الأستاذ السید محمدتقی المدرسي
بحث الفقه
45/10/19
بسم الله الرحمن الرحيم
بصائر الآيات القرآنية عن مكة وشعيرة الحج/مباحث تمهيدية/آيات الحج
الموضوع: آيات الحج/مباحث تمهيدية/بصائر الآيات القرآنية عن مكة وشعيرة الحج
قال الله سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ﴿وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ﴿رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[1]
بصائر عدّة نستفيدها من هذه المجموعة من الآيات في سورة البقرة، نشير إلى أهمها:
البصيرة الأولى: قيمة الأمن
يقصد من الأمن تارةً سلامة الجسم، وأخرى سلامة المجتمع، وثالثةً يراد به الأمن العالمي بين الناس جميعاً، فمن أين وكيف يبدأ الأمن العالمي؟
إنما يكون بردم فجوة الخلافات بين الناس، والخلاف بين البشر قد يكون من اختلاف رؤيتهم تجاه الأمور أو اختلاف مصالحهم، أو بسبب التحزبات والتكتلات العصبية بينهم، ولابد من البحث عن حلولٍ جذريةٍ لهذه الاختلافات.
ونستفيد علاج تلك الأسباب من قوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبير﴾[2]
أما علاج اختلافهم في الرؤية، فإنما يكون من خلال تلاقٍ وتحاورٍ مستمرٍ بينهم، للوصول إلى فهم الرؤى المختلفة، لأن اختلاف مواقع البشر _حتى في الأسرة الواحدة_ قد يخلق اختلافاً في رؤيتهم للقضايا، فبالتعارف يكون الحل.
وعلاج اختلاف المصالح يكون من خلال التعاون الناشئ من التعارف، فإذا تعاون الناس تحققت مصالحهم جميعاً.
وأما الاختلافات النابعة من العصبيات، فهي بحاجة إلى تطهير النفوس، والذي يتحقق من خلال الإرتباط بالله سبحانه والتعالي عن الأنانيات الضيّقة.
ولتحقيق الأمن في هذه المستويات، فإن الناس بحاجة إلى موقعٍ يجتمعون فيه ويتباحثون فيه عن قضاياهم ولا سيّما المصيرية، ولو فعلوا ذلك لكان ذلك مؤثراً إيجابياً في إرساء السلام العالمي، واقامة الأمن الدولي، وهو مكانٌ موجودٌ بالفعل في الإسلام، حيث جعل الله سبحانه البيت الحرام مثابةً للناس _كما أشرنا في بحثٍ سابق_ يجتمعون فيه من كل أصقاع الأرض، ويختلفون إليه بكل اختلافاتهم فيجتمعون ويلتقون ببعضهم البعض، فيعبدوا الله سبحانه و يشهدوا منافع لهم[3] ، ويكون لهذه اللقاءات اثراً في احياء روح الأمة الإسلامية وردم الفجوات فيما بينها.
وكما الحج، سائر التجمعات الإيمانية كالعمرة وزيارات مراقد أهل البيت عليهم افضل الصلاة والسلام.
ولو عرف المسلمون هذه الحكمة من حكم الحج ووعوها بشكلٍ أفضل، استطاعوا أن يستفيدوا منها في علاج قضاياهم بشكلٍ أكبر.
من حاجات الإنسان
الأمن حاجةٌ من حاجات الإنسان الهامة، وقد هيأ الله سبحانه أمن أهل مكة، وهناك حاجةٌ أخرى هي الحاجة إلى الطعام، والتي أشار الرب سبحانه إليها في سورة قريش: ﴿لِإيلافِ قُرَيْشٍ﴾ ﴿إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ﴾ ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْت﴾ ﴿الَّذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾[4]
ولكن أية الحاجتين أهم، الأمن أم الطعام؟ ففي وقتٍ نجد تقديم سورة قريش للطعام، قدّم ابراهيم عليه السلام الأمن في دعائه؟
يمكن أن يقال، أن سورة قريش جاءت بعد سورة الفيل، والتي ذكرت تحقيق الله سبحانه لأمن مكة، عبر ارسال طير الأبابيل، كما يمكن أن يكون الأمر مختلفاً بحسب المستفيد، ففي وقتٍ تكون الحاجة الى الطعام مقدمة لدى الفرد، فإن الأمن مقدمٌ عند المجتمع بشكلٍ عام.
ومن هنا طلب ابراهيم عليه السلام أن يجعل الرب هذا البلد ( مكة ) آمناً، وفي التعبير بالبلد إشارة إلى توفّر الأنظمة الإلهية فيه، إذ أن تعبير القرآن الكريم عن التجمعات البشرية يكون عادةً بـ"القرية" إلا إذا توفرت فيها شروطٌ تؤهلها لتكون تلك البقعة "بلداً".
الأمن مقدمة للثمرات
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
إن توافر الأمن في بلدٍ مقدمةٌ لجذب الثمرات إليه، والثمرات هي نتاج الأشياء، فالتمر ثمر النخل، وهكذا سائر الثمار، وقد يكون الثمر مادياً كما يمكن أن يكون معنوياً، ومن هنا جاء في تفسير الآية عن أبي عبد الله عليه السلام: "يعني من ثمرات القلوب أي حبّبهم إلى الناس لينتابوا إليهم و يعودوا"[5] .
البصيرة الثانية: التكامل بين العمل والروح
هناك تفاعلٌ بين العمل المادي وبين الروح المعنوية، فالطعام الممزوج بذكر الله سبحانه تهيئةً وأكلاً، يختلف عنه إذا امتزج باللهو والمعاصي.
ومن هنا نجد أن ابراهيم عليه السلام، يقوم برفع القواعد مشفوعاً بالدعاء وذكر الله سبحانه، فكان بناءه للبيت بروحٍ إيمانيةٍ عالية، وكلما كان الخلوص أكثر كان العمل أزكى وأدوم، يقول الله سبحانه: ﴿وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
البصيرة الثالثة: بين الشعور بالعجب والتقصير
إذا عمل المرء عملاً صالحاً، فقد يساوره شعوران مختلفان:
الأول: الشعور بالعجب باداء العمل الصالح.
الثاني: الشعور بالتقصير تجاه الله سبحانه.
ففي وقتٍ يكون الشعور الأول شيطانياً، فإن المؤمنين المخلصين يستشعرون الشعور الثاني عند عملهم في سبيل الله، ولذلك فإنهم يسألون الله سبحانه أن يتقبل عملهم، لأنه تعالى لا يتقبّل إلا من المتقين.