« قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

45/10/29

بسم الله الرحمن الرحيم

لزوم بقية شروط البيع في المعاطاة.

الموضوع: لزوم بقية شروط البيع في المعاطاة.

 

وصلنا إلى ما عنونه الشيخ بعنوان التنبيه الاول في المعاطاة، وهو كما مر بنا ليس تنبيهاً تذييلياً بقدر ما هو بحث في صلب المتن، عنوان هذا البحث أو المطلب هو أنه هل يشترط في المعاطاة البيعية ما يشترط في البيع من بقية الشروط، فالمعاطا رفعنا اليد فيها عن اللفظ فقط أما بقية الشروط فهل لابد منها أو كما رفعت اليد عن اللفظ في المعاطاة البيعية كذلك ترفع اليد عن بقية الشروط والاحكام، فمثلاً العلم بالعوضين والتقابض في الصرف في مجلس البيع والربا المعاوضي والربا المعاوضي يغاير الربا القرضي يعني تتعاوض بين ميكل ومكيل وموزون مع موزون مع الأجل أو بدون الأجل تصير زيادة فيصير ربا معاوضي ويعبر عنه الربا المحرم غير الصريح، وهذا وارد حتى في الروايات يعني هو ربا ولكن بلفٍّ ودوران بخلاف الربا في القرض أو الربا في الديون يسمى بالربا الصريح أو الربا الواضح وهذا مذكور في الروايات وحتى في كلمات الفقهاء، فما حكم بقية شرائط الصحة المأخوذة البيع اللفظي فهل هي مأخوذة في المعاطاة البيعية أو لا؟، وهذا بحث حساس ومهم ونفس هذا الكلام يأتي في الاجارة وبقية العقود التي تجري فيها المعاطاة على القول بجريان المعاطاة في بقية العقود فهل يشترط فيها بقية الشروط أو ل.

واجمالاً هذا البحث تنقيحه حسب كلام الشيخ يعتمد على أنَّ المعاطاة هي بيع وإذا كانت بيعا فسوف يؤخذ فيها بقية شرائط البيع غاية الامر أنه رفعت اليد عن شرطية اللفظ أما بقية الشروط فهي تشترط والأحكام تترتب أو يقال إنَّ المعاطاة البيعية ليست بيعاً كما ذهب إليه المشهور وإنما هي تفيد الاباحة فمادامت ليست بيعاً فيحتمل أن يقال لا يؤخذ فيها شرائط البيع، فهل هذا التفصيل هو الصحيح - وهو أن يقال إذا بني على أنَّ المعاطاة بيع وتفيد الملكية فتشترط فيها شراط البيع وإذا بني على أنَّ المعاطاة ليست بيعاً ولا تفيد الملكية فلا يشترط فيها بقية الشرائط - أو لا؟ الشيخ يبدي أنه في الوهلة الأولى أنه هذا صحيح ولكنه يقول إنه بالدقة نستطيع أن نقول حتى لو بنينا على أنَّ المعاطاة ليست بيعاً ولا تفيد الملكية ولكن رغم ذلك نستطيع أن نقول إنَّ بقية الشرائط مأخوذة ولازمة فيها، ولماذا؟، وهنا توجد نكتة صناعية مهمة بغض النظر عن أنَّ هناك توافق فيها مع الشيخ أو لا ، فالشيخ يقول لو بنينا على مسلك المشهور من أنَّ المعاطاة ليست بيعاً وأنها لا تفيد الملك ولكن مع ذلك نشرط بقية شرائط البيع في المعاطاة فلماذا؟ يقرّب الشيخ الأنصاري هذا البحث - ومر بنا أمس مر بنا أنَّ هذا البحث ليس مختصاً بالمعاطاة البيعية بل وليس مختصاً في المعاطاة في العقود كمعاطاة الاجارة أو الهبة وأي معاطاة أخرى وإنما هو أوسع من ذلك وهو مرتبط بالعمومات الدالة على الشروط في المعاملات وهو بحث صناعي - فالشيخ يقول حتى لو بنينا على مسلك المشهور القائل بأنَّ المعاطاة ليست بيعاً ولا تفيد الملك وإنما تفيد الاباحة ولكن مع ذلك نلتزم بأنه لابد من تحقق بقية شرائط البيع، وقد قرّب الشيخ ذلك بعدة تقريبات - وهذا البحث كما مر الآن ليس خاصاً بالمعاطاة البيعية أو مطلق المعاطاة بل هو سيّال في كل العقود بغض النظر عن المعاطاة حتى العقود اللفظية والعقود المستجدَّة – فهو يقول إنَّ الأدلة الدالة على شراط البيع أو الناهية عن موانع البيع لم يؤخذ فيها البيع الشرعي وإنما أخذ فيها البيع العرفي، فحينما يقول الشارع الآن ( حرم الربا ) فأي ربا حرمه الشارع؟ ليس هو الربا الشرعي لأنه لا يوجد ربا شرعي، وكذلك حينما قال حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير والميسر فإنَّ الميسر هو القمار فأي ميسر هو المحرم فهل هو القمار الصحيح شرعاً فإنه لا يوجد عندنا قمار صحيح وضعاً وشرعاً، فالأدلة الناهية أو المانعة عن جملة من المعاملات أيَّ معاملةٍ أخذ في موضوعها؟ إنها ليست المعاملة الشرعية فإنَّ هذه المعاملة عرفية وليست شرعية، وهذا هو الذي مر علينا مرارا في بحث المكاسب المحرمة وهو أنَّ الشارع هو يريد أن يتصرف ويصحح ويرشّد الأعراف العقلائية لا أنه يقول للأعراف العقلائية والعقلاء ( لكم دينكم ولي دين ومن يريد أن يأتي في مسيرة البيئة الشرعية فهذه هي القوانين الشرعية )، وهذا هو الطرح العلماني الموجود الآن وقديماً فهم يقولون من يريد أن يلتزم بالشريعة فهذه هي ضوابط الشريعة ومن لم يرد ذلك فله ذلك كأن يجري المتعاقدان ذلك ولم يخصصا ولم يحصرا ارادتهما بالشرع فلو قالا نحن نتراضى فيما بيننا بغض النظر عن إذن الشارع ولكن نحن من باب المالكين لأموالنا ومن باب أنَّ الناس مسلطون على أموالهم نحن يرخّص بعضنا لبعض لا من باب الشرع وإنما من باب العقلاء فذلك لهم!! فإنه يوجد طرح من هذا القبيل وربما يأتي هذا في بعض كلمات الاعلام أيضاً ، ولكن هذه النظرية أو هذا التنظير غير صحيح لأنَّ الشرع حينما يقول حرم الربا فهذا يعني أنَّ الشرع نفسه يريد أن يتدخل في العقود، ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾[1] ، والإصر أو الاغلال هي الأعراف الاجتماعية الفاسدة فالشارع يردع عنها لأنها هي المكبّلة للتجمعات البشرية بالأمراض الاجتماعية أو ما شابه ذلك، الأمر بالمعروف النهي عن المنكر هو هذا معناه، والمقصود من إقامة العدل والحدود المقصود ليس خصوص العقوبات المقررة وإنما الحدود يعني نفس أحكام الله، كما ذكر القرآن الكريم ذلك في موارد عديدة، مثلاً في حقوق الزوجين :- ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[2] ، فإقامة حدود الله يعني إقامة احكامه، فإنَّ إقامة حدّ من حدود لله على الأرض أكثر بركة للأرض من مطر أربعين يوماً ، فهذه الطبيعة مبرمجة مع احكام الله عزَّ وجل فإن أقيمت احكام الله أكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، قال تعالى:- ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾[3] ، أما أنك لا تقيم احكام الله فسوف يأتي لك سيل فتذهب كل هذه الحضارة الزجاجية خلال أيام، فالله عزَّ وجل ربط هذه الأمور بحدوده فطرة الله التي لم يفطر الناس عليها فحسب بل فطر علها الكون كله لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم، فصحيح أنَّ الجد والمثابرة في عمارة الأرض ولكن عمارة الأرض الأعظم هي بإقامة احكام الله تعالى، وهذا جانب يؤيده القرآن الكريم ﴿ ليستعمركم فيها ﴾، فلا تظنوا أنَّ التصنيع والتقنية والتكنلوجيا هي كل شيء، كلا بل الشيء الأساسي والمهم هو ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ يعني سخرنا الطبيعة بكل برامجها ، وهذا لم يذكر في موضع واحد من الكتاب الكريم وإنما ذكر في مواضع متعددة، يعني أنَّ نظام الطبائع كلها في الأرض عي مرتبطة بأحكامه، أما أنك تبحث عن المعادلة الكيمياوية أو الفيزيائية لا يقول لك لا تنبحث عنها ولكن لن تصل إلى المعادلات الأم مهما فعلت، ولو اردت أن تصل إلى الاقتصاد الصحيح فاجلب الاقتصاد الشيوعي أو الاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي أو قانون التجارة الدولية أو اقتصاد البورصة ولكن كل هذه الاقتصادات لا تسمن ولا تغني من جوع إلا أن تأتي بحدود الاقتصاد الإسلامي، وهم قد اعترفوا بهذا فهم منذ خمسة عشر سنة يعانون من ازمة دولية عاصفة لا يستطيعون أن يستطروا عليها لا البنوك ولا البورصات ولا مؤسسة النقد ولا مراكز الدراسات التجارية والحسابية والاقتصادية ولا يستطيعون أن يتنبأوا بتداعياته لأنه عندهم القمار صحيح وغسيل الأموال صحيح والمحرمات الاقتصادية التي في القرآن كلها يستبيحونها فتلقائياً ينفرط منهم النظام الاقتصادي، فالقرآن الكريم يبين أنَّ هذا النظام الطبيعي كله اضربوا رؤوسكم بالجدار وبالصخر فلا يمكن اصلاح هذا وإنما هذا النظار برمجه الله تعالى أنه لو أحد حداً من حدود الله تعالى أي حكماً من أحكام الله لا حكومة الفقيه وهذا ليس له ربط حتى بشخص الفقيه وإنما نفس احكام الله تقام حكومة احكام الله حكومة احكام الله فإن هذه لا تلاعب فيها، الآن هم هدموا الاسرة فيعيشون انقراض، فلا يوجد تلاعب وهذا هو النسيج، فبالتالي ازدهار الأرض وازدهار السعادة المادية في الأرض مربوطة برمجياً في الخلقة بأحكام الله تعالى، كالغرف الجوي والثروة السمكية والثروة الحيوانية في المياه أو الثروة الحيوانية في البر أو الهواء أو الثروة النباتية فكل سلسة هذه الطبائع برمجها الله تعالى مع احكامه شئتم أم ابيتكم، فحكم واحد من احكام الله تعالى يقام في الأرض ولا يعطّل أكثر بركة على الأرض من مطر أربعين يوماً وبالتالي يكون خيراً وبركة، أما أننا لا نلتفت إلى ذلك أو علماء الزراعة لا يلتفتون إليه أو علماء الاحياء كذلك ولكن الله تعالى يبين ذلك.

فإذاً الشريعة لم تأت حتى تنأى عن العرف والعقلاء والحياة الأرضية بل جاءت لكي تتدخل وترشد الطبيعة البشرية لطريق السعادة المادية والمعنوية والأخروية وفي كل بعدٍ من ابعادها، واهتمام سلسلة الأنبياء هو بهذا الجانب، فحتى أصول التمدّن أتى به الأنبياء هذا بلحاظ الحضارات، مثل صنعت لبوسٍ عند داود، وادريس علم البشر الكتابة، فأصل العلوم حتى المادية هي من الأنبياء عليهم السلام ولكن ليس هذا بقدر إقامة احكام الله تعالى وحدوده، فتوهم أنَّ ﴿ وحرَّم الربا ﴾ لمن أراد أن يتقيد بالشرعيات أما من يسترضي المتعاقدان بينهما بالقمار وبنتيجة القمار ونتيجة الربا والنتيجة غسيل الأموال وهذه المحرمات الاقتصادية السرطانية التي حرمها الشارع فإذا استرضيا بعضهما البعض فقولون هذا جائز شرعاً فإن هذا ليس بصحيح، فلاحظ أنهم رجعوا إلى الشرع والحال أنَّ هذا غير صحيح بل قل هو جائز في شريعتهم العقلائية، أو يقولون إنَّ هذا الشيء ليس عليه عقوبة شرعية ولكن هذا غير صحيح أيضاً بل قل هو ليست عليه عقوبة عندهم، ولكن إذا اردت أن توجد فاصلاً بين الشرعية وبين سيرة العقلاء فلماذا في المآل تثبت أنها ثابتة شرعاً فإنك إذا أردت أن تثبت ذلك شرعاً فلابد إذاً من دخالة الشرع، فإذا حرم الربا وحرم بيع المنابذة وبيع المصافقة وحرم القمار وما شاكل ذلك من الآليات المحرمة يعني أنَّ هذه الموجودات العرفية يعتبرها الشرع غدداً سرطانية يجب أن تزال.

إذاً الوجود العرفي للمعاملات هو مورد نواهي المعاملات أو نواهي الشرع في الأبواب المختلفة لا الوجود الشرعي فإنه لا معنى أن يشرعن الشارع شيئاً ثم ينهى عنه، ولذلك السيد الخوئي افتى فتوى وهي متينة وفي محلها وتابعه عليها كل تلاميذه وهي صحيحة وهي أنك لو تعاملت معاملة ربوية مع بنك حكومي مع أن السيد الخوئي يرى أنه من جهة شرعية هذه المعاملة في نفسها غير ماضية بالحكم الأولي أصلاً المال هو مجهول المالك فإذاً لماذا تكون هذه المعاملة ربوية محرمة بحرمة الربا بشدة حرمة الربا عند السيد الخوئي؟ أصلاً هي معاملة صورية لأنَّ المفروض عدم وجود مالك معين وإنما هذا ليس تمليكاً والبنك لا يستطيع أن يملّك ذاك الشخص بل إما صدقات أو بطريقة أخرى ولكن هذا بحث آخر، فهذه معاملة صورية فكيف تكون هذه المعاملة محرمة بحرمة حقيقة عند السيد الخوئي وبشدة الحرمة؟ هنا هذه الفذلكة وعند السيد الخوئي فتاوى أخرى كلها مبنية على هذه النكتة الصناعية، فهو يقول صحيح أن البنك ليس مالكاً للمال وما يجري من قروض مثلاً بالحكم الأولي ليس بقرض فكل هذا صحيح ولكن هذا قرض عرفي بلا شك بغض النظر عن كونه ليس قرضا شرعياً صحيحاً فإنَّ القرض العرفي الربوي يحرمه الشارع فإن الشرع لم يحرم القرض الشرعي الصحيح فتحريم الربا القرضي أو الربا المعاوضي هو بوجوده العرفي لا بوجوده الشرعي ومن ثم جزماً هو حرام لا أنه احتياطاً واحتمالاً لأنَّ أدلة الحرمة لم يؤخذ فيها المعاملة الصحيحة وإنما أخذ فيها الوجود العرفي بغضّ النظر عن أنه يصححه الشارع أو لا يصححه فبالتالي يكون حراماً، كما أنه في مقابل أدلة الحرمة أدلة الصحة الشرعية - وقد مر بنا مراراً - أنَّ أدلة الصحة الشرعية ليس موضوعها الوجود الشرعي إلا صار تحصيلاً للحاصل - فإنَّ أحل الله شرعاً البيع الشرعي هو تحصيل للحاصل ولا معنى له - بل أحل الله البيع العرفي بحلّية شرعية، كيف أنه في أدلة الصحة الوجود العرفي وليس الوجود الشرعي كذلك الحال في المحرمات الوجود العرفي وليس الوجود الشرعي، فإنَّ معنى أنَّ أدلة الحرمة في الأبواب المعاملية وفي الايقاعات مثلاً الله عزَّ وجل حرّم الظهار فإنَّ الظهار طلاق جاهلي فهل هو حرّم الظهار الصحيح أو حرّم الظهار غير الصحيح؟ كلا بل اصلاً الظهار جاهلي ولم يمضه الشارع ولكن مع ذلك يحرّمه، يعني أنَّ الشارع يريد أن يتدخل في الأعراف ويقول هذا العرف اتركوه وامسكوا عنه، ومثل نكاح الشغار فقد حرمه الشارع ايضاً فمع أنه نكاح عرفي ولكن الشرع يريد أن يقف أمامه ويريد أن يقف أمام الكثير من الأمور في الأبواب، فأدلة الحرمة في الايقاعات أو في المعاملات أو في الاحكام - في مقابل العبادات في القضاء وغيره هذه الأدلة في أبواب المعاملات الايقاعات الاحكام بالمعنى الاعم الاحكام السياسية والقضائية وغيرها - حينما يحرّم الشارع يعني أنه يحرم هذه الوجودات العرفية التي فيها فساد ومرض اجتماعي في نظرة الدين، فهو يريد أن يقف امامها، فهو يحرما بوجودها العرفي لا أنَّ الشارع لا يتدخل في ذلك، بل هو يريد أن يتدخل.

وعلى وفق هذه النكتة الصناعية المهمة جداً، فلاحظ أنَّ هذه قاعدة مهمة ما هي أدلة الحرمة في الأبواب غير العبادات، وحتى في باب العبادات الشارع حرم على المرأة الصلاة في أيام الدورة الشهرية فهل هو حرم الصلاة الصحيحة؟ كلا فإنَّ الصلاة في أيام الدورة الشهرية ليست بصحيحة، فإذاً ماذا يعني أنه حرمها فحتى الصحة التأهلية ليست موجودة فإنها قد نهيت عنها فهي تكون فاسدة ومحرمة ذاتاً فلماذا يحرمها الشارع فأيّ صلاة يحرمها فهل الصحيحة؟ كلا، بل نفس هذه الصلاة بوجودها الصوري الكارتوني يقول الشارع أنها حرام، كما أنَّ القدماء التزموا - وهو صحيح - أنَّ الذي يصلي من دون وضوء فإنَّ هذا حرام تكليفاً وليس فقط حراماً وضعاً وتوجد في ذلك رواية معتبرة الطريق وقد افتى بها جملة من الاعلام حتى من المعاصرين أنه ( ألا يخشى بان تخسف به الأرض ).

فالمقصود أنَّ هذه نكتة صناعية مهمة جداً في العبادات وتستطيع أن تقول في كل أبواب الفقه وهي أنَّ أدلة الحرمة تأخذ الوجود العرفي أو قل التكويني إن كان تكوينياً أو العرفي أن كان عرفياً أو الاعتبار العرفي إن كان اعتباراً عرفياً بل قد تأخذ أدلة الحرمة ليس الوجود العرفي أو الوجود التكويني فقط وإنما تأخذ الوجود الاعتباري عند المتعاقدين، فمثلاً بعض المعاملات الكثير من العرف لا يقرها أصلاً إلى الآن إلا الشاذّ منها، فبعض الأعراف عندهم أن اجارة الدعارة باطلة - هذا في الكثير من الأعراف الصحيحة من البشر - ولكن بعضهم لم يحرم الدعارة ولا يحضرها قانونياً وإنما يحظر ويحرم اجارة الدعارة المافيوية التي تقوم بها العصابات والإرهاب مثلاً ولكن مع ذلك ربما يقوم بشر بارتكاب هذا المحرم عرفاً فهل يحرّمه الشارع؟ نعم هو يحرمه وإن لم يكن له وجود عرفي ولكنه له وجودٌ عند المتعاقدين، فهذا الوجود الانشائي الاعتباري حتى عند المتعاقدين وأن لم يقر به العرف ويفسده يمنع منه الشارع.

وبعبارة أخرى: - المحظور عقلائياً ما هو موضوعه؟ إنه موضوعه ليس هو الصحيح شرعاً وإنما هو الموجود العرفي، أما المحظور عقلائياً موضوعه هو الموجود عند الافراد، فالحرمة الشرعية تتناول حتى هذا الوجود عند المتعاقدين - عند الافراد - كما أنَّ المحظور عقلائياً موضوعه الموجود عند المتعاقدين - عند الافراد - وهذه نكتة لطيفة، يعني أن الشارع لا أنه يعالج الأعراف العقلائية الفاسدة فقط بل يصد الأعراف الفاسدة افرادياً ولو شذَّ بها افراد، فبالتالي على هذه الصناعة المهمة في الأبواب كلها في المحرمات سواء كانت محرمات وضعية أو تكليفية فعلى طبق هذه القاعدة النفيسة جداً هي تعطينا فلسفة غايات وفقه مقاصد الشريعة، فإنَّ مقاصد الشريعة أن تتدخل الشريعة في الأعراف سواء الأعراف الفردية أو الأعراف النوعية العقلائية أو أي اعراف فالشارع يهيمن ويسيطر ويتدخل في كل الأعراف ولو الفردية وبالتالي يريد أن يستصلحها ويقف امامها. هذه النكتة كفلسفة تشريع لها ارتباط ببحث نظرية المعرفة والحداثويات والدين وخلود الدين ولها ارتباط بالبحث الفقهي الاستدلالي في الفروع وارتباطها هو أنه يلزم أن نلتفت إلى أنَّ الشارع حينما ينهى عن البيع الغرري يعني أنه ينهى عن البيع الغرري العرفي أو حتى البيع الافرادي الغرري، فالشرائط للبيع والموانع للبيع الآتية من المحرمات هي شاملة للمعاطاة البيعية وإن لم تكن صحيحة شرعاً، فلو قال العرف لا تتعاملوا معها فإنَّ هذا يمنع، فمن ثم الشيخ اتكأ على هذا وقال حتى لو بنينا على مسلك المشهور - من أنَّ المعاطاة البيعية ليست بيعاً شرعاً ولا تفيد الملكية - ولكنها بيع عرفاً ومادامت هي بيع عرفاً فهنا يتدخل الشارع في النواهي والموانع.

والشيخ عنده وجوه أخرى لهذا المطلب وليس هذا الوجه فقط وإن كان هذا الوجه متين وهو مرتبط حتى بأصل الايمان بالشريعة وهذه نكتة مهمة، هذا في الموانع.

ولكن ماذا عن الشروط؟ الكلام فيها هو الكلام، فالشارع حينما يتدخل في الشروط يعني يريد أن يقول إنَّ عديم الشرط أنا أفسده ومعنى افسده يعني انهى عنه وأمنع عنه، فإذاً الكلام عند الشرع واحد سواء كان في الموانع أم في الشروط الوجودية، وهذا تقريب متين قويم للشيخ، وعنده تقريبات أخرى سنذكرها ثم نذكر بقية الأقوال في هذا البحث وبقية الوجوه سواء كانت موافقة أو مخالفة للشيخ.


logo