« قائمة الدروس
الأستاذ السید محمدتقی المدرسي
التفسير

46/03/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان بين العقل والسعي

الموضوع: الإيمان بين العقل والسعي

 

تمهيد 1: سنة السعي بين الروح والمادة

من سنن الله في الخليقة أن جعل الرزق معلقاً بالسعي، وهذه السنة تصاحب الإنسان وترافقه في كافة شؤونه، فلو أراد أن يأكل شيئاً فان عليه أن يسعى إليه وقد جهز المال لذلك، ثم يحتاج إلى سعيٍ آخر لكي يرفع اللقمة إلى فمه، هذه المعادلة لا تقتصر على الجوانب المادية فقط، بل تنسحب الى الجوانب الروحية أيضاً، فمثلاً الصلاة مع وجوبها على المكلفين إلا أنها بحاجة إلى سعيٍ ليس في جانبها الشكلي كالوقوف أو الركوع أو السجود بل في جانبها الروحي كذلك فلابد من أن تكون معراجاً للمؤمن، وقرباناً لكل تقي[1] ، وتصل به الى الفلاح الذي قال عنه الرب تبارك وتعالى: ﴿ قَد أَفلَحَ ٱلمُؤمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[2]

ولكي يسعي الإنسان بالصلاة إلى المراتب العليا فإنه بحاجةٍ إلى تذكر أنه إذا وقف بين يدي الله وكبر تكبيرة الإحرام ونزهه تعالى فإنه يتقرب إليه، وإذا غفل ولم يتذكر بين يدي من هو، فإن هذه الصلة تنقطع بالرغم من أن الظاهر قد يكون سليماً، والالتفاف بمعنى أن يخرج من الصلاة بروحه، وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عانه قال: وإنّما لِلعَبدِ مِن صلاتِهِ ما أقبَلَ علَيهِ مِنها بقَلبِهِ[3]

تمهيد 2 سعي الروح نحو الكمال:

ثم لا يقتصر الأمر على الصلاة بل إن برنامج التكامل يتعداها إلى كل ما يرتبط بالروح من أمور معنوية كالدعاء فإننا نرى هذا الحث العام فيما ورد من أدعية عن أهل البيت عليهم السلام والتي منها دعاء كميل الوارد عن أمير المؤمنين ع ففي إحدى المقاطع يقول: يا رب يا رب يا رب قوِ على خدمتك جوارحي واشدد على العزيمة جوانحي وهب لي الجد في خشيتك ودوام الاتصال بخدمتك حتى أسرع اليك في في ميادين السابقين. وورد في دعاءٍ آخر عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام المعصوم ع قال: وان الراحل إليك قريب المسافة وإنك لا تحتجب عن خلقك الا ان تحجبهم الاعمال دونك فهذا السعي الداخلي الذي ذكر في هذين الدعائين يعكس الطموح والرغبة لتحقيق أفضل نتائج القرب من ساحة الرب تبارك وتعالى

كيفية سعي العقل؟

والعقل ليس بمنأىً عن هذه السنة الالهية بل هو جزء منها وهو الذي قال عنه الرب تبارك وتعالى كما في الحديث عن الباقر عليه السلام قال: لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا اكملك إلا فيمن أحب أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب ولكن مع ذلك رغم من جعل الكمال التام يخص اولئك الذين يحبهم الله الا ان باب التكامل لبقية الخلق مفتوح من خلال معرفة العقل وجنده والجهل وجنده كما جاء في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام انه قال اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، بلى، إذا تم تنمية العقل وجنده فإنها ستكون العون للعقل في حربه ضد الجهل، وللوصول إلى الكمال من خلال الارادة ودون الاستسلام للضغوط، والعقل خلقه الله سبحانه وتعالى لاجل ان يُفعّل بالتفكير وهو ما اكدت عليه الروايات والتي منها ما ورد عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: كثرة النظر في العلم تفتح العقل. ونجد الدعوة إلى إثارة العقل في آيات القرآن الكريم في سورة الروم المباركة التالية:

 

التفكر في العلاقات الأسرية

قال تعالى: ومن اياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون.

بصائر الآية:

الأولى: إن الله خلق الإنسان وخلق له من يشاطره حياته من نفس بني آدم الذين كرمهم الله ولم يرضَ لهم دون ذلك أن يتنزلوا بمستواهم إلى مستويات حيوانية، ولا أن يُغيروا خلق الله، بل جعل حالة من الإنجذاب بين الذكر والأنثى وهي الأساس في تكوين هذه العلاقة بين الزوجين من خلال هذه الغريزة التي جعلها الله فيهما ومن يخالف هذا يعتبر شاذاً!

الثانية: إن الله تعالى جبر حالة الضعف لدى البشر من خلال سنة الزواج ثم خصهم بميزة تميزهم عن غيرهم من سائر الأحياء ألا وهي حالة مودة التي يتبادلها الزوجان والرحمة التي قد تكون منهما جميعاً أو من أحدهما ثم خصهم أيضاً بالسكينة التي تُنسيهم صعوبات الحياة ومتاعبها المختلفة وهذا قد لا يكون موجوداً لدى كل الكائنات الحية.

الثالثة: إن هذه الآية التي جعلها الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مزيدٍ من التفكر والتأمل لكي يعرف الإنسان هذه العلاقة، ففي قوله تعالى: ﴿ومن آياته﴾ وقوله: ﴿إن في ذلك لآيات﴾ دعوة حقيقية للتفكر في هذه السنة، فهل يا تُرى نجد مصنعاً واحداً يُنتج شيئين مختلفين في آنٍ واحدٍ كما يخلق الله من الزواج ولداً أو بنتاً أو توأمين أجسادهم مختلفة وأمزجتهم متغايرة؟

 

كيف ينظر العقل إلى الإختلاف؟

قال تعالى: ﴿ومن اياته خلق السماوات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لايات للعالمين﴾.

بصائر الآية

الأولى: ليس كل من ينظر إلى السماء أو يسير في الأرض يسمى عالما، ولا كذلك من يعرف بأن لدى البشر لغاتٍ مختلفة أو ألوان مختلفة، بل إن العالم هو الذي يعرف أن لهذا الإختلاف حكمة تتمثل في تكامل البشر.

الثانية: إن من ينظر في مخلوقات السماء يجد أنها تتفاعل مع مخلوقات الأرض لتحقيق هدف يعود على الإنسان، فمثلاً من يشاهد القمر يجد هناك علاقة بين حركته وبين ما يحدث من مد وجزر في البحار، بالإضافة إلى أنه يتصل بالإنسان وما يرتبط بشؤونه الخاصة بشكل مباشر، ومن جهة أخرى فإن من يتأمل في جاذبية الأرض يجد أنها لو زادت لكان الناس أقزاماً، ولو نقصت لكانوا عمالقة، وهكذا في بقية الأمور التي يُعمل الإنسان فيها فكره، وأما الجاهل فإنه لا يفهم من هذا شيئاً ويبقى في ظلمات الجهل احقاباً!

النوم استراحة الدماغ من اجل التفكير

قال تعالى: ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله. ان في ذلك لايات لقوم يسمعون

 

بصيرة الآية

تتواصل آيات الله في فتح مدارك الانسان واستثارة عقله ومنافذ علمه لعله يلتفت إلى ما حوله، ومن ذلك تذكيره بآية النوم التي يحتاجها الجسم ولا يمكن له الاستغناء عنها لأنها راحة للأبدان، كما جاء في الحديث الشريف أيضاً عن الإمام الصادق ع: النوم سلطان الدماغ وهو قوام الجسد وقوته، ثم يتأمل كيفية حدوث النوم، وما الذي يجرى له في حالة النوم؟ ويتأمل من جهة أخرى النهار بوصفه وقتٌ للعمل وطلب الرزق، وبعد ذلك يربط هذا بآيات الله في خلقه حيث وصف نفسه بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم ولعل مجيء قوله تعالى: ﴿لقوم يسمعون﴾ بيان أن من يستفيد من رؤى الآيات هو الذي يسمعها ويتفاعل معها.

العقل والآيات الآفاقية

قال تعالى: ﴿ومن اياته يريكم البرد خوفا وطمعا. وينزل من السماء ماء فيحيي به الارض بعد موتها. ان في ذلك لايات لقوم يعقلون﴾

بصيرة الآية

ترابط الخليقة مع بعضها يثير الانسان لإكتشاف حكمة هذا الترابط، فالبرق مثلاً حينما يصاحبه صوت الرعد يُفزع الإنسان، ولكن مع فزعه هذا فإنه يستبشر ويطمع بما تحمله لمعات البرق من دلائل على نزول المطر الذي به قوام الحياة وديمومتها وعودتها بعد الموت مرة أخرى. هذا من جانب ومن جانب اخر فان البرق له فوائد اخرى تتصل بالتربة لأجل تحسين الانتاج الزراعي من خلال اندم ذرات الاكسجين مع ذرات الهيدروجين مع ذرات النيتروجين لإنتاج الآزوت الذي تعتمد عليه النباتات في نموها، وفهم هذا الترابط بحاجة إلى عقلٍ يجمع شتاتها وعقلاء يستخلصون منها معارف ترفع الحجب والغشاوات عن أعين الناس ليزدادوا معرفةً وايماناً.

الخلاصة: في هذه المجموعة من الآيات انتهت كل آية منها بالتذكير بنوافذ المعرفة. قال تعالى: ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وقوله: ﴿ان في ذلك لآيات للعالمين﴾. وقوله تعالى: ان في ذلك لآيات لقوم يسمعون. وقوله: ﴿ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾.

فالإنسان بحاجة الى الفكر والعلم والسماع والعقل. فمن يفكر يحصل على العلوم ومن يحصل على العلوم فان علمه يدعوه الى جمع علوم الاخرين الى علمه. ثم بعد ذلك حفظها عقالها بالعقل الذي ورد في الرواية أن: أعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله.


[1] إشارة إلى حديث الامام أمير المؤمنين (ع): (الصَّلاةُ قُربانُ كُلِّ تَقِيٍّ) بحار الأنوارج79، ص310.
[3] وسائل الشيعة ج5، ص470.
logo