46/07/18
بسم الله الرحمن الرحیم
التنبیه العاشر؛ المقدمة؛ مناقشات خمس في هذه المقدمة/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب / التنبیه العاشر؛ المقدمة؛ مناقشات خمس في هذه المقدمة
جواب المحقّق النائیني(قدسسره) عن هذه المناقشة
في مقابل إشكال المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري(قدسسره)، يقدم المرحوم الميرزا النائيني(قدسسره) جوابًا محوره التمييز بين الاستصحاب السببي والاستصحاب المسبّبي.
يقول المحقق النائيني(قدسسره):
«وجود الإسلام المقارن للحیاة و إن كان مشكوكاً وجداناً و كان مسبوقاً بالعدم لامحالة إلا أنّه عبارة أخری عن الشك في وجود تمام الموضوع للإرث بعد العلم بعدم تحقّقه في زمان، و الأصل الجاري فیه لایمكن أن یعارَض به الأصل الجاري في ناحیة الجزء الذي هو مجهول التاریخ في المقام، فإنّ الشك في تحقّق تمام الموضوع إنّما یكون مسبّباً عن الشك في وجود الجزء و عدمه؛ ضرورة أنّه لو كانت الحیاة في زمان الإسلام معلومةً، لما كان یشك في وجود تمام الموضوع أصلاً، و حینئذٍ یكون الأصل الجاري في طرف الجزء بعد ضمّ الوجدان إلیه حاكماً على الأصل الجاري في طرف الكلّ، و لولا ذلك لما كان یجري الأصل في الجزء في شيء من الموارد أصلاً».[1] [2] [3]
يعتقد سماحته أن استصحاب عدم تحقق الموضوع المركب، الذي أشار إليه المرحوم الشيخ عبد الكريم(قدسسره)، لا يجدي نفعًا هنا، لأن موضوع هذا الاستصحاب يزول.
وسبب ذلك هو أن استصحاب الجزء، الجاري هنا، يكتسب حالة السببية بالنسبة لاستصحاب الكل. بمعنى أن الشك في كل الموضوع المركب مسبَّب عن الشك في جزئه. فعندما يرتفع الشك في الجزء، لا يبقى شك في الكل، ولن يكون استصحاب عدم تحقق الموضوع المركب قابلاً للتطبيق.
ويوضح سماحته(قدسسره) هذا المطلب بمثال: لو كانت حياة الأب في زمان إسلام الابن معلومة، لما بقي شك في تحقق تمام الموضوع. وعليه، عندما يجري استصحاب حياة الأب في زمان إسلام الابن، لا يبقى شك في وجود تمام الموضوع حتى يكون استصحاب عدم تمام الموضوع قابلاً للتطبيق. هذه الحالة تبيّن علاقة السببية والمسببية بين الاستصحابين.
وعلى هذا الأساس، يستنتج المرحوم الميرزا النائيني(قدسسره) أن الأصل الجاري في ناحية الجزء، بعد ضم الوجدان إليه، حاكم على الأصل الجاري في ناحية الكل. ويؤكد أنه لو لم يُقبل هذا الحكم، لما جرى الأصل في ناحية الجزء أبدًا، لأنه يمكن دائمًا إجراء أصل العدم في ناحية الكل. طُرح هذا الرأي للمرحوم الميرزا النائيني(قدسسره) كجواب على إشكال المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري(قدسسره).
إیراد المحقّق الخوئي علی جواب المحقّق النائیني(قدسسرهما)
أورد المحقق الخوئي(قدسسره) إشكالاً على رأي المرحوم الميرزا النائيني(قدسسره) فقال:
«إنّ الاستصحاب السببي إنّما یكون حاكماً على الاستصحاب المسببّي فیما إذا كانت السببیة شرعیة، كما إذا غسلنا ثوباً متنجساً بماء شك في بقاء طهارته، فإنّ طهارة الماء سبب شرعي لطهارة الثوب المغسول به، فباستصحاب الطهارة في الماء یرتفع الشك في طهارة الثوب، و هذا بخلاف ما إذا كانت السببیة عقلیة كما في المقام فلا حكومة لأحد الأصلین على الآخر»[4] .
لم يتم استخدام مفهوم “السببي” و “المسبّبي” هنا بشكل صحيح. يقول سماحته إنه في الأصل السببي والمسبّبي المطروح هنا، يجب أن تكون السببية شرعية حتى يكون الأصل السببي حاكمًا على الأصل المسبّبي.
ولتوضيح أكثر، نضرب مثالاً: لو شككنا في طهارة ماء، هل تنجس أم لا، ثم غسلنا بهذا الماء ثوبًا متنجسًا. في هذا المثال، سببية الماء الطاهر لتطهير الثوب هي سببية شرعية، لا تكوينية. أي إذا كان الماء طاهرًا، فإنه يتسبب في تطهير الثوب المتنجس، وهذه السببية هي سببية شرعية.
يقول المحقق الخوئي(قدسسره) إنه في مثل هذه الحالات، يجب أن يجري الاستصحاب في ناحية السبب (وهو طهارة الماء)، لأن السببية هنا شرعية. فعندما يجري استصحاب طهارة الماء، يرتفع شكنا في طهارة الثوب، لأننا نعلم أن الماء الطاهر يسبب طهارة الثوب.
أما إذا كانت السببية تكوينية (أي سببية عقلية)، فيقول المحقق الخوئي(قدسسره) إنه لن تقوم مثل هذه الحكومة بين الاستصحاب السببي والمسبّبي. ففي هذه الحالة، لا يكون الاستصحاب السببي حاكمًا على الاستصحاب المسبّبي.
وفي النهاية، يصل المحقق الخوئي(قدسسره) إلى نتيجة مفادها أن حكومة الاستصحاب السببي على المسبّبي لا تعتبر إلا حيث توجد سببية شرعية، لا في الحالات التي تُطرح فيها سببية عقلية.
مناقشة الأستاذ على المحقق الخوئي(قدسسره)
قبل بيان جواب المحقق الخوئي(قدسسره)، لا بد من التأكيد على نقطة لم تُذكر في التوضيحات السابقة. يشير المحقق الخوئي(قدسسره) إلى أنه في حال كانت السببية شرعية، فلن تكون هناك أي مشكلة في حكومة الاستصحاب. ولكنه يؤكد أننا نواجه هنا سببية عقلية، ويطرح هذه النقطة باعتبارها المشكلة الرئيسية. في هذا السياق، يرد نقد على المحقق الخوئي(قدسسره) مفاده أنه في الحقيقة، لا توجد هنا لا سببية عقلية ولا سببية شرعية، بل البحث يدور حول علاقة الجزء والكل. في هذه المسألة، طرح سماحته السببية العقلية خطأً، بينما المسألة الأساسية هي الجزء والكل، والجزء ليس سببًا للكل. لقد استخدم سماحته مصطلحات غير مناسبة.
جواب المحقّق الخوئي(قدسسره) عن المناقشة الأولی
يقول المحقق الخوئي(قدسسره):
«إنّه إذا كان عنوان المجموع المركب موضوعاً لحكم، فهو لامحالة عنوان بسیط لایمكن إثباته باستصحاب أحد الجزءین، مع قطع النظر عن المعارضة كما تقدّم و هو خارج عن محل الكلام.[5]
و أمّا إذا كانت ذوات الأجزاء دخیلة في الحكم و لمیكن لعنوان المجموع دخل فیه فلیس لنا شك في موضوع الحكم، إذ المفروض أنّ أحد الجزءین محرز بالوجدان و الآخر محرز بالأصل» [6] .
هذا البحث له صورتان:
الصورة الأولى:
في حال كان المجموع المركب موضوعًا للحكم، فيجب اعتبار هذه المجموعة عنوانًا بسيطًا. لأنه في هذه الحالة، يصبح مجموع الجزأين بشكل عام عنوانًا بسيطًا. وعليه، لا يمكن إثبات هذا العنوان البسيط من خلال استصحاب أحد الجزأين، لأن كل جزء يُعرف فقط كجزء من ذلك العنوان البسيط، لا كمركب مستقل.
يضيف المحقق الخوئي(قدسسره) أنه حتى لو كان المجموع المركب يتكون ظاهريًا من جزأين، فهو في الواقع عنوان بسيط ولا يمكن إثبات هذا العنوان البسيط بواسطة استصحاب أحد الجزأين. لأنه في نظر العرف، لا يُعرف هذان الجزءان بشكل مباشر ومستقل عن بعضهما البعض، بل إن هذا العنوان البسيط منتزع من جزأين خارجيين. وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن للاستصحاب أن يكون مجديًا.
حسب رأي المرحوم النائيني والمحقق الخوئي(قدسسرهما)، في مثل هذه الحالات، لا يمكن للاستصحاب وحده أن يكون مفيدًا. بينما يعتقد المرحوم صاحب الكفاية(قدسسره) أن الاستصحاب في مثل هذه الحالات مفيد جدًا ويمكنه أن يؤثر بشكل صحيح في منشأ الانتزاع. فوفقًا لرأي صاحب الكفاية(قدسسره)، الاستصحاب في منشأ الانتزاع يسبب ثبوت الأمر الانتزاعي وهذا لا يُحسب أصلاً مثبتًا. هذا الرأي لصاحب الكفاية(قدسسره) معقول من حيث إن الاستصحاب في منشأ الانتزاع يوجب إثبات الأمر الانتزاعي، دون أن يوجب أصلاً مثبتًا أو ملزومًا. وقد طُرح هذا الاختلاف في وجهات النظر بين المحقق الخوئي وصاحب الكفاية(قدسسرهما) في هذا المجال.
الصورة الثانية:
أما إذا كانت ذوات الأجزاء داخلة في الحكم ولم يكن للمجموع المركب دخل فيه، ففي هذه الصورة، لن يبقى شك في موضوع الحكم. والسبب في ذلك هو أن أحد الجزأين محرز بالوجدان والجزء الآخر محرز بالاستصحاب. في هذه الحالة، يكون الجزءان داخلين ولا يُطرح العنوان الانتزاعي كمجموع مركب. وعليه، في مثل هذه الحالات، يكون استخدام الاستصحاب بلا إشكال.
يبيّن المحقق الخوئي(قدسسره) في رده على هذا القول للمرحوم الشيخ عبد الكريم(قدسسره)، أن الاستصحاب هنا يجري في كلا الجزأين. وبهذا التوضيح، يحاول حل المناقشة الأولى فيقول: «لا يوجد هنا شك في موضوع الحكم؛ لأنه عندما يُحرز أحد الجزأين بالوجدان والآخر بالاستصحاب، فلا حاجة بعد ذلك لاستصحاب عدم تحقق موضوع الحكم». وبعبارة أخرى، يعتقد سماحته أنه في هذا الفرض، يزول الشك ولا يكون لاستصحاب عدم موضوع الحكم محل.
عدم جريان استصحاب الموضوع المركب
كان يجب على المحقق الخوئي(قدسسره) هنا أن يوضح لماذا لم يجرِ استصحاب عدم تحقق الموضوع المركب. وفي هذا الصدد، يبيّن أنه في هذه الحالة، لا يوجد أصلاً موضوع مركب بذلك المعنى. وبعبارة أخرى، الجزءان داخلان في ترتب الحكم بشكل مستقل، ولا يوجد عنوان مجموعي يحتاج إلى استصحاب. وعليه، لا يجري استصحاب عدم تحقق العنوان المجموعي.
يقول المحقق الخوئي(قدسسره): «لا يوجد هنا عنوان مجموعي حتى تجروا استصحاب عدمه. لأن ذوات الأجزاء نفسها داخلة في الحكم بشكل مباشر وليس لعنوان المجموع دخل». وبهذا البيان، يرد على المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري(قدسسره) بأن استصحاب عدم العنوان المجموعي هنا لا فائدة منه، لعدم وجود مثل هذا العنوان.
ويتابع قائلاً: «العنوان المجموعي الذي أجريتم استصحاب عدمه لا فائدة منه. ليس لدينا عنوان مجموع. هنا، يستند الحكم على جزأين مستقلين، لا على أساس عنوان المجموع». وبهذا التوضيح، يحاول المحقق الخوئي(قدسسره) رفع الشبهة وبيان أن استصحاب عدم العنوان المجموعي لا محل له هنا.
هذا هو جواب المحقق الخوئي(قدسسره) على المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري(قدسسره). وبهذا الاستدلال، يبيّن أن استصحاب عدم العنوان المجموعي في هذه الحالة لا معنى له، لأن الدخل في الحكم يتعلق فقط بذوات الأجزاء ولا دور لعنوان المجموع.
الملاحظة علی كلام المحقّق النائیني و المحقّق الخوئي(قدسسرهما)
قيل إن إشكال المحقق الخوئي على المرحوم النائيني(قدسسرهما) لم يكن إشكالاً مناسبًا. فقد بيّن أن السببية يجب أن تكون سببية شرعية، لا سببية عقلية؛ بينما لم يكن هنا أساسًا بحث عن السببية، فلا السببية الشرعية كانت مطروحة ولا السببية العقلية، بل كانت المسألة تدور حول الجزء والكل. من هنا، لا بد من الرد على مناقشة المحقق الحائري(قدسسره) بطريقة أخرى وبيان أن ملاكه كان: إذا وُجد استصحابان متعارضان وحكم أحدهما على الآخر ورفع الموضوع بشكل تعبّدي، يرتفع التعارض. لأنه في هذه الصورة، سيكون أحد الاستصحابين مقدمًا على الآخر.
أحد الموارد التي يكون فيها أحد الاستصحابين مقدمًا على الآخر هو مورد السببية الشرعية. أما المورد الآخر، فهو حيث لا تُطرح السببية أساسًا، بل يكون أحد الاستصحابين مقدمًا على الآخر طبعًا، مثل الجزء والكل. فعندما يطرأ الشك في ناحية الجزء والكل، يكون الاستصحاب في ناحية الجزء مقدمًا طبعًا على الاستصحاب في ناحية الكل. لأنه عندما يرتفع الشك في مرتبة الجزء، فإنه عند الوصول إلى مرتبة الكل، لن يبقى شك في وجود الكل. لأن الكل مركب من الأجزاء، وإذا تحقق الجزء، فسيتحقق الكل أيضًا بشكل طبيعي.
وبعبارة أخرى، عندما يُحرز في مرتبة الجزء، جزءٌ بالوجدان وجزءٌ آخر بالاستصحاب، فلن يوجد شك في مرتبة الكل. لأن كلا الجزأين قد تحققا والكل أيضًا يتحقق بشكل طبيعي. وعليه، فإن الاستصحاب في ناحية الجزء حاكم على الاستصحاب في ناحية الكل، لا من باب السببية، بل من حيث إن الجزء مقدم طبعًا على الكل.
تفصيل في المقام
يدور البحث هنا حول أن ذوات الأجزاء داخلة في الحكم وأن تمام موضوع الحكم هو عنوان المجموع، لا كعنوان بسيط، بل كعنوان مركب. لأن عنوان المجموع هو على شكل عنوان مركب وبحثنا في المركب. قيل هنا إنه لا شك لدينا في تحقق موضوع الحكم، لأن أحد الجزأين محرز بالوجدان والآخر بأصل الاستصحاب. لا يمكن تبرير هذه المسألة إلا من خلال التعبّد الشرعي. لأننا بالوجدان لا نشك في تحقق الموضوع؛ فالتعبّد الاستصحابي يلزمنا بالقول بأن الموضوع قد تحقق. وفي مقابل هذا، كان هناك تعبّد استصحابي آخر يقول بأن الموضوع المركب لم يتحقق.
لا مجال هنا للقول بعدم جريان الاستصحاب في الموضوع المركب. لأن الاستصحاب يجري في كل جزء من أجزاء المركب كما يجري في الكل. وعليه، فإن الاستصحاب يجري في جزء جزء أجزاء المركب كما يجري في الكل. من هنا، يجب تقديم جواب آخر. ولهذا السبب، يظهر الإشكال في هذا الجواب للمحقق الخوئي(قدسسره) عن المناقشة.
يمكن القول بأن جريان الاستصحاب في الجزء، بالنسبة إلى جريانه في الكل، ليس على نحو يبتني على الأصل السببي ويوجب تقدم استصحاب تحقق الجزء على استصحاب عدم تحقق الكل، من باب تقدم الاستصحاب السببي على المسبّبي. فلا توجد علاقة سببية في هذا المقام. مع ذلك، هناك نقطة أخرى جديرة بالانتباه: كما أُشير سابقًا، لا يُعتبر الجزء سببًا لتحقق الكل حتى يمكن الادعاء بأن حكومة الأصل السببي على المسبّبي تجري هنا.
النقطة الثانية هي أن الأصل في ناحية الجزء مقدم على الأصل في ناحية الكل، بمعنى أن الشك في تحقق الكل أو عدم تحققه يرتفع بعد رفع الشك في تحقق الجزء أو عدم تحققه. وهذا التقدم ناشئ من أن الجزء مقدم طبعًا على الكل. وهذا التقدم الطبيعي يكفي لإثبات حكومة الأصل في ناحية الجزء على الأصل في ناحية الكل. وبعبارة أخرى، تُطرح أولاً رتبة الجزء ثم رتبة الكل.
عندما تعتزم دراسة الكل، تكون قبل ذلك في ناحية الجزء قد أجريت استصحاب وجود الجزء والجزء الآخر أيضًا قد تحقق وجدانًا. وعليه، عندما تريد دراسة الكل وإحراز وجود الشك فيه أو عدمه، تكون قبل ذلك قد أجريت الاستصحاب في ناحية الجزء. ونتيجة لذلك، فإن الاستصحاب في الجزء مقدم على الاستصحاب في الكل وله حكومة عليه، ولكن هذا التقدم والحكومة ليسا من باب حكومة الأصل السببي على المسبّبي، بل بسبب التقدم الطبيعي.
خلاصة جواب الأستاذ على المناقشة الأولى
إذن، حُلَّ الجواب الصحيح على هذه المناقشة التي واجهها المرحوم النائيني(قدسسره) وهي مناقشة المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري(قدسسره). كان الشيخ عبد الكريم(قدسسره) يعتزم إجراء استصحاب عدم تحقق الموضوع المركب، لكننا في ناحية الجزء أجرينا استصحاب وجود الجزء وهذا الأمر طُرح كسبب. بتعبير النائيني(قدسسره)، هذا سببي، وبقول الخوئي(قدسسره)، لا تصل النوبة أصلاً إلى هذا المركب والمركب غير موجود.
حسب بياننا، لا تُحل هذه المسألة بشكل سببي، بل يُطرح تقدم الجزء على الكل. فيكون الاستصحاب في الجزء حاكمًا على الاستصحاب في ناحية الكل، ونتيجة لذلك، لا يجري الاستصحاب في ناحية الكل. هذا الجواب يحل مناقشة المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري(قدسسره) الأولى.
المناقشة الثانیة: يظهر من بعض الأعلام
المناقشة الثانية، التي طرحها المرحوم ضياء العراقي(قدسسره)، تتعلق بالفرق بين الوجود المحمولي والوجود الرابطي. في أصل البحث، طُرحت مسألة أن الاستصحاب لا يمكن إجراؤه إلا في الحالات التي يُحرز فيها جزء بالوجدان ويتصف الجزء الثاني بالوجود المحمولي، حتى يمكن إجراء استصحاب وجوده والالتزام به. أما إذا كان الوجود الرابطي مطروحًا، فلن يكون للاستصحاب تطبيق في هذه الناحية، لأن استصحاب الوجود المحمولي لإثبات الوجود النعتي يُعتبر أصلاً مثبتًا.
يقول المرحوم ضياء العراقي(قدسسره) في هذا الصدد: عندما يكون الموضوع مركبًا من جزأين، سواء بصورة مفاد كان التامة أو بصورة مفاد كان الناقصة، فمن الممكن أن يُحرز أحد الجزأين وجدانًا ويُحرز الجزء الآخر أيضًا، حتى لو كان مفاده رابطيًا. على سبيل المثال، إذا كان وجوده عدمًا رابطيًا أو كان مفاده كان الرابطية، فالاستصحاب قابل للتطبيق في هذه الحالات. ففي حالة العدم الرابطي، يمكن استصحابه بصورة العدم الأزلي. بالطبع، في حالة الوجود الرابطي، لا يجري الاستصحاب، ولكن في حالة العدم الرابطي، يمكن إجراء الاستصحاب بصورة العدم الأزلي.
وعليه، فإن هذا التصور بأن الاستصحاب لا يُطبق إلا حيث يكون مفاده كان التامة هو تصور غير صحيح. فالاستصحاب قابل للتطبيق أيضًا في الحالات التي يكون مفادها عدمًا رابطيًا، لأن العدم الأزلي يثبت استصحاب العدم الرابطي. وبعبارة أخرى، يمكن إثبات العدم الرابطي باستصحاب العدم الأزلي. وهذا القول منه يدل على أن نطاق الاستصحاب أوسع مما يبدو للوهلة الأولى.[7]
المناقشة الثالثة: الظاهر من صاحب الكفاية(قدسسره) [8]
المناقشة الثالثة، التي طرحها المرحوم صاحب الكفاية(قدسسره)، تشير إلى أن جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع يوجب إحراز الأمر الانتزاعي.[9] وهذه هي النقطة نفسها التي ذكرناها في الرد على الخوئي(قدسسره). فقد كان يقول إنه إذا أردتم إجراء الاستصحاب في ناحية الجزأين الخارجيين ثم تقولون إن الموضوع المركب قد تحقق، فيجب الانتباه إلى أن الموضوع المركب أمر انتزاعي وأن هذين الجزأين يُعتبران منشأ انتزاعه. في هذه الحالة، يعمل الاستصحاب في منشأ الانتزاع بالنسبة لإثبات الأمر الانتزاعي (أي الموضوع المركب) كأصل مثبت.
يقول المرحوم صاحب الكفاية(قدسسره) في هذا الصدد: لقد بينا سابقًا أن هذا ليس أصلاً مثبتًا، بل إن الاستصحاب في منشأ الانتزاع يوجب إثبات الأمر الانتزاعي دون الحاجة إلى أصل مثبت. على أي حال، لم يقبل النائيني والخوئي(قدسسرهما) هذا الرأي، لكن صاحب الكفاية(قدسسره) كان يقبله. ونحن أيضًا نعتقد أن رأي صاحب الكفاية(قدسسره) صحيح. وهذا البحث يُطبق بشكل خاص على العنوان البسيط ويمكن الاستفادة منه.
المناقشة الرابعة: من المحقق الإصفهاني(قدسسره)
يطرح المحقق الأصفهاني(قدسسره) مناقشة رابعة ويقول:
«إنّه .. مبني على مساوقة الناعتیة للرابطیة و مفاد كان الناقصة، مع أنّ وجود العرض ناعتي، سواء لوحظ محمولیاً و بنحو مفاد كان التامّة أو رابطاً و بنحو كان الناقصة فالمحمولیة مقابلة للرابطیة لا للناعتیة».[10]
لا تخلطوا المصطلحات؛ فأنتم تستخدمون الوجود النعتي بدلاً من الوجود الرابطي. في حين أن كل عَرَض له وجود نعتي، سواء كان مفاده كان التامة أو كان الناقصة. فإذا كان مفاده كان التامة، فإن وجود العَرَض نعتي، وإذا كان كان الناقصة، فوجوده نعتي أيضًا. وعليه، صححوا مصطلحكم. في مثل هذه الحالات، يجب استخدام الوجود الرابطي بدلاً من الوجود النعتي. الوجود النعتي هو وجود العَرَض الذي قد يُلحظ بصورة كان التامة فيكون وجودًا محموليًا، أو قد يُلحظ بصورة كان الناقصة فيكون في هذه الحالة وجودًا رابطيًا. إذن، الوجود النعتي أعم من أن يكون مفاده كان التامة أو كان الناقصة.
المناقشة الخامسة: من المحقق الإصفهاني(قدسسره)
المناقشة الخامسة للمحقق الأصفهاني(قدسسره) هي أنه يقول:
«لو سلّمنا أنّ مراده من الناعتیة هي الرابطیة على خلاف الاصطلاح، إلا أنّ الجزئیة للموضوع لاتقتضي الرابطیة، فیمكن أن یكون الموضوع مركباً من الجسم و بیاضه، لا من الجسم و كونه أبیض فالجزئیة غایة مقتضاها أنّه لو لمیكن البیاض لایترتّب الأثر، لا أنّه لو لمیكن الجسم أبیض لایترتّب علیه الأثر، حتّی یقال: لا یقین بالعدم الرابط»[11] .
حتى لو افترضنا أننا لا نورد إشكالاً على النعتية والرابطية التي ذكرتموها (مع أنكم تكلمتم خلاف الاصطلاح)، فإن الجزئية للموضوع لا تقتضي الرابطية. وبعبارة أخرى، إذا أحرزتم جزءًا بالوجدان وكان الجزء الآخر عَرَضًا واعتُبر جزءًا من الموضوع، فليس الأمر بحيث يجب أن يكون وجوده رابطيًا حتمًا. فمن الممكن أن يكون وجوده قد لُوحظ بنحو الوجود المحمولي.
على سبيل المثال، قد يتكون الموضوع المركب من الجسم والبياض، لا من الجسم وكون ذلك الجسم أبيض. لأنه عندما تقول الجسم والبياض، يكون وجود البياض بصورة محمولية، بينما وجود الأبيض (كونه أبيض) يكون بصورة رابطية. عندما تقول الجسم، يكون وجود الجسم بصورة محمولية، والبياض الذي هو عَرَض للجسم، يمكن أن يكون وجوده محموليًا أيضًا. وعليه، قد يتكون الموضوع المركب من جوهر كالجسم وعَرَض كالبياض بحيث لُوحظ وجود كليهما بصورة محمولية.
ومن ناحية أخرى، قد يكون الموضوع المركب هو الجسم الذي هو جوهر، وبدلاً من البياض، يُطرح بياض هذا الجسم (كون هذا الجسم أبيض). في هذه الحالة، يكون وجود البياض بصورة رابطية، لا محمولية. وعليه، فإن كلتا الحالتين ممكنتان: الوجود المحمولي والوجود الرابطي.
يؤكد المحقق الأصفهاني(قدسسره) أنه في الموضوع المركب، يوجد دائمًا احتمالان. فإذا كان أحد أجزائه مثلاً الجسم (جوهر) والجزء الآخر عَرَض، فيجب أن تعلم أن هذا العَرَض قد يكون لُوحظ بصورة الوجود المحمولي في الموضوع المركب أو بصورة الوجود الرابطي. وهذا التفريق والدقة في النظر يدل على عمق تحليل المحقق الأصفهاني(قدسسره) في المباحث الفلسفية والأصولية.
نقد على قول المحقق الأصفهاني واستظهار المحقق النائيني(قدسسرهما)
مع كل الاحترام الذي نكنه للمحقق الأصفهاني(قدسسره)، يجب الإشارة إلى نقطة كإشكال على قوله. كان المحقق النائيني(قدسسره) يقول: إذا كان للموضوع المركب جزآن، أحدهما محل أو جوهر والآخر عَرَض قائم بهذا الجوهر نفسه، فإنه يُستظهر هنا أن الوجود رابطي. وبعبارة أخرى، يميل ظاهر الأمر أكثر إلى أن يكون الوجود رابطيًا. وقد طُرح هذا الاستظهار من قبله. بالطبع، إذا كان الموضوع المركب يشتمل على جوهر وعَرَض غير قائم بهذا الجوهر، فيمكن هنا اعتبار الوجود المحمولي. أما إذا كان أحد الجزأين جوهرًا والجزء الآخر عَرَضًا قائمًا بهذا الجوهر نفسه، ففي هذه الصورة يجب لحاظ وجوده النعتي. هذا هو استظهار المحقق النائيني(قدسسره) ويبدو أنه استظهار جيد أيضًا.
قول المرحوم المحقق الأصفهاني(قدسسره) صحيح، لكن استظهار المحقق النائيني(قدسسره) هو أنه حيثما كان العَرَض لهذا الجوهر نفسه، يُستظهر أنه يجب لحاظ وجوده النعتي، لا وجوده المحمولي. هذا هو قول المحقق الأصفهاني(قدسسره) ويشير إلى هذا الجانب.
وبعبارة أخرى، يبدو أنه يمكن اعتبار الوجود المحمولي والوجود النعتي معًا، ولكن حيثما كان العَرَض للمحل (الجوهر)، يجب أن يكون الاستظهار باتجاه الوجود النعتي. هذه النظرة تخلق فرقًا دقيقًا بين وجهة نظر المحقق الأصفهاني والمحقق النائيني(قدسسرهما) وتدل على دقة نظر كلا العلمين في تحليل المسائل الفلسفية والأصولية.