« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

والمتحصل من كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره: أنه لا يعقل انفكاك القوة العاملة - وهي القوة المنبثة في العضلات - عن القوة الباعثة، وهي وصول الشوق في نفس المكلف إلى مستوى الباعثية، وبيان ذلك بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن هناك فرقا بين الفعل القسري والفعل الاختياري، فالأول عبارة عن خضوع الجسم لقاهر خارجي، كما إذا أزاحت الريح جسم الإنسان من مكان إلى آخر، أو ألجئ الإنسان من قبل الظالم على قبيح، فهذا الفعل القسري فعل مستند لعامل خارجي، وأما الفعل الاختياري - كالأكل والشرب والصلاة والصيام ونحو ذلك - فإنها بنظر المحقق الإصفهاني قدس سره ليست فعلا خارجيا، وإنما هي فعل نفساني، أي أن ما يصدر من الإنسان من صلاة وصوم وأكل وشرب هو فعل في الحقيقة للنفس وإن كان فعلا في الجسد، وهذا المعنى يبتني على المطلب المذكور عند أهل المعقول من أن فعل القوى هو فعل النفس.

وبيان ذلك: إن المقرر في علم المعقول أن للنفس عدة قوى - منها المفكرة والمتخيلة والواهمة والشعورية والإحساسية كاللامسة والذائقة والباصرة والسامعة - ولكن عند التدقيق ليست هذه القوى شيئا سوى النفس التي هي الأصل المحفوظ في جميع الحركات المنسوبة للقوى، وإنما الذهن تارة يلاحظ الوحدة على نحو الكثرة فيقال للنفس عدة قوى ولكل قوة فعل، وتارة يلاحظ الكثرة على نحو الوحدة فالنفس في الواقع هي المفكرة والمتخيلة والمتوهمة وهي السامعة والباصرة والذائقة واللامسة، أي أن القوى ليست وجودات مستقلة عن النفس ولا أعراض طارئة على النفس، وإنما للنفس البشرية ظهورات وتجليات ومن ظهوراتها هذه الأفعال المنسوبة للقوى، كما أن تقسيم القوى لجوانحية وجوارحية إنما هو انتزاع بلحاظ تنوع الأفعال واختلاف موردها، والا فالجميع فعل للنفس ومراتب من وجود النفس ومنازل حركة النفس، وأثر ذلك أن يكون إسناد أفعال القوى للنفس إسنادا حقيقيا لا مجازيا، فإن النفس تسمع وتبصر وتذوق حقيقةً.

ولهذا لا معنى لأن يقال: كيف يؤثر الأمر النفسي في الأمر الخارجي؟ أي كيف تؤثر القوة الباعثة في حركة العضلات مع اشتراط المسانخة بين المتأثر والمؤثر، لأن الحركة العضلية هي فعل نفساني أيضا، وما ذلك إلا تأثير أمر نفسي في أمر نفسي، لا تأثير أمر نفساني في أمر خارجي، فكلاهما شأن من شؤون النفس ووجود من وجوداتها، ومقتضى سلطان النفس على قواها وأفعالها التي هي في الواقع منازل حركاتها أن لا تنفك القوة العاملة عن القوة الباعثة، فدعوى صاحب الكفاية قدس سره أن الشوق قد يبلغ القوة الباعثة ولكن لا تنقاد له القوة العاملة - وهي حركة العضلات -لأن للحركة وقتا - وهو الصوم في وقته والحج في وقته - ممنوعة، مما يعني أن نزاع المحقق الإصفهاني مع شيخه قدهما ليس من قبيل النزاع اللفظي وأن صاحب الكفاية يدعي أن الإرادة هي أن يبلغ الشوق حد المحركية الشأنية والمحقق الإصفهاني يدعي أن الإرادة هي أن يبلغ الشوق حد المحركية الفعلية، بل مدعى الإصفهاني قدس سره أن ما يقوله شيخه الآخوند مستحيل، حيث لا يعقل أن تتحقق في النفس القوة الباعثة من دون أن تتحرك القوة العاملة، فإنه خلف سلطنة النفس وانحفاظ وجودها في سائر منازلها ومواطن حركتها.

المقدمة الثانية: أن مستند الوجود والعدم فيه اتجاهان: الأول: أن مقتضى ما مضى استناد الحركة العضلية في طرفي الوجود والعدم لوجود المقتضي وعدمه لا لعامل آخر، فإذا نظر لحال الوجود - أي: وجود حركة العضلات - فما هو الجزء الأخير من العلة لحركة العضلات؟ إن مقتضى التحقيق أنه من داخل النفس لا خارجها، لأن حركة العضلات فعل نفساني بمقتضى المقدمة الأولى، فلا محالة تكون علتها من داخل النفس، فما هو ذلك الجزء الأخير الكامن في النفس من علة الحركة العضلية؟

والجواب: أنه لا يمكن أن يكون هو الشوق، فإن الشوق قد يتعلق بالمستحيل كما لو اشتاق الإنسان أن يكون طيرا، أو بما لا يقع كأن يشتاق إلى الصلاة على المريخ، أو بالكلي المتساوي النسبة إلى حصصه كطبيعي زيارة الحسين عليه السلام، وكل ذلك ليس من الإرادة في شيء، فلا محالة يكون العامل النفسي المحرك للعضلات هو المرتبة العليا وهو القوة الباعثة بالفعل، فما لم يصل الشوق لهذه المرتبة فأي شيء يفرض دونها فهو غير صالح للمحركية بشهادة تعلقه بالكليات والمحالات وما لا يقع، والعامل النفسي الوحيد الذي يتعلق بالصورة في إطار خصوص المحركية هو ما بلغ حد الباعثية بالفعل، وإلا فما سواه لا يمكن أن يكون محركا، أو فقل: إن الإرادة صفة أخرى ليست هي الشوق وهي المحركة بالفعل.

هذا من جانب الوجود، وأما إذا نظر للعدم كما لو اشتاق الإنسان لزيارة الحسين عليه السلام شوقا شديدا جدا ولم تحصل الزيارة، فإن السر في عدم الحركة العضلية ليس عدم الشرط - وهو عدم حضور الوقت - ولا وجود المانع، بل عدم الحركة لعدم المقتضي أي: لعدم الإرادة وعدم بلوغ الشوق إلى حد القوة الباعثة بالفعل، وإن كان المنشأ لعدم بلوغ الشوق درجة القوة الباعثة بالفعل أن الفعل غير قابل للوجود، وعدم قابليته للوجود إما لعدم حضور الوقت، أو لتوقفه على مقدمة غير مقدورة، فإن الإرادة أمر اختياري، والاختيار منوط بالالتفات، فإذا التفت المختار إلى أن الفعل ليس قابلا للوجود فلا محالة لن يتحقق في نفسه الشوق البالغ حد القوة الباعثة، والنتيجة أن الوجود مستند لهذه القوة الباعثة، والعدم مستند لعدمها، لا لشيء آخر كما يدعيه صاحب الكفاية قدس سره ومن تبعه من الأعلام.

الاتجاه الثاني: الذي سلكه المحقق الآخوند قدس سره، وهو أن مستند عدم الحركة العضلية لعدم حضور الوقت هو عدم الشرط لا عدم المقتضي، إذ لا يعقل أن يكون حضور الوقت هو المقتضي، لاستلزام تأثيره في فاعلية القوة الباعثة للقوة العاملة تأثير العامل الخارجي في الفعل النفساني، وإنما المقتضي هو الإرادة، وهي فعلية قبل حضور الوقت ولكن استند عدم الحركة لعدم الشرط وهو غير معقول.

والسر في عدم معقوليته أن مرجع كلامه قدس سره إلى أحد محتملين كلاهما باطل :

المحتمل الأول: أن الشرط إما مصحح لفاعلية الفاعل وإما متمم لقابلية القابل، فمعنى أن حضور الوقت شرط لا يخلو من أحد هذين، فهو إما مصحح لفاعلية الشوق وإما متمم لقابلية حركة العضلات، وكلاهما غير معقول:

أما الأول - وهو أنه مصحح لفاعلية الشوق: بمعنى أن للشوق حصصا وحضور الوقت دخيل في تخصيص الفاعلية بما كان شوقا باقيا عند حضور الوقت - فغير معقول، لأن المصحح والمحصص لابد أن يكون من سنخ المحصَّص، فمثلا المحرك المولد للكهرباء قابل للتحصيص بلحاظ مصدر طاقته فيقال: المحرك العامل على الغاز مولد للكهرباء، والمحرك العامل على النفط ليس مولدا للكهرباء، فهذا التحصيص معقول لأنه تحصيص بلحاظ منبع الطاقة، وأما إذا قيل: المحرك مولد للكهرباء عند الساعة الثانية عشر، والمحرك ليس مولدا للكهرباء عند الساعة الواحدة - مع أنه واحد من حيث القوة والطاقة - فهذا غير متصور، لأن الزمن والوقت ليس من سنخ مصادر طاقة الكهرباء كي يكون محصصا له ومصححا لفاعليته، ونفس الإشكال يأتي هنا، وهو محركية القوة الباعثة للقوة العاملة، فإنه إذا قيل: هذه الباعثية نوعان: الشوق المستند إلى إدراك العقل للمصلحة اللازمة باعث، والشوق الذي لا يستند إلى إدراك العقل للمصلحة اللازمة ليس بباعث، فهذا تحصيص معقول، وأما إذا قيل: إن الشوق البالغ حد النصاب هو من القوة الباعثة للقوة العاملة في شهر رمضان، وليس من القوة الباعثة قبل شهر رمضان، فهذا لا معنى له إذ الشوق من مقولة الكيف والباعثية من مقولة الفعل، وليس نفس حضور الوقت ولا صورته صالحا لتحصيص الشوق أو تنويعه لأنه ليس من سنخه ولا مقولته.

وأما الثاني - وهو أنه متمم لقابلية القابل وهو حركة العضلات - فالمفروض أن حركة العضلات تامة القابلية لسلامة الجسم وعدم وجود المانع من الصوم، فلا يعقل توقفها على حضور الوقت.

فتحصل: أن حضور الوقت ليس مصححا لفاعلية الفاعل ولا متمما لقابلية القابل، وإنما هو دخيل في قابلية الفعل للوجود، وإذا لم يكن الفعل قابلا للوجود - لكونه موقتا فلا يعقل حصوله قبل وقته - لم تتحقق الإرادة لالتفات المشتاق إلى أن ما يريده فعل غير قابل للوجود فلا تتحقق عنده قوة باعثة للقوة العاملة.

logo