46/05/28
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
سبق أن المقدمة الثانية في كلام المحقق النهاوندي قدس سره - كما نسب إليه في الكفاية - قياس الإرادة التشريعية على الإرادة التكوينية من جهة عدم انفكاك المراد عنها، وتقريب ذلك استنادا لما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره[1] بذكر مطلبين:
المطلب الأول: أن الإرادة التشريعية هي عبارة عن كون شوق المولى إلى فعل العبد قد بلغ درجة أن ينبعث منه الشوق إلى البعث، أي أن مقتضى شوق المولى شوقا مؤكدا لصدور الفعل من العبد أن يحصل لدى المولى شوقٌ مؤكد نحو إنشاء البعث والطلب، فالشوق المؤكد لإنشاء البعث والطلب وإن كان إرادةً تكوينية - حيث إن المولى قد بعثه شوقه إلى طلبه - ولكن اقتضاء الشوق لفعل العبد شوقا إلى البعث نحوه هو مناط الإرادة التشريعية، فهنا شوقان: شوق مؤكد لفعل العبد وشوق انبعث منه وهو شوق مؤكد إلى إنشاء البعث وطلبه من العبد، فبلحاظ اقتضاء الشوق الأول للشوق الثاني عبر عنه بالإرادة التشريعية، فليست الإرادة التشريعية مجرد الطلب والحكم، بل هي الشوق إلى الطلب المنبعث عن الشوق إلى فعل العبد.
المطلب الثاني: إن محل الكلام ليس في انفكاك فعل العبد عن أمر المولى، فإن هذا ممكن بلا إشكال، إذ يمكن أن ينفك فعل العبد عن أمر المولى، مثلا: لو صلى العبد في الأرض المغصوبة غفلةً أو جهلا بالحكم أو بالموضوع أو عاصيا، فإنه في تمام هذه الصور مما ينفك فعل العبد عن أمر المولى، ولكن ليس هذا هو المنظور، وإنما المنظور انفكاك المراد التشريعي عن الإرادة التشريعية لا انفكاك فعل العبد عن أمر المولى، والمراد التشريعي غير فعل العبد، فإن المراد التشريعي انبعاث العبد في فرض انقياده والتفاته للحكم، لأن الغرض المقوم للبعث ليس هو مجرد فعل العبد بل الغرض المقوم لبعث المولى هو انبعاث العبد عن بعثه، وانبعاث العبد عن بعث المولى إنما يتصور في فرض التفات العبد إلى الحكم وكونه في مقام الانقياد والطاعة ليكون انبعاثه عن بعث المولى، فبما أن المراد التشريعي هو هذا - أي: انبعاث العبد في فرض انقياده وطاعته - فلا ينفك الانبعاث عن البعث، إذ البعث هو ما كان غرضه انبعاث العبد، وانبعاث العبد إنما يتصور في فرض التفاته وانقياده، فلم ينفك المراد التشريعي عن الإرادة التشريعية .
وبذلك يمكن إبداء المناقشة في مقالتين أخريين:
المقالة الأولى: ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره من أن انفكاك الانبعاث عن البعث ضروري فضلا عن إمكانه، فهو على طرف النقيض من المبنى المنسوب للمحقق النهاوندي قدس سره وهو أن الانبعاث لا يمكن أن ينفك عن البعث.
والسر في ما ذكره صاحب الكفاية أن انبعاث العبد عن بعث المولى يتوقف على أمور: وصول الحكم، والتفات العبد إلى الحكم، وتصديقه بغايته من الوعيد بالعقاب أو الوعد بالثواب ، وكونه في مقام الإطاعة، وشروعه في المقدمات، إذ ربما يتوقف الانبعاث على مقدماتٍ كالوضوء وتحصيل الشرائط، فهذا كله يفضي إلى أن انفكاك الانبعاث عن البعث أمر ضروري، لا أنه مجرد أمر ممكن.
ويلاحظ على هذه المقالة أن هذا الكلام ربما يتم لو كان البعث على نحو القضية الخارجية كأمر الأب لولده أو أمر المولى لعبده، وأما لو كان البعث - كما في الأوامر الشرعية - على نحو القضية الحقيقية فإن اقتران الانبعاث بفعلية البعث أمر ممكن، لا أنه ضروري العدم كما يراه صاحب الكفاية.
مثلا: إذا التفت العبد إلى أنه إذا حان الزوال وجبت صلاة الظهر - كما ورد في المعتبرة (إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاتان إلا أن هذه قبل هذه) - وتهيأ لذلك قبل أن يدخل الزوال بالوضوء وإعداد المقدمات، فإنه بمجرد دخول الوقت وفي أول لحظات الزوال يتحقق منه الشروع في الصلاة، فيتحقق اقتران الانبعاث بالبعث، وهذا ليس من المحالات كي يقال: إن الانفكاك ضروري الوجود، بل عدم الانفكاك أمر ممكن.
المقالة الثانية: ما ذكره سيد المنتقى قدس سره[2] وبيانه: أنه بما أن متعلق الإرادة التشريعية فعل الغير، وفعل الغير إرادي له وليس فعلا إراديا للمولى لخضوعه لاختيار الغير وإرادته، فانفكاك فعل الغير عن الإرادة التشريعية أمر متحقق بالبداهة، كموارد العصيان وعدم الإطاعة، فانفكاك الانبعاث عن البعث بلحاظ أن الانبعاث ليس فعلا للمولى بل هو فعل اختياري للعبد واضح .
ويلاحظ على ذلك: أنه تارة يناقش في أصل الغرض المقوم للبعث فيقال: ليس الغرض هو الانبعاث في فرض الإنقياد ، بل الغرض هو تحقيق الملاك بفعل المأمور به، خصوصا في التوصليات، أو الغرض هو الإحتجاج على المكلف، وحينئذ قد ينفك المأموربه عن الأمر، كما في موارد الجهل والعصيان ، وتارة يقال : نعم إن الغرض هو الانبعاث عن البعث الناظر لفرض الانقياد كما يظهر من كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره، فالمتجه حينئذ عدم تمامية هذا الإيراد لأن مقصودهم من عدم الانفكاك عدم انفكاك المراد التشريعي عن بعث المولى، لا عدم انفكاك فعل العبد عن أمر المولى، والمراد التشريعي هو عبارة عن انبعاث العبد في فرض انقياده وتمكينه لا مطلقا.
ولكن قد يلاحظ على هذا التقريب المذكور في كلمات المحقق الإصفهاني أعلى الله مقامه بنكتتين:
النكتة الأولى: لو سلمنا أن المراد التشريعي هو انبعاث العبد في فرض انقياده وتمكينه لا مطلقا، ولكن مع ذلك فإن العبد الذي وصل إليه الحكم وهو في مقام الانقياد إليه قد لا يتحقق منه الانبعاث لطرو مانع تكويني اتفاقا يمنع من الانبعاث، أو يوجب فقدان العمل ركناً مقوما لصحة العمل، فتحقق الانبعاث - حتى في فرض الالتفات والانقياد - ليس أمرا ضروريا عند البعث الفعلي.
النكتة الثانية: سلمنا أن المراد التشريعي هو الانبعاث في فرض الانقياد عن التفات، إلا أن هذا لا يلغي الواجب المعلق، لأن تحديد المراد التشريعي إنما هو على ضوء تحديد الإرادة التشريعية، فإن المراد التشريعي تابع للإرادة التشريعية، فإذا فرض أن متعلق الإرادة التشريعية هو الفعل المؤقت بوقت، كما لو كان متعلق الإرادة التشريعية بالنسبة للمولى زيارة الحسين عليه السلام ليلة الجمعة، أو كان هو الصوم عند طلوع الفجر، فحينئذ لا بد أن يتخلف المراد التشريعي عن الإرادة، أي: لا بد أن ينفك الانبعاث عن البعث، فإن البعث صدر عند غروب الشمس برؤية الهلال، وتعلق بالصوم المشروط بطلوع الفجر، فالمراد التشريعي هنا ليس إلا الصوم عند طلوع الفجر، فالانبعاث عن التفات وانقياد وتمكين هو المراد التشريعي ولكن تحديده إنما يتم بالنظر لحدود متعلق هذه الإرادة التشريعية، والمفروض أن المتعلق قد يكون فعلا حاضرا وقد يكون فعلا مؤقتا، لذلك فإن كون المراد التشريعي هو الانبعاث في فرض الانقياد لا يلغي فكرة الواجب المعلق بل ينسجم معها، نعم لو قلنا بالتلازم بين فعلية البعث وإمكان الإنبعاث لكان القول بالواجب المعلق منافيا لكون المراد التشريعي هو الانبعاث في فرض الإنقياد ، لكن هذه نكتة أخرى سيأتي بحثها، غير نكتة انحصار المراد التشريعي في فرض الإنقياد.