« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/05/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

الوجه الثاني: أن مطلب صاحب الكفاية قدس سره من أن الإرادة هي عبارة عن الشوق المؤكد المحرك للعضلات تحريكا شأنيا - ولذلك يمكن تعلقها بالفعل المستقبلي - إنما يتم بالتفكيك بين ذات الإرادة وتأثيرها، بأن يتصور وجود الإرادة في أفق النفس، ومع ذلك لا تأثير لها في حركة العضلات، إذ لا يمكن دعوى أن الإرادة التي هي علة تامة لحركة العضلات مما يمكن أن يكون معلولها حصول الحركة في زمن متأخر عنها، فإن ذلك عبارة عن انفكاك العلة عن المعلول، وهو محال،فإنه بعد فرض أن الإرادة علة تامة لحركة العضلات فعدم حصول الحركة تفكيك بين العلة والمعلول، وإنما المدعى أن ذات الإرادة يمكن أن تحصل في النفس دون أن يحصل التحريك والتأثير الفعلي من قبلها.

والتعليق على هذا المدعى في مقامين:

المقام الأول: هل يتصور في الإرادة أن يكون لوجودها مقام ولتأثيرها مقام آخر فيشترط تأثيرها بشيء في طول وجودها؟ أي أنها إنما تؤثر في حركة العضلات بواسطة حضور الوقت مثلا، نظير النار فإنها فاعل بالواسطة - أي: بواسطة اقتراب الجسم منها - إذ ما لم تحصل الواسطة لا تكون النار فاعلا، ففي الأسباب الخارجية يتصور الفاعل بالواسطة، بحيث يكون الفاعل تاما في نفسه ولا يؤثر إلا بواسطة أمر آخر كما في مثال النار، وأما في الفاعل النفساني كالإرادة فهل يتصور أن تكون فاعلا بالواسطة لا بالمباشرة؟.

الصحيح: أن الإرادة من سنخ من الفواعل التي لا تتصور فاعليته بالواسطة.

والوجه في ذلك ملاحظة أمور ثلاثة :

الأمر الأول: أن الإرادة ميلٌ نفساني، لأن الإرادة - كما عبر عنها في كلماتهم - تارة بهجمة النفس على الفعل، أو تصميم العزم على الفعل، أو الإشراف على الفعل، مما يعني أنها حالة من الهيجان نحو فعل معين كما لو أراد العطشان شرب الماء، فإنه يجد من نفسه هجمة وإشرافا على هذا الفعل - وهو شرب الماء - فلا يتصور في الإرادة أن تحدث من دون أن تكون ميلا وهجوما على فعل معين، وإلا لم تكن إرادة - فهي معنى لا ينفك فيه ذات الميل عن كونه ميلا -.

الأمر الثاني: إن الميل النفساني موجب للميل الطبيعي، بمعنى متى مالت النفس إلى شيء أمالت معها طبيعة البدن نحو ذلك الشيء، فإن علقة النفس بالجسد أقوى من علقة الفاعل بأداته والكاتب بقلمه، فإذا كانت إمالة الكاتب يده نحو الكتابة إمالة للقلم نحو الكتابة لا محالة، فكيف بالميل النفساني الشديد السيطرة والإحاطة بالجسد أن لا يكون ميله موجبا لميل الطبيعة، لذلك لا يعقل أن يحصل ميل نفساني مع عدم ميل طبيعي من الجسد نحو عمل معين، فما تتوجه إليه الإرادة يتوجه إليه الجسد لا محالة - إذ لا يعقل وجود الميل النفساني الذي ليس موجبا لميل الطبيعة الجسدية نحو الحركة -.

الأمر الثالث: إذا مال الجسد تأثرا بالنفس نحو فعل معين حصلت حركة العضلات لا محالة، فإن ميل طبيعة الجسد يعني هيجان القوة العاملة المنبثة في العضلات، وهيجان القوة العاملة المنبثة في العضلات هو عين حركة العضلات، فدعوى حصول الإرادة مع جمود العضلات غير معقول.

ولذلك عبر السيد الأستاذ مد ظله عن هذه النقطة - وهي استتباع هجوم النفس على عمل بميل الجسد وانقياده نحو حركة العضلات - أنه عبارة عن إشارة الدماغ للأعصاب بالحركة، فمتى أعطى الدماغ إشارة للأعصاب بالحركة تحركت العضلات، ولا يتصور الفاصل بين الإشارة الدماغية وحركة العضلات.

والحاصل: أن وجود الإرادة من دون تحريك فعلي غير معقول، لأنه يعني الفصل بين الإرادة وفعلها، والحال أن الإرادة فاعل بالمباشرة لا بالواسطة.

ولكن قد يقال: إن المرجع في ذلك إلى طبيعة متعلق الإرادة، فإن كان متعلقها حاضرا كشرب الماء أو المشي فالأمر كما أفيد، وأما إذا كان متعلقها فعلا مؤقتا، فما أرادته النفس وأشرفت عليه وصممت العزم عليه هو الحج في وقته والصوم في وقته والزيارة في ليلة الجمعة، فعدم انفكاك الميل النفساني عن الميل الطبيعي وتحرك العضلات إنما يتم في الأفعال غير المتوقفة على ظرف معين، وأما في الفعل المؤقت بزمن أو المتوقف على ظرف معين، فيتعين فيه عقلا أن يكون المراد في زمنه وإلا لتخلف المراد عن الإرادة، إذ المفروض أن الإرادة لم تتعلق بفعل حين الإرادة بل تعلقت بفعل في ظرف معين، ومقتضى ذلك أن التلازم بين الميل النفساني والميل الطبيعي إنما يسير على طبق ما تعلقت به الإرادة، فإن تعلقت بالفعل الحاضر أو الفعل ذي المقدمات المقدورة كانت الملازمة بينهما فعلية، وإن تعلقت بالفعل في زمانه ووقته كانت الملازمة بينهما شأنية.

المقام الثاني: - بغض النظر عما ذكر في المقام الأول من أن الإرادة فاعل مباشر لا فاعل بالواسطة - أنه هل يتصور ما ادعاه صاحب الكفاية قدس سره من أن حضور الوقت أو الظرف المعين شرط في الإرادة أم لا؟

والتحقيق: أن كون حضور الوقت شرطا يحتمل معنيين:

الأول: أن يكون شرطا متمما.

الثاني: أن يكون شرط في التأثير.

أما الأول فيعني أن الشوق قبل حضور الوقت - كما لو اشتاق المؤمن الآن للزيارة ليلة الجمعة - كان ناقصا، وإنما يكون شوقا تاما بالغا حد النصاب - وهو نصاب القوة الباعثة لحركة العضلات - ليلة الجمعة، فيكون حضور الوقت شرطا متمما، وهذا عين ما نقوله من أنه لا إرادة قبل حضور الوقت، وإنما تتحقق عند حضور الوقت.

وأما الثاني فيعني أن الإرادة حاصلة بالفعل - وهو ما يقول به صاحب الكفاية قدس سره - وحضور الوقت إنما هو شرط في التأثير، أي: أن القوة الباعثة عند حصول الإرادة باعثة شأنا لا فعلا. وهو ممنوع فإن حضور الوقت إما شرط في بلوغ الشوق النصاب وهذا يعني عدم تحقق الإرادة قبل الوقت، وإما شرط في الشوق البالغ حد النصاب فهذا يعني التفكيك بين القوة الباعثة والقوة العاملة، - لأن بلوغ القوة الباعثة في بعثها حد النصاب مع عدم انبعاث العاملة - تناقض بين، فإن النفس ذات حركة بين منازلها الأربعة: المنزل الأول: تعقل الفعل الذي يفيد ذاتها، والمنزل الثاني: انبعاث القوة الشوقية نحو ما أدركت أنه يفيدها، المنزل الثالث: أنها إن لم تجد مزاحما ومانعا فإن الشوق يخرج من حد النقص إلى الكمال، وهذا يعني بلوغ الشوق درجة القوة الباعثة، والمنزل الرابع: انبعاث القوة العاملة عن القوة الباعثة المساوق لحركة العضلات، وهذا الانبعاث الذي هو حركة الجسد - عند أهل المعقول - منزل من منازل النفس، وليس أمرا خارجيا محضا، وحينئذ كيف يكون الفعل النفساني علة للفعل الخارجي مع عدم المسانخة بينهما؟

logo