، فلا تخلو المسألة من حالتين. إما أن يترتب أثر مهم على عدمه الذي يشكل مفاد “ليس التامة” في زمن الآخر (وهو موضوع بحثنا)، وفي هذه الحالة، يجري استصحاب العدم فيما هو مجهول التاريخ منهما. على سبيل المثال، في مسألة إسلام الوارث، نجري استصحاب عدم إسلام الوارث. نقول إننا لا نعلم متى كان إسلام الوارث، وفي زمن موت المورث، نجري استصحاب عدمه. واتصال زمان الشك بزمان اليقين قائم أيضًا. أما في معلوم التاريخ، فلا يجري الاستصحاب. على سبيل المثال، في مسألة موت المورث الذي تاريخه معلوم (مثلاً توفي يوم الجمعة)، لا يجري الاستصحاب، لأننا لا نشك أبدًا في زمانه. الشك هنا يتعلق بزمان الحادثة الأخرى، أي هل كان موت المورث في زمن إسلام الوارث أم لا. هنا يوجد شك.
يقول صاحب الكفاية(قدسسره): أحيانًا يجري الاستصحاب وأحيانًا لا يجري. عدم جريان الاستصحاب في بعض الحالات يرجع إلى عدم وجود حالة سابقة وعدم وجود يقين سابق.
توضيح المطلب:
يجري الاستصحاب في مجهول التاريخ. بمعنى أنه يوجد يقين بالعدم المحمولي لإسلام الوارث في الماضي. وبعبارة أخرى، نحن على يقين من عدم وجود إسلام الوارث حين موت المورث، سواء كان هذا العدم أزليًا أو محموليًا سابقًا. هنا، لدينا علم بزمن موت المورث، ولكن زمن إسلام الوارث مجهول. نعلم أن موت المورث وقع يوم الجمعة، ولكننا لا نعلم متى وقع إسلام الوارث. موضوع الحكم والأثر هو عدم إسلام الوارث حين موت المورث، لأنه إذا لم يكن الوارث مسلمًا في زمن موت المورث، فإنه لا يرث. وعليه، نجري استصحاب عدم إسلام الوارث حتى زمن موت المورث ونستنتج أنه لا يرث.
على سبيل المثال، إذا وقع موت المورث يوم الجمعة وشككنا في أن إسلام الوارث قد وقع قبله (مثلاً الخميس) أو بعده (مثلاً السبت)، يجري استصحاب عدم إسلام الوارث في الأزمنة السابقة. بمعنى أننا نعلم أنه قبل الخميس، لم يكن الوارث مسلمًا وكان أرمنيًا. الآن نشك هل أسلم يوم الخميس أم السبت، ولكننا على يقين من وجود عدم إسلام الوارث في الأزمنة السابقة.
أركان الاستصحاب هنا تامة، لأن:
١. نحن على يقين من عدم وجود إسلام الوارث في الأزمنة السابقة (قبل يوم الجمعة).
٢. نشك هل استمر هذا الوضع حتى زمن موت المورث (يوم الجمعة) أم لا.
وعليه، نجري استصحاب عدم إسلام الوارث حتى زمن موت المورث ونستنتج أن الوارث لم يكن مسلمًا في زمن موت المورث ولا يرث.
أما الاستصحاب فلا يجري في طرف معلوم التاريخ. على سبيل المثال، لا يجري الاستصحاب في مسألة موت المورث، لأن موت المورث معلوم التاريخ (مثلاً توفي يوم الجمعة). واستصحاب عدم تحقق موت المورث في زمن إسلام الوارث لا مقتضي له أيضًا، لأن أركان الاستصحاب هنا غير تامة. والسبب في ذلك هو عدم وجود الشك اللاحق في هذا المورد.
موت المورث المعلوم التاريخ يعني أن:
• عدم موته قبل يوم الجمعة متيقن.
• موته يوم الجمعة وبعده متيقن أيضًا. وبعبارة أخرى، قبل يوم الجمعة، لم يتحقق موت المورث قطعًا، وبعد يوم الجمعة تحقق موته قطعًا أيضًا. وعليه، لا يوجد أي شك في تحقق الموت لنجري استصحاب عدمه في زمن إسلام الوارث.
يقول صاحب الكفاية(قدسسره): “لانتفاء الشك فیه فی زمانٍ”؛ تدل هذه العبارة على أن أحد أركان الاستصحاب، وهو الشك، مفقود هنا. في جميع الأزمنة المتعلقة بموت المورث، لا يوجد شك؛ سواء قبل يوم الجمعة أو بعده.
النتيجة:
يجري الاستصحاب في مجهول التاريخ، لأن أركانه تامة. أما في معلوم التاريخ، فلا يجري الاستصحاب، لأن الشك اللاحق مفقود واليقين السابق غير موجود.
هذا التوضيح هو أحد تفاسير كلام صاحب الكفاية(قدسسره)، وسيتم طرح تفاسير أخرى في المباحث القادمة.
بيان المحقق النائيني(قدسسره)
طرح المحقق النائيني(قدسسره) هذا المطلب نفسه أيضًا. يقول سماحته:
«إن كان أحدهما معلوم التاریخ كما إذا علم بموت المورّث في غرّة رمضان و شك في تقدّم إسلام الوارث على موت المورّث لیرث منه أو تأخّره عنه لیمنع عن الإرث([7] )، فالأصل في معلوم التاریخ لایجري، لأنّ حقیقة الاستصحاب لیس إلا جرّ المستصحب إلى الزمان الذي یشك في بقائه فیه، ففي كلّ زمان شك في بقاء الموجود أو حدوث الحادث فالاستصحاب یقتضي بقاء الأوّل و عدم حدوث الثاني؛ و أمّا لو فرض العلم بزمان الحدوث فلا معنی لأصالة عدمه؛ لعدم الشك في زمان الحدوث؛ مع أنّ الاستصحاب هو جرّ المستصحب إلى زمان الشك، فلابدّ و أن یكون في البین زمان یشك في بقاء المستصحب فیه، ففي معلوم التاریخ لا محل للاستصحاب.
و ما قیل من أنّ العلم بالتاریخ إنّما یمنع عن حصول الشك في بقاء المستصحب بالإضافة إلى أجزاء الزمان و لایمنع عن حصول الشك في البقاء بالإضافة إلى زمان وجود الحادث الآخر الذي هو محلّ الكلام، فإنّ محلّ الكلام إنّما هو فیما إذا كان الشك في تقدّم أحد الحادثین على الآخر؛ فیحصل الشك في وجود كلّ من الحادثین بالإضافة إلى زمان وجود الآخر، و بهذا الاعتبار یجري استصحاب عدم حدوث كلّ منهما في زمان حدوث الآخر فهو واضح الفساد؛ فإنّه إن أرید من لحاظ معلوم التاریخ بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر لحاظه مقیّداً بزمان حدوث الآخر، فهو و إن كان مشكوكاً للشك في وجوده في زمان وجود الآخر، إلا أنّه لاتجري أصالة عدم وجوده في ذلك الزمان، لأنّ عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقید كونه في ذلك الزمان لمیكن متیقّناً سابقاً فلایجري فیه الأصل، و إن أرید من لحاظه بالإضافة إلى زمان الآخر لحاظه على وجه یكون زمان الآخر ظرفاً لوجوده، فهو عبارة أخری عن لحاظه بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان و قد عرفت أنّه مع العلم بالتاریخ لایحصل الشك في وجوده في الزمان؛ فالأصل في معلوم التاریخ لایجري على كلّ حالٍ.
و أمّا في مجهول التاریخ فلا مانع من جریان الأصل فیه، للشك في زمان حدوثه، و الأصل عدم حدوثه في الأزمنة التي یشك في حدوثه فیها، و منها زمان حدوث معلوم التاریخ»[8] .
إذا كان أحد الحادثين معلوم التاريخ، كما في حالة العلم بموت المورث في أول شهر رمضان (مثلاً يوم الجمعة)، ولكن هناك شك في تقدم إسلام الوارث على موت المورث (ليرث منه) أو تأخره عنه (ليُمنع من الإرث)، فلا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ هنا. يوضح سماحته أن حقيقة الاستصحاب لا تجري في معلوم التاريخ، لأن الاستصحاب يعني سحب المستصحب إلى الزمن الذي يُشك في بقائه فيه. فالاستصحاب يكون له معنى عندما يكون هناك شك في بقاء الموجود أو حدوث الحادث في زمن ما. وعليه، يقتضي الاستصحاب بقاء الأول (الموجود السابق) وعدم حدوث الثاني (الحادث المشكوك).
أما إذا كان هناك علم بزمن الحدوث، فلا مكان للاستصحاب بعد الآن. لماذا؟ لأنه لا يوجد شك في زمن الحدوث. الاستصحاب يعني سحب المستصحب إلى زمن الشك، أي سحب ما كنا على يقين به سابقًا إلى زمن الشك. وعليه، فلا مكان للاستصحاب في معلوم التاريخ، لأنه لا يوجد شك في بقاء المستصحب.
توضيح المطلب:
يوضح المحقق النائيني(قدسسره) أن هذا الإشكال وجوابه قد طُرحا سابقًا، وأُشير إليهما في كلام الشيخ الأنصاري(قدسسره) أيضًا. يقول سماحته: العلم بالتاريخ يمنع من حصول الشك في بقاء المستصحب بالنسبة إلى أجزاء الزمان، ولكنه لا يمنع من حصول الشك في بقائه بالنسبة إلى زمن وجود حادث آخر.
وبعبارة أخرى، صحيح أننا نعلم أن الكرية أو موت المورث قد وقع يوم الجمعة، ولكننا نشك بالنسبة إلى زمن وجود حادث آخر مجهول التاريخ. فلا نعلم هل كانت الكرية أو موت المورث موجودين في زمن وجود الحادث الآخر أم لا.
محل البحث هو أنه إذا كان لدينا شك في تقدم أحد الحادثين على الآخر، فإن هذا الشك يسري إلى وجود كل من هذين الحادثين بالنسبة إلى زمن وجود الآخر. ولهذا السبب، يجري استصحاب عدم حدوث كل من هذين الحادثين في زمن حدوث الآخر.
أما في معلوم التاريخ، فلا يجري الاستصحاب. على سبيل المثال، إذا وقعت الكرية أو موت المورث يوم الجمعة، فلا شك لدينا بالنسبة إلى أجزاء زمانها (مثلاً يوم الجمعة). وعليه، لا معنى لاستصحاب عدم حدوثها يوم الجمعة. ولكننا نشك بالنسبة إلى حادث آخر (مثل إسلام الوارث) مجهول التاريخ.
يتابع النائيني(قدسسره) قائلاً: إن هذه النظرة القائلة بجريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالنسبة إلى زمن حادث آخر واضحة الفساد.
توضيح الإشكال: إذا كان المقصود هو اعتبار معلوم التاريخ بالنسبة إلى زمن حادث آخر وتقييده بزمن الحادث الآخر، ففي هذه الحالة، على الرغم من نشوء الشك في وجوده في زمن الحادث الآخر، إلا أن الاستصحاب لا يجري أيضًا. لماذا؟ لأن عدم وجود معلوم التاريخ في زمن الحادث الآخر ليس مسبوقًا بيقين سابق. وبعبارة أخرى، ليس له حالة سابقة، لأنه في ذلك الزمان، كان الموضوع منتفيًا. وعليه، لا يجري استصحاب عدم وجوده في زمن الحادث الآخر.
وإذا كان المقصود هو اعتبار معلوم التاريخ دون تقييده بزمن الحادث الآخر ومجرد اعتباره بالنسبة إلى أجزاء الزمان، ففي هذه الحالة لا يجري الاستصحاب أيضًا. لأنه لا شك لدينا بالنسبة إلى أجزاء الزمان (مثلاً يوم الجمعة). وعليه، في كلتا الحالتين، لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ. أما في مجهول التاريخ، فيجري الاستصحاب. في مجهول التاريخ، يوجد شك في زمن حدوثه. وعليه، يجري استصحاب عدم حدوثه في الأزمنة التي نشك في حدوثه فيها. على سبيل المثال، إذا لم نعلم هل وقع إسلام الوارث قبل يوم الجمعة (مثلاً الخميس) أم بعده (مثلاً السبت)، نجري استصحاب عدم حدوث إسلام الوارث ونستنتج أن إسلام الوارث لم يتحقق حتى زمن موت المورث.
خلاصة قول النائيني(قدسسره): وجه عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ هو:
١. إذا اعتبرنا معلوم التاريخ بالنسبة إلى زمن حادث آخر، يُفقد اليقين السابق.
٢. إذا اعتبرنا معلوم التاريخ بالنسبة إلى أجزاء زمانه، يُفقد الشك اللاحق. وعليه، لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ.
بيان المحقق الخوئي(قدسسره)
أشار المرحوم الخوئي(قدسسره) أيضًا إلى بيان هذه الآراء، فيقول:
«و أمّا عدم جریانه في معلوم التاریخ فقد ذكر صاحب الكفایة(قدسسره) له وجهاً و المحقّق النائیني(قدسسره) وجهاً آخر تبعاً للشیخ(قدسسره)، أمّا ما ذكره صاحب الكفایة(قدسسره) فهو ما تقدّم منه في مجهولي التاریخ من عدم إحراز اتّصال زمان الشك بزمان الیقین ... و أمّا ما ذكره العلامة النائیني(قدسسره) فهو أنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان متیقّناً في عمود الزمان و جرّه إلى زمان الیقین بالارتفاع، و لیس لنا شك في معلوم التاریخ باعتبار عمود الزمان حتى نجّره بالتعبد الاستصحابي ...»[9] .
عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ يرجع إلى أن الاستصحاب يعني الحكم ببقاء شيء كان متيقنًا في عمود الزمان وسحبه إلى زمن الشك. أما في معلوم التاريخ، فلا يوجد شك بالنسبة لعمود الزمان حتى نتمكن من سحبه بالاستصحاب إلى زمن الشك.
النتيجة: في معلوم التاريخ، لا يجري الاستصحاب، لأنه إما أن اليقين السابق غير موجود أو الشك اللاحق مفقود. في مجهول التاريخ، يجري الاستصحاب، لأن أركان الاستصحاب (اليقين السابق والشك اللاحق) تامة فيه. طُرح تفسيران لكلام صاحب الكفاية(قدسسره) سيتم تناولهما في الجلسة القادمة.