« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/07/14

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

البيان الثاني لإنكار وجوب المقدمة المفوتة عقلا: ما ذكره السيد الصدر قدس سره[1] وبيان مطلبه بذكر أمور:

الأمر الأول: أن ما ذكره الأعلام من وجوب المقدمة المفوتة عقلاً كان مبنيا على الإقتصار في النظر على الأغراض التشريعية فكان ذلك منشأً لبنائهم على وجوب المقدمة المفوتة عقلاً، وهذا صحيحٌ لو قصر النظر على الأغراض التشريعية، ولكن إذا لوحظت الأغراض التكوينية فلا موضوع لحكم العقل بوجوب المقدمة المفوتة، والمفروض أن المشكلة وهي لزوم المقدمة المفوتة قبل زمان ذي المقدمة لاتختص بالأغراض التشريعية بل تشمل الأغراض التكوينية، لأن المسألة ثبوتية، فلا بد من علاج للإشكال يشمل الجهتين فلا معنى لجعل منهج البحث مبنيا على ملاحظة الأغراض التشريعية فقط.

الأمر الثاني: إذا لوحظ الغرض التكويني كما إذا عزم المكلف على السفر غداً، وهو يعلم أنه سيبتلي في السفر بالعطش وأنه لو لم يوفر الماء هذا اليوم لم يتمكن من حفظ نفسه عن العطش غداً، فحفظ النفس عن الابتلاء بالتلف نتيجة العطش غرضٌ تكويني بالنسبة للمكلف، وليس غرضاً تشريعيا، وفيه يتجه الإشكال في ضرورة المقدمة المفوتة قبل زمن الملاك، بمعنى أنه هل يلزم عقل الإنسان بتوفير الماء هذا اليوم حفظا للنفس عن التلف غدا نتيجة الابتلاء بالعطش؟ أم أن العقل لا يلزمه بذلك؟ فلا بد من علاج هذه النقطة في الغرض التكويني أيضا، لأن الملاك واحدٌ، وهو حفظ الغرض اللزومي في ظرفه بحفظ المقدمة المفوتة سواء أكان الغرض تكوينيا أم تشريعيا، وعند التدقيق في الغرض التكويني نجد أن الإشكال العقلي وارد ولازمه انتفاء موضوع حكم العقل بلزوم المقدمة المفوتة في الغرض التشريعي أيضا.

وبيان الإشكال أن الإنسان إذا التفت إلى أن الزمن دخيل في أصل الملاك بمعنى أن لا ملاك في شرب الماء هذا اليوم وإنما الملاك في شرب الماء غداً لأن الحاجة لشرب الماء منوطة بالعطش، والابتلاء بالعطش غداً لا في هذا اليوم، فلا ملاك في شرب الماء هذا اليوم، وحيث لا ملاك فلا إرادة، لأن الإرادة تابعة للملاك، أي: لا يوجد اهتمام نفسي بذي المقدمة هذا اليوم، فإذا لم يكن اهتمام نفسي بذي المقدمة هذا اليوم فلا إرادة نحو المقدمة وهي توفير الماء، فإن إرادة المقدمة تابعة لإرادة ذي المقدمة وهو الشرب، أو فقل الاهتمام الغيري بتوفير الماء تابع للاهتمام النفسي بذي المقدمة وهو الشرب، فالنتيجة أن الإشكال وارد وهو أنه لا يتصور من الإنسان إرادة فعلية لتوفير الماء مع علمه بابتلائه بالعطش غدا في سفره.

الأمر الثالث: إن جوهر الإشكال في التوفيق بين الوجدان والبرهان ، فالمحقق النائيني قدس سره وغيره يقولون بأن الوجدان شاهد على أن الإنسان بطبعه يبادر للمقدمة المفوتة حفظاً للقدرة على الواجب في ظرفه، ولكن كيف نوفق بين دعوى الوجدان في كلمات الأعلام وبين البرهان الذي يقضي بأن الاهتمام الغيري بالمقدمة تابع للاهتمام النفسي بذي المقدمة، والمفروض أن لا إرادة نفسية ولا اهتمام نفسي بذي المقدمة قبل الوقت، لأن الوقت دخيل في أصل الملاك، فلذلك لا بد من المعالجة والتوفيق بين الوجدان والبرهان، وهنا طريقان: الطريق الشرعي والطريق العقلي، وكلاهما ممتنع.

أما الطريق الشرعي المذكور في كلمات الأعلام فهو نحوان كما قد سبق بيانه :

الأول: تخريج وجوب المقدمة المفوتة على أساس الواجب المعلق أو الأمر بسد أبواب العدم، وهو لا يشمل المقام، أما الواجب المعلق بتقريب أن يكون وجوب شرب الماء فعليا من اليوم والواجب - وهو شرب الماء - هو المتأخر، بحيث يرجع القيد للواجب لا للوجوب، فيرد عليه أنه إنما يتصور فيما إذا كان الزمن قيدا في الاستيفاء، أي: في تحصيل الملاك، ومفروض البحث أن المشكلة لا تختص بفرض كون الزمن دخيلا في الإستيفاء، بل تشمل فرض كون الزمن قيدا في أصل الاتصاف بالملاك، أي: لا ملاك قبل الزمن، كما في مثال العطش غدا، فلا معنى لتخريج المقام على الواجب المعلق، والحال أن الواجب المعلق إنما يتصور فيما إذا كان الزمن قيدا في الاستيفاء كي يكون قيدا في الواجب، كما لا يتصور علاج المشكلة بتقريب سد أبواب العدم بأن يقال: إن المطلوب من اليوم سد أبواب عدم الشرب من كل جانب، ومن تلك الجوانب توفير الماء لأن في توفيره سدا لأبواب عدم الشرب كالعطش، وهذا لا يجدي، لأن سد أبواب عدم الشرب فرع فعلية ملاكه، كما لو كان الإنسان من اليوم يعيش الحاجة لشرب الماء، فلذلك يوجب العقل سد أبواب العدم اليوم ومنها توفير المقدمات، وأما مع عدم فعلية الملاك في شرب الماء إلا غدا فلا معنى لحكم العقل بسد أبواب العطش من اليوم مع أن الملاك لا يقتضي ذلك.

الثاني: الوجوب المشروط بالشرط المتأخر بأن يقول: يجب شرب الماء اليوم، ولكن هذا الوجوب مشروط بتحقق الزمن وهو مجيء الغد، فمجيء الغد كاشف عن فعلية الوجوب من الأمس، ولكن هذا إنما يتصور في الأغراض التشريعية والأمور الاعتبارية بأن يفكك بين الوجوب وشرطه، لأنه إذا أدرك المولى الحاجة لإعداد عبده المقدمات اليوم من أجل حفظ الغرض في ظرفه ، يضطر لتقديم الإيجاب هذا اليوم مع أن شرطه في الغد تحفظا على غرضه ، لكن هذا لا يتصور في الأغراض التكوينية، والوجه في ذلك: أن الإيجاب اليوم لأجل حفظ الغرض التشريعي غدا يعني أن الذي يحل محله في الأغراض التكوينية هو (التحفظ هذا اليوم على المقدمة لحفظ الغرض غدا)، وهذا مما لا يتصور بلحاظ تبعية الإهتمام بالمقدمة للاهتمام بذي المقدمة، والمفروض انتفاؤه اليوم؟ فلا معنى لتخريج المسألة على الوجوب المشروط بالشرط المتأخر.

وأما الطريق العقلي: وهو أن يقال: إن العقل يحكم بلزوم المقدمة المفوتة منذ اليوم لمن علم بعطشه غداً، فلا موضوع له في المقام ، والسر في ذلك : أنه كيف يحكم العقل بحفظ غرض المولى في موردٍ لو كان هذا الغرض غرضاً تكوينيا للمولى نفسه لما اهتم به، فمثلا إذا قال المولى لعبده: (أكرم الضيف غداً) وعلم العبد بأنه لا يمكنه إكرام الضيف غدا إذا لم يهيئ الطعام هذا اليوم، فهل يحكم العقل بلزوم إعداد الطعام هذا اليوم؟ والجواب: لا لأن هذا الغرض التشريعي للمولى وهو إكرام الضيف غدا ، لو كان غرضا تكوينيا للمولى لم يهتم به ، لما سبق من أن الاهتمام الغيري بالمقدمة ناشئ عن الاهتمام النفسي بذي المقدمة، ولا اهتمام نفسي بذي المقدمة هذا اليوم إذ لا ملاك في إكرام الضيف هذا اليوم ، فلا اهتمام بالمقدمة، فهذا الغرض الواحد لو كان غرضا تكوينيا للمولى لم يحكم عقله بلزوم حفظه قبل وقته، فكيف يحكم العقل بلزوم حفظه على العبد لو كان نفس الغرض غرضا تشريعيا للمولى .

فهذه النكتة بنظر السيد الصدرقدس سره نكتة مستحكمة وإشكال عقلي، وهذا الإشكال العقلي ينقض كل ما ذكره الأعلام في تخريج وجوب المقدمات المفوتة عقلا، فإن كل ما ذكره الأعلام مبني على قصر النظر على الأغراض التشريعية، حيث قالوا بأن حفظ أغراض المولى لازم لأن عدم حفظ أغراض المولى ظلم وكفران بالنعمة، مع أن هذا الغرض لو كان غرضا تكوينيا للمولى فإن المولى لن يهتم بحفظه لأن الاهتمام النفسي بذي المقدمة لا يمكن قبل وقته، فإذا لم يكن اهتمام نفسي بذي المقدمة لن يكون اهتمام غيري بالمقدمة، وبذلك يرتفع حكم العقل بلزوم المقدمة المفوتة بارتفاع موضوعه ، فإن موضوعه كون الغرض مورد اهتمام المولى بالفعل ، والحال أنه ليس مورد اهتمامه بالفعل، والشاهد على ذلك أنه لو كان غرضا تكوينيا لما كان له اهتمام به فلايعقل تولد الإهتمام به لو كان غرضا تشريعيا، فإن المناط واحد.


[1] البحوث ج2 ص207 - 209.
logo