46/05/10
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
رجوع القيد للمادة المنتسبة: حيث إن المحقق النائيني قدس سره التفت إلى أن رجوع القيد إلى الهيئة - وهي معنى حرفي - مستحيل، ورجوع القيد إلى المادة خلاف ظاهر القضية الشرطية لذلك ذهب إلى حل وسط، وهو عدم رجوع القيد إلى المادة ولا إلى الهيئة، بل مرجع القيد هو المادة المنتسبة، إلا أن عبارة تقريره في أجود التقريرات عبارة مجملة - كما ذكر السيد الروحاني في المنتقى والسيد الحكيم السبط في المحكم قدس سرهما -.
وبيانها يقتضي عرض المحتملات في القضية الشرطية وهي ثمانية محتملات:
المحتمل الأول: أن مرجع القيد في (إن استطعت فحج) - وهو الاستطاعة - إلى نفس النسبة الطلبية الذي هو مدلول للهيئة، وقد سبق أن مدلول الهيئة معنى حرفي، والمعنى الحرفي لا يقبل التقييد على مبانيهم.
المحتمل الثاني: أن مرجع القيد إلى المادة، بمعنى أن المولى قيّد الحج بالاستطاعة أولا ثم أمر به، فما هو المأمور به هو الحج المتصف بالاستطاعة في رتبة سابقة على الأمر بحيث تكون الاستطاعة قيدا في الصحة لا قيدا في الوجوب، وهذا خلاف المتسالم عليه من أنه لا دخل للقيد في القضية الشرطية كالاستطاعة في الصحة، فإن دخله فيها مخالف لظاهر القضية الشرطية.
المحتمل الثالث: أن القيد في عرض المادة من حيث كونه معرض للوجوب، بمعنى أن المولى أمر بفعلين: الاستطاعة والحج في عرض واحد، وهذا باطل بالضرورة، فلم يحتمل أحد أن تكون الاستطاعة واجبة في حد نفسها وإلا لخرجت عن كونها شرطا وقيدا، وهو خلف ما يستفاد من القضية الشرطية من كونها قيدا.
المحتمل الرابع: أن الحج الذي هو المادة معروض لأمرين في آن واحد وهما: الوجوب والاستطاعة، أي: كما أن الوجوب المستفاد من الهيئة عارض على الحج فالاستطاعة المستفادة من الشرط عارض على الحج، فكأن الحج مقيد بأمرين في عرض واحد وهما الاستطاعة والوجوب، وهذا يعني أن الاستطاعة ليست قيدا في الوجوب ولا في الواجب، فليست قيدا في الوجوب إذ المفروض أنه لم يشترط بها مدلول الهيئة بل هي راجعة للمادة، كما أنها ليست قيدا للواجب لأنه عبارة عما تقيدت به المادة في رتبة سابقة على الأمر، والمفروض أن المادة - وهي الحج - قد تقيدت بالاستطاعة في عرض طرو الوجوب عليه لا في رتبة سابقة على الوجوب، فإذا لم تكن الاستطاعة قيدا في الوجوب ولا قيدا في الواجب بما هو واجب فيجزي في حق المكلف أن يحج بدون استطاعة، فإذا حج بدون استطاعة فقد امتثل الوجوب حيث إن الوجوب لم يقيد متعلقه بالاستطاعة، بل الاستطاعة قيد في عرض الوجوب، وهو مضافا لمخالفته لظاهر الشرطية مما لا إشكال في بطلانه.
المحتمل الخامس: أن الوجوب عارض على المادة - وهي الحج - في ظرف الاستطاعة لا بقيدها، بحيث يكون مرجع القضية الشرطية إلى القضية الحينية، أي: يجب الحج حال الاستطاعة لا بقيدها.
المحتمل السادس: أن الاستطاعة قيد للحج في ظرف الوجوب لا بقيده، أي أنها قيد في الحج في حال وجوبه لا مطلقا، فمرجع القضية الشرطية في المحتمل الخامس والمحتمل السادس إلى القضية الظرفية.
ويلاحظ على كلا المحتملين: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في عدة موارد من أنه لا توجد قضية حينية في الأمور الاعتبارية وإنما تتصور في الأمور الخارجية كأن يقال: (زيدٌ عالمٌ حال موت أخيه) من باب الاتفاق من دون ربط بينهما، وأما في الاعتباريات فمرجع القضية الحينية إلى قضية شرطية لا محالة، لأن الاعتبار فعل اختياري صادر من المولى بداعي تحصيل ملاك معين، ومقتضى ذلك أن أي قيد يؤخذ في مقام الاعتبار فهو لا محالة يكون دخيلا في الملاك الداعي نحو الفعل الاختياري أو دخيلا في متعلقه، وأما القضية الحينية فلا مسرح لها في القضايا الاعتبارية، لذلك لا معنى لأن يقال: إن الوجوب عارض على الحج حال الاستطاعة من دون تقييدٍ، أو أن الاستطاعة قيد للحج حال وجوبه من دون تقييد.
كما أنه يلاحظ على المحتمل الخامس: أن الوجوب إما لا فعلية له إلا عند فعلية الاستطاعة فمرجعه إلى تقييد الوجوب، وإما أن الوجوب فعلي قبل حصول الاستطاعة، والواجب هو الحج في ظرف الاستطاعة من دون أن تكون الاستطاعة مطلوبةً - بمعنى أن الاستطاعة قيد في الواجب لكن لا بنحو يجب تحصيلها - وهذا هو الواجب المعلق، لأن الواجب المعلق عبارة عن كون الوجوب فعليا في مرحلة سابقة على القيد من دون كون القيد مطلوبا، وإنما المطلوب هو الحج في ظرف الاستطاعة، والمفروض أن الواجب المعلق مما لا يقبله المحقق النائيني قدس سره.
المحتمل السابع: ما احتمله سيدنا الخوئي قدس سره في مقام مناقشته لشيخه المحقق النائيني قدس سره: وهو أن القيد ليس راجعا للوجوب ولا للواجب ولكنه راجع لنسبة الوجوب للواجب، أي أن الربط بين مفاد الهيئة - وهو الوجوب - ومفاد المادة - وهو الحج - مقيد بالاستطاعة، وهذا مورد لنفس المحذور، لأن الربط معنى حرفي، فلو رجع القيد إليه لكان تقييدا للمعنى الحرفي، وهو ما أراد المحقق النائيني الفرار منه.
المحتمل الثامن: ما احتمله المحقق الإصفهاني قدس سره في نهاية الدراية تعليقا على كلام المحقق النائيني واحتمله السيد الصدر قدست أسرارهم في بحث المفاهيم، من أن مقصود المحقق النائيني قده من أن القيد - وهو الاستطاعة - راجع للمادة المنتسبة هو أن القيد راجع للحج لا بما هو هو بل بما هو واجب، أي أن المولى قام بمرحلتين: الأولى هي عروض الوجوب على الحج، الثانية: أنه في طول كون الحج واجبا يكون الحج الواجب مقيدا بالاستطاعة، فالاستطاعة ليست قيدا في نفس الوجوب ولا في الحج في رتبة سابقة على الوجوب، وإنما هي تقييد للحج بما هو واجب، أي: في طول عروض الوجوب عليه، وعروض الوجوب على الحج ليس من باب التقييد كي يقال: إن الوجوب معنى حرفي والتقييد معنى حرفي والمعنى الحرفي لا يقبل ورود معنى حرفي آخر عليه، وإنما هو فعل اختياري وهو البعث نحو الحج وبه تم اتصاف الحج بكونه واجبا، وفي رتبة متأخرة عن اتصاف الحج بكونه واجبا قيد بالاستطاعة ولا محذور عقلي في ذلك.
ولكنه ليس ظاهرا من القضية الشرطية، فإن المستفاد من الجملة الشرطية الربط بين جملتين: جملة الشرط وجملة الجزاء، والمفروض أن مدلول جملة الجزاء هو ذات النسبة البعثية أو الطلبية، فإذا كان مرجع القيد إلى النسبة البعثية عاد محذور تقييد المعنى الحرفي، وأما اتصاف المادة بالوجوب أو المادة الواجبة فهو معنى اسمي مستفاد بالمدلول الالتزامي للجملة الشرطية وليس مدلولا للهيئة كي يكون محلا للتقييد، فهو نظير أن يقال: إن النسبة البعثية بما هي معنى اسمي لا بما هي معنى حرفي هي مورد التقييد بالاستطاعة، وبه يندفع الإشكال بلا حاجة إلى إرجاع القيد للمادة المنتسبة، فإنه إذا أريد حل الإشكال مطلقا ولو بما لا ينسجم مع ظاهر القضية الشرطية فلا تنحصر المحتملات في ما ذكره المحقق النائيني قدس سره.
فتلخص من ذلك كله: أن الصحيح الموافق لظاهر الجملة الشرطية بحسب المتبادر عند أبناء اللغة العربية رجوع القيد إلى نفس مدلول الهيئة وإن كان معنى حرفيا، لأن المعنى الحرفي كلي قابل للتصور وقابل للتقييد والتعليق من دون أي إشكال في البين.
تم الكلام في الواجب المشروط.