« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/06/26

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

الوجه الثاني: وبيانه يعتمد على توضيح مقدمة في المقام، وهي أن الكلام في المقدمات المفوتة يتضمن بحثين:

البحث الأول: في ما هو مقتضى القاعدة بغض النظر عن الأدلة الشرعية التي قامت على وجوب بعض المقدمات، بمعنى أن البحث في ما هو مقتضى حكم العقل في كل مقدمة يلزم من تركها فوت الواجب في ظرفه أو فوت الملاك في ظرفه، فهل يحكم العقل بوجوب المقدمة التي يترتب على تركها فوت الواجب أو فوت الملاك في ظرفه أم لا؟ وبعد المفروغية عن حكم العقل قد اختلف الأعلام في حدود حكم العقل في ثلاثة موارد :

المورد الأول: هل يختص حكم العقل بقبح تفويت الملاك أو بقبح تفويت الواجب في ظرفه بالملاك الذي سجله المولى في عهدة المكلف أم هو مطلق؟ أي: هل أن حكم العقل بقبح تفويت الملاك فرع وجود أمر بواجب في ظرفه بحيث يقال: إن وجود أمر بواجب في ظرفه معناه أن المولى سجل الملاك في عهدة المكلف في ظرفه، أم أن حكم العقل بقبح التفويت لا يختص بذلك، وإنما متى أحرز المكلف وجود ملاكٍ ملزم ولو بإخبار المولى عن وجوده فإنه يلزم العقل بحفظه والإتيان بالمقدمات التي يتوقف عليها وإن كان لم يصدر أمر من المولى بذلك .

المورد الثاني: هل يختص البحث بما إذا كان القيد دخيلا في استيفاء الملاك فلا يشمل ما إذا كان القيد دخيلا في أصل الاتصاف بالملاك؟ فمثلا: وجوب الحج منوط بالاستطاعة ومنوط بمجيء زمان الحج، ولكن هناك فرقاً بين القيدين، فإن القيد الأول - وهو الاستطاعة - دخيل في أصل الاتصاف بالملاك فلا ملاك قبله، وأما القيد الثاني - مجيء ذي الحجة - فهو دخيل في فعلية الملاك لا في أصل الاتصاف به، فالبحث في حكم العقل بقبح تفويت الملاك هل يختص بما إذا كان القيد دخيلا في الفعلية، ويترتب عليه حكم العقل بوجوب إعداد مقدمات الحج قبل زمانه لأن زمانه دخيل في الاستيفاء والفعلية فقط، أم يشمل القيد الدخيل في الاتصاف أيضا، ولازمه حكم العقل بوجوب حفظ الملاك الملزم وإن كانت الاستطاعة لم تحصل بعد؟ بل قال البعض بأنه يجب حفظ المقدمات حتى قبل البلوغ والاستطاعة مع أنهما ليسا دخيلين في استيفاء الملاك بل في أصل الاتصاف بالملاك.

المورد الثالث: هل يلزم في القيد أن يكون مضمون التحقق - كالزمان - أم لا؟ فيقال: بما أن القيد - وهو الزمن - أمر مضمون، فلا فرق فيه بين أن يكون دخيلا في الاتصاف أو دخيلا في الفعلية، فإن الملاك الملزم مضمون الفعلية في ظرفه وإن كان المكلف عاجزا، فيجب فعل المقدمة قبل القيد المضمون التحقق، أم لا فرق عند العقل بين القيد المضمون التحقق وغيره كالاستطاعة؟ كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من حكم العقل بوجوب المقدمة قبل القيود بغض النظر عن كون القيد مضمون التحقق أو غير مضمون.

والحاصل أن البحث الأول في مقتضى القاعدة - أي: ما هو حكم العقل - وأنه هل يترتب على حكم العقل حكم الشرع أم لا؟

البحث الثاني: بعد المفروغية عن وجود أمرٍ شرعي بالمقدمة وقع البحث في تخريج ذلك ثبوتاً، أي: بعد أن علم أنه يجب على المكلف الغسل قبل نهار الصوم وقع البحث في تخريج ذلك ثبوتاً، لأن وجوبه وجوب مقدمي، فكيف يتصور الوجوب المقدمي قبل الوجوب النفسي؟ إذ لا وجوب نفسي قبل طلوع الفجر بلحاظ امتناع الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر، فكيف يكون الوجوب المقدمي الذي هو تابع للوجوب النفسي لذي المقدمة سابقا على الوجوب النفسي؟

وبعض الأعلام فصل بين البحثين، وبعضهم دمج بينهما كما في تقرير كلمات المحقق النائيني قدس سره.

وبعد وضوح المقدمة يقع الكلام في الوجه الثاني، فقد ذكر السيد الصدر قدس سره[1] التخريج الثبوتي لوجوب المقدمة شرعا حتى على القول باستحالة الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر، كما هو مبنى النائيني قده وتعرض هنا لنكات ثلاث:

النكتة الأولى: ما ذكره[2] من أن الواجب على المكلف منذ الغروب ليس هو الصوم في النهار، بل الواجب عليه هو سد أبواب عدم الصوم في النهار، أي أنه يجب على المكلف من حين الغروب سد أبواب عدم الصوم نهاراً - من غير ناحية طلوع الفجر - فإن هناك حصصا لعدم الصوم بعدد أسباب العدم، والواجب سد أبواب عدمه بفعل سائر المقدمات، وبما أن تحقيق هذا الواجب الفعلي قبل الوقت يتوقف على فعل المقدمة كالغسل مثلا فيترشح منه وجوب مقدمي نحو الغسل، والنتيجة أن المولى من حين الغروب أوجب سد أبواب عدم الصوم، لا أنه عند الغروب أوجب الصوم حين طلوع الفجر ليلزم تأخر الواجب أو انفكاك المراد عن الإرادة كما في الواجب المعلق ، بل أوجب الإنبعاث نحو سد أبواب عدم الصوم من حين الغروب، كما أن الوجوب من حين الغروب ليس مشروطا بطلوع الفجر، وإلا لكان من الواجب المشروط بالشرط المتأخر، والواجب المشروط بالشرط المتأخر مستحيلٌ، كما أن هذا الوجوب ليس مشروطاً بالقدرة إذا طلع الفجر، بل هو مشروط بالقدرة المستمرة من حين الغروب إلى آخر نهار اليوم الآتي، والسر في ذلك أن المكلف لو كان قادرا في الليل ولكن إذا طلع الفجر صار عاجزا أو مريضا لم يجب عليه شيء، فالشرط في وجوب سد أبواب عدم الصوم من حين الغروب القدرة المستمرة إلى آخر نهار اليوم الآتي، وهذا يقول به حتى من ينكر إمكان الشرط المتأخر، مثلا: الصلاة الواجبة لا إشكال في أنها مشروطة بالقدرة من حين التكبير إلى حين التسليم إذ لو عرض العجز في الأثناء لانكشف عدم وجوبها، فاشتراط الواجبات التدريجية بالقدرة المستمرة حتى آخر جزءٍ مما لا كلام فيه عند أحدٍ كالصلاة والصوم، وبالتالي فوجوب سد أبواب عدم الصوم مشروط بالقدرة التدريجية المستمرة من حين الغروب إلى الغروب الآتي، أو أن الوجوب في كل آن مشروط بتعقبه بالآن الثاني على نحو الشرط المقارن، وبذلك تم التخلص من محذور التفكيك بين الوجوب المقدمي والوجوب النفسي، إذ لا تفكيك بينهما زمانا، إلا أن تمامية هذه النكتة تتوقف على عدم كون طلوع الفجر من القيود الدخيلة في أصل الإتصاف، كي يتصور فعلية الملاك والإرادة قبله .

نعم، يرد على هذه النكتة العقلية التي أفادها قدس سره أنه إذا كان المطلوب هو المحصَّل أي العنوان الانتزاعي المتحصل من فعل الصوم - وهو سد باب عدم الصوم - فالصوم ليس هو المطلوب، بل الصوم في النهار منشأ لسد أبواب عدمه، ولازم ذلك أن يكون وجوب الصوم وجوباً مقدميا كوجوب الغسل، وإذا كان المطلوب هو سدّ أبواب العدم المشير لفعل الصوم والغسل وسائر المقدمات، فكان نفس الغسل نحوا من أنحاء سد باب العدم لا أنه مقدمة له فلازم ذلك أن يكون وجوب الغسل وجوباً نفسيا لأن المطلوب النفسي سد أبواب العدم، والغسل بنفسه سد لأبواب العدم فوجوب الغسل وجوب نفسي في عرض وجوب الصوم، فالتفكيك بين وجوب الغسل ووجوب الصوم بأن يكون وجوب الغسل مقدميا ووجوب الصوم نفسيا غيرُ تامّ، لأنهما يشتركان في النكتة.


[1] بحوث في علم الأصول ج2 ص204 - 205 - 206.
[2] ص204.
logo