« قائمة الدروس
الأستاذ السید محمدتقی المدرسي
بحث الفقه

45/11/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الحج من أعظم نعم الله/آيات الحج/فقه القرآن

الموضوع: فقه القرآن/آيات الحج/الحج من أعظم نعم الله

﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)﴾

التحول من الشرك إلى الأيمان

في اكثر من سورة كسورة البقرة، وآل عمران، والحج، ربنا يبين حكمة الحج وأحكامه، ولعل هذه الأيات من سورة الحج، هي صفوة الأيات المرتبطة بالحج.

وقبل ان نستفيض في ذكر الأيات، وما نستفيده منها تجدر بنا الإشارة إلى بصيرة هامة جداً، وهي أن تحول الانسان من الشرك إلى الأيمان، تحوّلٌ عظيم، فكما أن المسافة بين التراب والإنسان السوي مسافةٌ طويلةٌ جداً، وقد قطعناها بإرادة الخالق سبحانه، الذي خلقنا من طينٍ لازب، كذلك فإن المسافة بين الشرك والأيمان بعيدة والتحول من حالة الشرك، والجهل، والضلالة، والخضوع، والتسليم لخلق الله، إلى الأيمان بالله وحده، فالأيمان بالله يعني التحرر من كل وسيلة، وضغط، وفتنة، والعروج في مدارج الكمال، وهذا التحول أعظم من تحول الانسان من الحالة الترابية إلى الانسانية، وهذا التحول صعبٌ؟

لأن الله سبحانه قد شاءت حكمته، أن يكون هذا التحول بارادة الانسان، وهذا فضل من الله على الانسان أن يجعل له دوراً في هذا العمل العظيم، ولكن هذا لا يعني أنه يكله لنفسه كليّاً، بل يدعوه ويوفّر له أسباب الهدأية، ومن ثم يؤيده وينصره بعد أن يتخذ الإنسان بنفسه قرار الإستجابة لنداء الفطرة.

وهذا التحول اذا كان يرتبط بانسان واحد كبيرٌ وعظيم، فكيف اذا تعلّق بأمةٍ كاملةٍ؛ بأن تتكرس قيمة التوحيد، والعدل، والمساواة، والقيم الاخرى فيهم؟

والله سبحانه وتعإلى قد بين لنا، وسائل هذا التحول، والتي منها الحج، وإقامة الصلاة، وأيتاء الزكاة، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويبدو أن الحج محور التحول إلى الأيمان، كما يقول تعإلى: ﴿وكذلك جعلناكم امة وسطى﴾ حيث جاءت هذه الأية في سياق الحديث عن الكعبة المشرفة، والحج مرتبطٌ بالكعبة، على الرغم من أن حكمة وجود الكعبة أعم من الحج وحده، فالصلاة للكعبة، وقد جعلها الله قياماً للناس.

وهكذا ينبغي أن يتحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع توحيدي، وإلهي يرفض الشرك، وكل أنواع العبودية لغير الله سبحانه، ولكن السؤال: هل نجح الاسلام، ورسالة النبي صلى الله عليه وآله في تكوين هذه الأمة؟

بلى، ولكن لا يعني ذلك أننا وصلنا إلى الكمال، بل نحن الآن في الطريق إلى الكمال، وهذا الكمال سوف يتحقق بظهور الإمام الحجة عجل الله فرجه الشريف، فيظهر الله بيده دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

ولكن هذا لا يعني أن الكمال لا يمكن السعي نحوه، إذ أن اخلاق الشرك لازالت موجودةٌ ومتجذرة في النفوس _وإن لم يظهرها الناس لتعسّر ذلك في ظل قيَم التوحيد ومظاهره_ إلا أنها تبقى قابعة في النفوس ولابد أن يتم اقتلاع تلك الجذور كلياً، وهذا حكمة من حكم الحج.

مكان البيت

﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾

التفسير الشائع عند المفسرين، (بوأنا) بمعنى وطأنا، والبواء المكان المستوي، أي مهدنا ورتبنا المكان، لكي يأتي ابراهيم، وكأن ربنا بوء لإبراهيم مكان البيت، وقال له هذه علامات البيت، وحدود.

وتفسير اخر، وهو أن الله سبحانه، هيّأَ لإبراهيم أن يكون عند البيت، وليس البيت نفسه، يعني في مكان البيت، وضعنا له مكان، والدليل على ذلك كلام ابراهيم (عليه السلام)، حينما يقول: ﴿ربنا اني اسكنت من ذريتي وبوادي غير ذي زرع عند بيتك المحرم﴾ بوأنا يعني مكان بيت الله، النبي وضع اهله هناك، ولعل هذا اشارة إلى هذا الموضوع.

حمل ابراهيم أهله، وكلما مرّ بمكانٍ سأل جبرئيل هل هذا المكان محل نزوله، فكان الجواب يأتي بالنفي، حتى وصلا إلى وادٍ غير ذي زرعٍ، وكان البيت الحرام موجوداً، وابراهيم جدد بنائه، وعند المفسرين رأي مخالف، فيقولون ان جبرائيل جاء، وحدد وقال هذا الطول والعرض وغيرها وهذا المكان، وقيل بمجيء عاصفةٍ قويةٍ حملت التراب في المنطلقة فتبينت حدود الكعبة.

وكيف كان، عرف إبراهيم مكان البيت الذي عليه أن يشيّد قواعده، بأمرٍ من الله سبحانه، ولكن ما هي الرسالة التي نستفيدها نحن من هذه الآية؟

لعل الرسالة تكمن في أن البيت يحتاج إلى مشيّد، كما أن المسجد بحاجة إلى إمام جماعة، كذلك فالدين لا يقام إلا بالإمام، وقد قال ربنا سبحانه: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمهّن قال إني جاعلك للناس إماماً) بياناً لهذه الحقيقة، ولكن كيف تكرّست هذه الإمامة؟

من أبعاد تكريس إمامة إبراهيم عليه السلام للأمة التوحيدية، هو تشريع الحج، ومحورية البيت الحرام، فبات موقع هجرة ابراهيم قبلةً للمسلمين ومجمعاً لهم.

التطهير من الشرك

﴿لا تشرك بي شيئا﴾

والمحور من جميع الاوامر الإلهية لإبراهيم السابقة هو قوله ( لا تشرك بي) فالشرك بحاجة إلى إزالة وتطهير، وعملية التطهير صعبة، ومن ملامح التطهير من الشرك تطهير البيت من كلّ ما يسهم في الإشراك بالله سبحانه.

فلا تشرك بي شيئاً، يعني عدم جواز اشراك الآلهة، والمال، والجاه، والسلطان، وعدم جواز الخضوع لغير الله سبحانه.

﴿وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)﴾

تقديم الطواف على سائر العبادات، قد استفيد منه استحبابه اكثر من غيره عند البيت، فيقدم الطواف على الصلاة .

والقيام لله، أي بالعبادة والدعاء، وعادةً يكون الدعاء في حال القيام، ولكن مع ذلك فقد ذكر الركّع السجود، للإشارة إلى الصلاة بين يدي الله سبحانه.

النداء إلى الحج

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾

أمرٌ إلهي لإبراهيم بالدعوة إلى الحج، والأذان يعني الإعلان والإعلام، وبدعوة إبراهيم سيستجيب الناس رجالاً أي مشاةً، أو على مراكبهم التي تضمر لبعد الطريق .

وهنا بصائر:

الأولى: الدعوة إلى الله يقوم بها الإنسان، ولكن الذي يبلّغها الى مبلغها هو الله سبحانه، فعليك أن تقوم بدورك في الدعوة،والله يحقق ذلك إن قمت به، فلا يظنن أحدٌ أنه هو الذي يغيّر الواقع بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بل الله سبحانه يفعل ذلك ولكن بعد الأمر والنهي _وأداء الفرض_، وهذه النقطة مهمةٌ في العمل الديني والرسالي، فالعامل في سبيل الله يقوم بتهيئة المقدمات، وسائر الامور بيد الله سبحانه.

الثانية: توحيد الله وعبادته، والعمل الصالح، أمرٌ فطريٌ في الإنسان، فقد فطر الله الناس على التوحيد، ومن هنا فإن من يدعو إلى الله سبحانه فإنه يدعو إلى تلك الفطرة، ويؤيده الله سبحانه ويسدد خطاه.

الثالثة: تقديم المشي على الركوب، يفيد ارجحيته، وقد دلّت النصوص الشريفة على هذا الأمر أيضاً، حيث الثواب العظيم على المشي إلى الحج، كما جرت سنة العترة عليهم السلام على هذا الأمر.

من حِكم الحج

﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)﴾

أولاً: شهادة المنافع

الشهادة تعني الإستحضار، فنعم الله على الإنسان كثيرة ولكن لا يعرفها غالباً إلا إجمالاً، ولكن حين يستحضر تلك النعم يشهدها، فما هي تلك المنافع التي يشهدها الناس في الحج؟

قد تكون الأنعام حيث يأكل منها ويستفيد منها، كما قد تكون منافع مادية أخرى، وقد أشارت النصوص الواردة أن المنافع هنا منافع الدنيا والآخرة.

ومن منافع الدنيا، أن جمعاً كبيراً من المسلمين يجتمعون في موطنٍ واحدٍ، فسوف يتم التشاور فيما بينهم بما يطوّر من وضع مجتمعهم، وتتسامى نفوسهم ويخرجوا من الأطر الضيّقة لبيئتهم المحدودة إلى رحاب الأمة الإسلامية كلها.

ثانياً: ذكر الله سبحانه

ذكر الله سبحانه فرضٌ وأجر، فمن خلال ذكر الله سبحانه يستفيدوا المنافع العظيمة والأجر الجزيل.

ثالثاً: التطهير من التفث

وهو إشارة إلى التطهير المادي من الأقذار، بالحلق والتقصير، وقد اشارت بعض النصوص التأويلية إلى أنه يكون بلقاء الإمام.

 

logo