« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/07/17

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

وحاصل ما ذكره في الأمر الثالث: أن الغرض التشريعي لو فرض غرضاً تكوينيا للمولى، فإن كان موردا للإرادة النفسية للمولى وجبت المقدمة وإن لم يكن مرادا نفسيا للمولى فلا حكم للعقل بلزوم مقدمته، مثلا إذا قال المولى لعبده: (سافر غدا) فهذا الغرض التشريعي لو فرض غرضاً تكوينيا للمولى، بمعنى فرض السفر غدا سفراً للمولى نفسه، كان محلا للإرادة النفسية من قبله قبل موعد السفر - لكون القيد وهو الزمن قيدا في تحصيل المصلحة لا في أصل الاتصاف بالمصلحة - وحيث إن السفر مراد إرادة نفسية من اليوم فمقتضى ذلك أن تكون هناك إرادة غيرية لمقدماته - وهي إعداد لوازم السفر - فكما أن مقدماته مطلوبة في نفس المولى طلبا غيريا لو كان الغرض غرضا تكوينيا للمولى فالعقل حاكم على العبد بلزومها لو كان الغرض غرضا تشريعيا له، وأما إذا قال المولى لعبده: (اشرب الماء غداً إذا عطشت) ففي هذا المثال لو فرض هذا الغرض التشريعي غرضا تكوينيا للمولى بأن كان المولى نفسه يعلم أنه سيعطش غدا في سفره ويكون في حاجة للماء، فإن المولى لن يهتم بهذا الغرض النفسي - وهو شرب الماء في حال العطش - منذ اليوم، وحيث إن المولى لا يهتم بهذا الغرض لو كان غرضاً تكوينيا له ، فلا يلزم العقل بالاهتمام بمقدماته لو كان غرضاً تشريعيا للمولى .

الأمر الرابع: أن الحل تارة يلحظ على مستوى الإرادة التكوينية وتارة على مستوى الإرادة التشريعية:

أما على مستوى الإرادة التكوينية بأن فرض أن الإنسان يعلم أنه سيسافر غداً وأنه سيبتلى في سفره بالعطش ومقتضى ذلك أنه يحتاج غداً لشرب الماء، فيمكن ذكر طريقين للاهتمام النفسي بذي المقدمة قبل السفر:

الطريق الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره في بحث الواجب المشروط وهو أن الإرادة لشرب الماء مثلا فعلية وإنما الزمن قيد في المراد لا في الإرادة، بمعنى أن المولى منذ اليوم لديه إرادة فعلية لشرب الماء، مع أنه لم يعطش فعلا بل سيعطش غدا، ولكن هذا القيد - وهو الزمن المستقبلي - قيد في المراد لا في الإرادة، فلديه من اليوم إرادة فعلية لشرب الماء إلا أن المراد هو الشرب غداً، فالقيد الزمني دخيل في المراد لا في الإرادة، ولذلك ذهب الشيخ الأعظم قدس سره إلى أن الواجب المشروط واجب مطلق لأن الشرط دائما راجع للمراد دون الإرادة ، أي للواجب لا للوجوب. وقد سبق النقاش في هذا المسلك في بحث الواجب المشروط.

الطريق الثاني: ما اختاره السيد الصدر قدس سره في الواجب المشروط من أن هناك إرادتين: إرادة نحو الجامع وإرادة عند حصول الشرط، أما الإرادة الأولى - وهي الإرادة المتعلقة بالجامع - فهي إرادة طبيعي الارتواء، بمعنى أنه يريد أن يكون مرتويا إرادة فعلية، وتنبثق من هذه الإرادة الفعلية إرادتان: الأولى: إرادة لشرب الماء غداً عند حصول العطش، فإنه إذا حصل العطش غداً أراد شرب الماء لتحقيق الارتواء، ولكن إرادة شرب الماء عند حصول العطش غداً منبثقة من الإرادة الأولى وهي إرادة طبيعي الارتواء. الثانية: إرادة توفير الماء منذ اليوم، وإرادة توفير الماء اليوم هي إرادة غيرية منبثقة عن إرادة طبيعي الارتواء، فلا مشكلة على مستوى الغرض التكويني، لأنه دائما في الأغراض التكوينية توجد إرادة فعلية للطبيعي وتنبثق من هذه الإرادة الفعلية للطبيعي إرادة نحو المقدمات.

وهذا الذي ذكره قدس سره من تعدد الإرادة هو المختار عندنا في الواجب المشروط ولكن بتقريب آخر، وهو أن هناك غرضاً أقصى وغرضاً أدنى، وأن الإرادة نحو الغرض الأقصى إرادة فعلية كما تتولد منها إرادة فعلية نحو تحصيل الغرض الأدنى، وتطبيق ذلك على المقام أن من يعلم أنه يسافر غداً وأنه سيبتلى بالعطش غداً ومقتضى ابتلائه بالعطش حاجته لشرب الماء، فلا ريب في هذا الفرض في إرادة فعلية نحو الغرض الأقصى وهو سلامة جسمه من التلف، فإن كل إنسان يريد سلامة جسمه من التلف إرادة فعلية، فهذه إرادة نحو الغرض الأقصى، وتتولد عن إرادة السلامة إرادة حفظ تلك السلامة وإبقائها، ومقتضى إرادة حفظ السلامة أن يريد غدا شرب الماء عند حصول العطش، وأن يريد من اليوم توفير الماء، فإرادة توفير الماء اليوم ليست متولدة من إرادة شرب الماء غداً كي يقال: إن الإرادة النفسية لن تتحقق إلا غدا فكيف تتحقق الإرادة الغيرية اليوم؟ بل المراد اليوم غرضان: غرضٌ أقصى وهو سلامة جسمه، وغرض أدنى وهو حفظ هذه السلامة بأفعال تصدر منه، وحفظ هذه السلامة منوط بتوفير المقدمات ومنها توفير الماء، فإرادة توفير الماء إرادة فعلية نابعة عن إرادة حفظ السلامة وهي إرادة فعلية أيضا، لا عن إرادة شرب الماء على تقدير العطش غداً كي يلزم الإشكال.

هذا هو الحل على مستوى الإرادة التكوينية، وأما على مستوى الإرادة التشريعية فقد أفاد قدس سره بأن الأمر مشكل، مثلا: إذا قال المولى لعبده: (اشرب الماء غداً إذا عطشت) فحيث لم يسجل المولى في عهدة العبد اليومَ طبيعيَّ الارتواء، فلا وجه لإلزام العبد بتوفير المقدمة أي توفير الماء، وإنما يمكنه التوصل لإلزام العبد بتوفير المقدمة أي توفير الماء بأحد طرق ثلاثة:

الطريق الأول: أن يأمره بالجامع فيقول: (كن مرتويا بالفعل)، فإذا طلب الجامع بالفعل فمقتضى طلب طبيعي الارتواء بالفعل أن يوفر الماء اليوم من أجل تحقيق طبيعي الارتواء أو أن يأمره بشرب الماء منذ اليوم على نحو الواجب المعلق بأن يكون الوجوب فعليا والواجب استقبالي، وهو الشرب غدا.

الطريق الثاني: أن يأمره بالمقدمة نفسها ويقول: (وفر الماء اليوم).

الطريق الثالث: أن يخبره باهتمامه النفسي بالجامع وهو طبيعي الارتواء، فيحكم عقله بلزوم المقدمة تحقيقا لمايهتم المولى به، أو يخبره باهتمامه بالمقدمة، فإذا أخبره باهتمامه كان مقتضى ذلك حكم العقل بلزوم توفير المقدمة.

وأما إذا لم يسلك أيا من الطرق الثلاثة واقتصر على قوله: (اشرب الماء غدا إذا عطشت) فلا يحكم العقل بلزوم المقدمة المفوتة، لأن غرض المولى غداً وليس اليوم، فهذا الغرض التشريعي لو فرض غرضاً تكوينيا للمولى نفسه لما اهتم به المولى فكيف يحكم العقل بالاهتمام بغرض لا يهتم به المولى لو كان غرضا تكوينيا له؟

فهذا هو عمدة إشكاله قدس سره في المقدمة المفوتة.

ولكن هنا تأملات ثلاثة على ما أفاده قدس سره:

التأمل الأول: إن ما ذكر مبني على تبعية إرادة المقدمة لإرادة ذي المقدمة بالفعل، بمعنى أن لا فعلية للإرادة الغيرية نحو المقدمة إلا مع فعلية الإرادة النفسية لذي المقدمة، لكن الصحيح أنه لا برهان على التبعية بين إرادة المقدمة وإرادة ذيها الا بحسب الغرض، أي أن المسلم به أن هناك ملازمة بين الإرادتين، ولكن ليس معنى الملازمة تبعية الإرادة الغيرية في الفعلية للإرادة النفسية ، وإنما هي بحسب الغرض، بمعنى أن الغرض المطلوب بالأصالة هو الغرض في ذي المقدمة وهو الشرب عند العطش، وهذا الغرض المطلوب بالأصالة ، إما أن يكون حفظه مطلوباً أيضا - كما أنه بنفسه مطلوب - فمقتضى إرادة حفظه إرادة المقدمة وإن لم يكن حفظه مطلوبا فلا، وحيث إن حفظ هذا الغرض مطلوبٌ منذ اليوم ، والوجه في ذلك أن الغرض لزومي بمعنى أن الإنسان لايرفع يده عنه ، ومن جهة أخرى فإنه ليس مشروطا بالقدرة في زمانه، والقيد الدخيل فيه - وهو الزمن - مضمون التحقق، فمقتضى ذلك كله العلم بغرض لزومي له، والعلم بالغرض اللزومي الفعلي من جهة القدرة عليه مساوق لإرادة حفظه بالغعل لامحالة، إذ لا يتصور الإنفكاك بين العلم بالغرض اللزومي المضمون الفعلي من جهة القدرة وبين إرادة حفظه، وحيث إن إرادة حفظه فعلية تولدت منها إرادة نحو المقدمة فإنها المحققة للحفظ، فإرادة المقدمة ليست نابعة من إرادة ذي المقدمة، وإنما هي نابعة من إرادة حفظ الغرض الموجود في ذي المقدمة، والمفروض أن إرادة الحفظ فعلية لكون الغرض غرضاً لزوميا.

وبعبارة أخرى: أن بين الإرادة الغيرية للمقدمة والإرادة النفسية لذيها ملازمةٌ، ولكن الملازمة بحسب العلم، لا بحسب الفعلية، وبيان ذلك أن من يعلم بأنه سيريد ذا المقدمة غداً لتحقق سائر الشروط وكونه مرادا لزوميا له فإن علمه بإرادة شرب الماء غداً يولد إرادة المقدمة اليوم، فإرادة المقدمة لا تنبع من إرادة شرب الماء كي يقال إنه غير معقول، بل هي نابعة من العلم بأنه سيريد شرب الماء غداً.

وبهذا تلخص أنه لا مشكلة في حكم العقل بضرورة المقدمة المفوتة في الأغراض التكوينية حتى لو لم نقل بما ذهب إليه السيد الصدر قدس سره من - الحل على مستوى الإرادة التكوينية من أن هناك إرادة نحو الطبيعي وتتولد منها إرادة نحو المقدمة، حيث يكفي أن يقال: إن بين إرادة المقدمة والعلم بإرادة ذيها اللازم في ظرفه ملازمة، وحيث إن العلم موجود بالفعل تتولد عنه إرادة المقدمة.

logo