46/05/27
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
تنبيه:
وفيه ثلاثة أمور:
الأمر الأول: هل الإرادة التكوينية من مقولة الكيف أم من مقولة الفعل؟
والوجدان شاهد بأن الإرادة التكوينية من مقولة الفعل، بمعنى أن الإرادة التكوينية ليست هي الشوق المؤكد، بلحاظ أن الشوق المؤكد من مقولة الكيف النفساني، وإنما الإرادة التكوينية من مقولة الفعل، فهي عبارة عن التصميم والقرار على تحصيل الغرض عن طريق الفعل، ومن الواضح حينئذ إمكان انفكاكها عن المراد، حيث إن التصميم والقرار على فعل معين لا يستلزم حصوله خارجا، وهذا موافق لما بنى عليه سيدنا الخوئي قدس سره من أن الإرادة التكوينية من مقولة الفعل، إلا أنه فسرها بأنها عبارة عن إعمال القدرة في تحريك العضلات، أي: صرف الإنسان قدرته في تحريك العضلات.
وهذا التفسير الذي ذهب إليه محل نظر، بلحاظ أن العناصر المتوفرة عند صدور الفعل أربعة:
الأول: الشوق المؤكد.
الثاني: القرار على تحصيل الفعل.
الثالث: إشارة الدماغ للأعصاب بالحركة.
الرابع: الفعل الخارجي.
فإن كان مراده بإعمال القدرة نفس إشارة الدماغ للأعصاب بالحركة فهذا أثر الإرادة لا نفسها، وإن كان المراد به سلطنة الاختيار كما سيأتي فالاختيار مغاير للإرادة بلحاظ أن الإرادة فعل نفساني اختياري ومقتضى ذلك احتياج صدوره للاختيار، وإن كان غير ذلك فليس غير ذلك إلا عنوان انتزاعي، أي: أن صدور الفعل الخارجي عن قرار وعزم مما ينتزع منه عنوان إعمال القدرة، وإلا فإن إعمال القدرة في وجود الفعل ليس شيئا وراء العلم به والتصميم عليه والقدرة على إيجاده ووجوده .
الأمر الثاني: على فرض أن الإرادة من مقولة الكيف وأنها عبارة عن الشوق المؤكد المحرك للعضلات فقد سبق أن الصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره – خلافا لما ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره – وهو أن المراد بالمحركية المحركية الشأنية لا الفعلية، ولا يبعد أن مقصوده من المحركية الشأنية ليس طبيعي الشأنية، وإلا فالشوق الذي من شأنه أن يحرك - بحيث لو كان الفعل قابلا للوجود لتحققت الحركة - قد يتعلق بالمحال، إذ لا يقل الشوق المتعلق ببعض المحالات من حيث الشأنية عن الشوق المتعلق بالأمر المقدور بالفعل، فاشتياق المؤمن مثلا لأن يكون من أنصار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء لا يقل عن شوقه لشرب الماء في حال العطش إن لم يكن أشد منه.
وإنما المقصود من المحركية الشأنية المحركية الناشئة عن التصديق باجتماع شرائط الوجود، بمعنى أنه إذا أذعن الإنسان باجتماع شرائط الوجود بالنسبة لمتعلق شوقه وصل الشوق عنده إلى مرحلة المحركية ، وبالتالي فلا يخل بكون الشوق محركا توقفه على مقدمات مقدورة أو أو ارتباطه بالزمن المعين ، لأن الزمن مضمون الوجود في مرحلة التصديق فلا يمنع من تحقق المحركية.
الأمر الثالث: قد يحصل الخلط بين بحثين وهما مؤدى الإرادة و مؤدى الاختيار، فالبحث فعلا في إمكان انفكاك المراد عن الإرادة وعدمه من زاوية الإرادة، وأنها متقومة بالمحركية الفعلية، بحيث لولاها لم تكن إرادة أم ليست متقومة بها، بينما البحث في باب الطلب والإرادة في مناط الفرق بين الفعل الاختياري والفعل القسري وأنه هل يكفي في اختيارية الفعل كونه صادرا عن الإرادة ، بمعنى أنه في طول تمامية الإرادة يجب وجود الفعل استنادا لقاعدة إن الشيء ما لم يجب لم يوجد، حيث إن مقتضى هذه القاعدة لزوم صيرورة الممكن في الرتبة السابقة على وجوده واجبا بالغير، بمعنى أن الشيء الممكن قد أوجب من قبل علته فوجب وجوده فأوجد، أم لا وجوب له حتى بعد تمامية الإرادة؟
وبيان ذلك كما ذكره المحقق النائيني قدس سره في أجود التقريرات[1] بقوله: (وأما الموضع الثاني: فالحق فيه أيضا أن هناك مرتبة أخرى بعد الإرادة تسمى بالطلب ، وهو نفس الإختيار وتأثير النفس في حركة العضلات، وفاقا لجماعة من محققي المتأخرين) وقد تصدى السيد الصدر قدس سره لبلورة وتحليل كلامه في البحوث[2] بأنه حتى لوتمت الإرادة وبلغ الشوق ما بلغ فإن لسلطنة الاختيار تأثيرا على الفعل، حيث إن الفعل الاختياري الصادر من الإنسان لا يكون حتمي الحصول بمجرد تعلق الإرادة به كما توهمه بعض كلمات سيدنا الخوئي قدس سره من أن الإرادة هي الجزء الأخير من العلة للفعل، وبعض كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره من كون الإرادة هي المحركة بالفعل نحو المراد فلا انفكاك للقوة العاملة عن القوة الباعثة.
وتحقيق المطلب – وفاقا لعلماء الكلام وطبقا لبيان السيد الصدر قدس سره – في عدة نقاط:
الأولى: إن قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد لو كانت برهانية لم تقبل التخصيص، إذ القواعد العقلية لا تقبل الاستثناء، وإنما هي قضية وجدانية، بمعنى أنها من المدركات الفطرية، والاستدلال عليها بأن الشيء لو وجد من دون وجوب مستند لعلته التامة لزم الترجح بلا مرجح وهو محال محل نظر، فإن امتناع الترجح بلا مرجح هو عبارة أخرى عن استحالة وجود المعلول بلا علة، وليس قاعدة عقلية أخرى، أو أن مدرك قضية (ما لم يجب لم يوجد) قانون منتزع من استقراء العلل المادية الشاهد بأن الشيء لا يخرج عن كونه متساوي الطرفين بالنسبة للوجود والعدم إلا بعلة تامة يتحتم بها وجود الشيء.
الثانية: أن الفطرة السليمة تحكم بأن مجرد الإمكان الذاتي لا يكفي للوجود، فهو عبارة عن تساوي الطرفين الوجود والعدم، إلا أن المصحح للوجود والخروج عن حالة التساوي أحد عاملين:
الأول: الوجوب بالغير الناشئ عن تمامية العلة.
الثاني: الاختيار وهو عبارة عن سلطنة الترجيح التي لولاها لم يخرج الفعل الاختياري عن حالة التساوي، أي: أنه حتى لو تصور الإنسان فعلا وصدق بفائدته ودفع العوائق عنه وبلغ به الشوق المؤكد نحوه أعلى الدرجات وقرر وعزم وصمم على فعله فمع ذلك لا يكون الفعل حاصلا بمجرد إرادته بما لها من مقدمات، بل هناك سلطة نفسانية يعبر عنها بالاختيار، هي الكفيلة بأن تخرج الفعل من حد التساوي إلى طرف الوجود، ومقتضى ذلك أمران:
أحدهما: أن الفاعل بالاختيار كالإنسان له أن يفعل وأن لا يفعل وليس عليه أن يفعل، بمعنى عدم كونه محكوما بقاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد بمجرد اختياره للفعل، بحيث يرى نفسه ملزما بالفعل في طول اختياره فهو كونه فاعلا بالسلطنة.
وثانيهما: أن الفعل في نفسه بغض النظر عن الفاعل ليس حتمي الحصول بسبب الاختيار بحيث لولا اتصافه بالوجوب في رتبة سابقة على وجوده لماكان الإختيار كافيا في خروجه من حالة التساوي، فإن ذلك أيضا خلف السلطنة.
فالسلطنة تشترك مع الوجوب من جهة ومع الإمكان من جهة أخرى، فهي وسط بينهما، فإنها تشترك مع وجوب الوجود في كفايتها لوجود الفعل بلاحاجة لضم عنصر وجودي آخر، وتمتاز عنه في أن صدور الشيء في الواجب بالغير ضروري حتمي عند تمامية العلة، بينما صدور الفعل استنادا للسلطنة ليس ضروريا، كما تشترك مع الإمكان من حيث عدم الضرورة والحتمية غير أن الإمكان لايكفي للوجود، بينما السلطنة لا تحتاج في ترجيح الوجود لضميمة فإن ذلك خلف السلطنة.
الثالثة: أن إنكار عموم قانون الشيء ما لم يجب لم يوجد لا يعني إنكار قاعدة السببية والقول بإمكان الصدفة، وإنما يعني أن سببية الإنسان لفعله الاختياري لا تساوق حتمية الفعل بمجرد إرادته واختياره، ولذلك قد يصدر من الإنسان الترجيح بلا مرجح ، كما في اختيار أحد رغيفي الجائع وأحد طريقي الهارب. وبالتالي حتى لو اخترنا أن الإرادة – كما ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره – هي الشوق المؤكد المحرك للعضلات بالفعل، بحيث لاتصدق الإرادة على الشوق المؤكد إلا إذا اقترن بالمحركية الفعلية فإن هذه المحركية لا تخرج عن حكومة السلطنة، كما أنه لو اخترنا أن الإرادة هي ما ذهب إليه سيدنا الخوئي قدس سره من أنها إعمال القدرة فلا بد من إدخال عنصر السلطنة، وإلا فإن مجرد إعمال القدرة لا يعني حصول الفعل إلا أن يلتزم بأن الإرادة هي عبارة عن نفس الإختيار - السلطنة - وهو بعيد .
فإن قلت : لاحاجة إلى إضافة عنصر السلطنة حيث إن بعض مقدمات الإرادة اختيارية – إذ هي عبارة عن تصور الشيء والتصديق بفائدته ودفع العوائق عنه – ودفع العوائق مقدمة اختيارية للإرادة، فتكون الإرادة اختيارية لاختيارية بعض مقدماتها.
قلت: إن لازم هذا الكلام أن الإنسان إذا دفع العوائق باختياره ثم بلغ به الشوق المؤكد حالة باعثية النفس للقوة العاملة فلا بد أن يصدر الفعل عنه، أي: أنه إذا تمت الإرادة فصدور الفعل أمر لا بد منه، بينما الوجدان شاهد على أنه حتى لو تمت سائر العناصر فإنه لا زال للنفس سلطنة على المنع والتراجع، فتمامية الإرادة بتمامية ما فيها لا يجعل وقوع الفعل حتميا، بل دفع العوائق ونفس الإرادة هي من الأفعال الإختيارية النفسية التي تحتاج للسلطنة في وجودها
والحاصل: أن المحقق النهاوندي قدس سره قد استدل على بطلان الواجب المعلق بمقدمتين:
الأولى: أن الإرادة التكوينية لا ينفك عنها المراد، والثانية قياس الإرادة التشريعية على التكوينية، وقد مضى النقاش في المقدمة الأولى.
النقاش في المقدمة الثانية
الحق أنا لو سلمنا أن الإرادة التكوينية لا ينفك عنها المراد فلا نسلم بذلك في الإرادة التشريعية.
وبيان ذلك أن في الإرادة التشريعية مسالك:
المسلك الأول: أن الإرادة التشريعية هي قرار المولى بتحصيل غرضه عبر الفعل، وقد يتعلق هذا القرار بأمر فعلي وقد يتعلق بأمر استقبالي فيمكن الانفكاك فيه، وهذا المسلك هو المختار عندنا.
المسلك الثاني: أن الإرادة التشريعية اعتبار الفعل على ذمة المكلف، وهو ما ذهب إليه سيدنا الخوئي قدس سره، ومن الواضح أن الفعل المعتبر يمكن أن يكون فعليا وقد يكون استقباليا.
المسلك الثالث: ما ذهب إليه السيد الصدر قدس سره من أن الإرادة التشريعية – أي: الحكم – هي عبارة عن إنشاء البعث بداعي حصول الانبعاث في فرض وصول الحكم وكون الفعل مقدورا. وعلى هذا المسلك أيضا لا فرق بين كون متعلق البعث أمرا فعليا أو استقباليا.
وإنما الكلام كله بناء على المسلك الرابع، وهو أن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية عبارة عن الشوق المؤكد، وأنه لا فرق بين الإرادة التشريعية والتكوينية إلا من حيث المتعلق، فهناك إرادة واحدة إن تعلقت بفعل النفس فهي تكوينية وإن تعلقت بفعل الغير فهي تشريعية، فإذا سلمنا بأن المراد لا ينفك عن الإرادة في الإرادة التكوينية فهل نسلم بذلك في الإرادة التشريعية مع أنهما واحد؟