46/10/08
/ كتاب الخيارات (1)/المعاملات
الموضوع: المعاملات / كتاب الخيارات (1)/
*قول الماتن: (كتاب الخيار)*
ينبغي التَّنبيه على أمرَيْن قبل الكلام عن أنواع الخيار، وأحكامه:
الأوَّل: في معنى الخيار، وهو لغةً بمعنى الخِيَرَة -بكسر الخاء، وفتح الياء والرَّاء- أي المشيئة في ترجيح أحد الطَّرفَيْن، وهو اسم مصدر لـ (اختار)، والمصدر هو (الاختيار).
وأمَّا اصطلاحاً، فقد عرِّف ببعض التَّعاريف:
منها: أنَّه عبارة عن ملك فسخ العقد، كما عن جماعة من المتأخِّرين.
ومنها: ما حُكي عن المتقدِّمين، أو عن كثير منهم، أنَّه عبارة عن ملك إقرار العقد وإزالته بعد وقوعه مدَّةً معلومةً.
واختاره أيضاً بعض المتأخِّرين، وهو الأقرب.
وقد أُشكل على كلٍّ من هذَيْن التَّعريفَيْن ببعض الإشكالات.
ولكن ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ هذه التَّعاريف لا تعدو كونها تعاريف لفظيَّة، وليست تعاريف حقيقيَّة -أي بالحدّ والرَّسم التَّامَيْن- حتَّى يُشكل عليها طَرْداً وعَكْساً.
بل المقصود منها: شرح الاسم وتعريفه بلفظ أوضح، كما في تعريف السَّعدانة مثلاً: بأنَّها نبت.
وعليه، فالخوض في الإشكال على التَّعاريف يعدُّ مضيعةً للوقت.
ثمَّ إنَّ الفرق بين الخيار المبحوث عنه هنا، والخيار في الهبة، أو في العقود الجائزة، بشكل عامّ: هو أنَّه في الهبة -وفي كلِّ عقدٍ جائز- يكون مَنْ له الخيار -كالواهب في الهبة مثلاً- قادراً على فسخ العقد وتركه، ولكن لا قدرة له على إسقاط خياره في الفسخ، فلو قال: أنا أسقط خياري في فسخ العقد، والرُّجوع في الهبة، فلا يقبل منه، بل الخيار باقٍ، أي له الرُّجوع عن الهبة.
والسِّرُّ فيه: أنَّ جواز الفسخ في العقود الجائزة هو حكم شرعيّ، وليس حقّاً ثابتاً له يستطيع التَّنازل عنه؛ إذ ليس الأمر بيده، بل هو بيد الشَّارع، وهذا بخلاف الخيار هنا -أي في العقود اللَّازمة- فإنَّ له إسقاط خياره، بحيث لا يستطيع بعد ذلك فسخ العقد؛ وذلك أنَّ الفسخ وعدمه حقٌّ له، وليس حكماً شرعيّاً خارجاً عن قدرته.
الأمر الثَّاني: ذكر جماعة من الأعلام -منهم العلَّامة (رحمه الله) في جملة من كتبه- أنَّ الأصل في البيع اللُّزوم.
قال (رحمه الله) في التَّذكرة: الأصل في البيع اللُّزوم؛ لأنَّ الشَّارع وضعه مفيداً لنقل الملك من البائع إلى المشتري، والأصل الاستصحاب، والغرض تمكُّن كلّ من المتعاقدَيْن من التّصرُّف فيما صار إليه، وإنَّما يتمُّ باللُّزوم ليأمن من نقض صاحبه عليه[1] .
أقول: الأصل هنا يطلق على أربعة احتمالاتٍ:
الأوَّل: أن يكون المراد منه الظَّنّ الرَّاجح الحاصل من الغلبة، احتمله المحقِّق الثَّاني (رحمه الله) في جامع المقاصد، أي أنَّ الغالب في أفراد البيع اللُّزوم، فإذا شككنا في بعض أفراد البيع أنَّه جائز أو لازم فنلحقه بالغالب.
ويشكل على ذلك من حيث الصُّغرى والكبرى:
أمَّا الصُّغرى، فلم يثبت أنَّ أغلب أفراد البيع لازمة، بل الظَّاهر أنَّ أغلب أفراده جائزة من جهة خيار المجلس، وخيار الشَّرط وخيار الحيوان ونحوها.
وأمَّا من حيث الكبرى، فلا دليل على حجيَّة هذه الغلبة، بل حال هذه الغلبة أقلّ بمراتب من حال الاستقراء النَّاقص، وبما أنَّ الاستقراء النَّاقص ليس بحجَّة، كما هو معلوم، فالغلبة ليست بحجَّة من باب أولى.
الاحتمال الثَّاني: أن يكون المراد بالأصل المعنى اللُّغويّ، بمعنى أنَّ وضع البيع في أصل اللُّغة وبنائه عرفاً وشرعاً على اللُّزوم، لا على الجواز، وإن ثبت الجواز في جملة كثيرة من أفراده.
أقول: لا يبعد هذا الاحتمال؛ لأنَّ السِّيرة الإسلاميَّة على لزوم أفراد البيع، ولم ينهَ الشَّارع عن ذلك، بل أمضاه.
نعم، ثبت بدليل خاصّ الجواز في كثير من الموارد، كما في خيار المجلس، وخيار الحيوان، وخيار الشَّرط، ونحو ذلك.
الاحتمال الثَّالث: أن يكون المراد بالأصل القاعدة المستفادة من العمومات والإطلاقات الَّتي يجب الرُّجوع إليها عند الشَّكّ، فإنَّه يستفاد منهما اللُّزوم، كما في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}.
وقدِ استُفيد اللُّزوم أيضاً من الرِّوايات الكثيرة الَّتي منها قوله (صلى الله عليه وآله) المؤمنون عند شروطهم، ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): النَّاس مسلَّطون على أموالهم، ومنها قوله (صلى الله عليه وآله): لا يحلُّ مال امرءٍ إلَّا بطيب نفسه.
وتوضيح الاستدلال بهذه الأدلَّة:
أمَّا الآية الأُولى -وهو قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}-: فقد دلَّت على وجوب الوفاء بكلِّ عقدٍ.
والمراد بالعقد في الآية الكريمة: العهد، كما فسّرت به في صحيحة عبد الله بن سنان المرويَّة في تفسير عليّ بن إبراهيم، حيث قال: حدَّثني أبي عن النَّضر بن سُويد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، قال: بالعهود [2]
وهي في الواقع صحيحة، لكن جرى الاصطلاح على تسميتها بالحسنة.
وفي تفسير العياشيّ عن ابن سنان قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزَّوجلّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، قال: العهود [3]
ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ولا يخفى عليك أنَّ العهد يطلق على العقد، وبينهما عموم وخصوص مطلق؛ إذ كلُّ عقدٍ عهدٌ، وليس كلُّ عهدٍ عقدٌ.
قال في مجمع البيان في تفسير هذه الآية الكريمة: في بحث اللُّغة: يُقال: وفى بعهده، وفاء، وأوفى إيفاء بمعنى، وأوفى لغة أهل الحجاز، وهي لغة القرآن والعقود: جمع عقد بمعنى معقود، وهو أوكد العهود، والفرق بين العقد والعهد أنَّ العقد فيه معنى الاستيثاق والشَّدّ، ولا يكون إلَّا بين متعاقدَيْن، والعهد قد ينفرد به الواحد، فكلُّ عهد عقد، ولا يكون كلُّ عقد عهداً...[4] .
والظَّاهر أنَّ هناك تقديماً وتأخيراً -كما أشار إليه المعلِّق- فمراده: كلُّ عقدٍ عهدٌ، وليس كلُّ عهدٍ عقداً.
ثمَّ ذكر عدَّة أقوالٍ في تفسير الآية الكريمة.
ثمَّ قال: وأقوى هذه الأقوال قول ابن عباس: إنَّ المراد بها عقود الله الَّتي أوجبها الله على العباد في الحلال، والحرام، والفرائض، والحدود...[5]
وهكذا قال الشَّيخ الطُّوسيّ (رحمه الله) في تفسيرها، حيث ذكر أنَّ أقوى هذه الأقوال قول ابن عباس.