46/05/09
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
وقد تلخص مما سبق مطالب ثلاثة:
الأول: أن البحث في قابلية المعنى الحرفي للتقييد وعدمه يبتني على أن المعنى الحرفي ذو تقرر مفهومي من جهة وكلي من جهة أخرى ، وقد تبين من الأبحاث السابقة أن كون المعنى الحرفي متقوما بالطرفين في وجوده لايسلخه عن كونه كليا، كما أن كون المعنى الحرفي قابلا للتقييد فرع تقرره المفهومي – لعدم معقولية أن يكون ما هو معرض للتقييد أمرا لا تقرر له في عالم المفاهيم – وبعبارة أخرى: قابلية المعنى للتقييد فرع أن يكون له مدلول تصوري، بغض النظر عن ثبوت ماهية له باصطلاح الفلاسفة وعدمه.
الثاني: أنه لا مدرك يمكن الاتكاء عليه في إثبات التقرر المفهومي وعدمه إلا الوجدان العرفي، وقد قلنا : إن الوجدان قائم على أن للمعنى الحرفي تقررا مفهوميا، والشاهد على ذلك أن المتبادر من الحروف والهيئات معنى على مستوى التصور، فإذا مرت جملة من متلفظ لا شعور له نحو (زلزلة في النجف) فزعنا منها وإن كان مدلوليا تصوريا محضا، وكذا إذا مرت علينا جملة (كرامة في كربلاء) فرحنا بها وإن كان مدلولا تصوريا محضا، مما يؤكد أن للمعنى الحرفي مدلولا تصوريا بغض النظر عن عالم التصديق والإخبار والإنشاء.
كما أنه لو نطق الإنسان بجملةٍ – كما لو قال: (اذهب إلى هناك) أو قال: (سر من النجف) – فإن ما يتبادر في ذهن السامع هو نفس ما يتصوره المتكلم عند إلقائه للجملة، ولا يرى أن بين ما يتبادر منها في ذهن المتكلم عند التلفظ بها ومايتبادر منها عند السامع نسبة المماثل للماثل أو نسبة المباين للمباين، بل ما تبادر في ذهن السامع عين ما أراد المتكلم تفهيمه بالنسبة إليه.
الثالث: أن كون النسبة تعلقية - بطرفيها أو بطرفها - لا يمنع من قابليتها للتقييد، فإن هذه النسبة تارة تلحظ آلة لطرفيها وبهذا اللحاظ لا يعقل تقييدها، وتارة تلحظ بما هي متقيدة بطرفيها على نحو دخول التقيد وخروج القيد- بحيث لا تخرج بذلك عن كونها نسبة - وهي بهذا اللحاظ قابلة للتقييد وإن كانت أمرا تعلقيا.
هذا تمام ما يتعلق بالمناقشة المبنائية.
وأما المناقشة في البناء فقد أفاد السيد الروحاني قدس سره[1] تحت عنوان (والتحقيق) أموراً ثلاثة:
الأمر الأول: أن الجملة في حد ذاتها خبرية أو إنشائية لا تفيد الثبوت ولا عدمه، فإن الثبوت خارج عن مدلولها، فإذا قلنا: (زيد عالم أو قائم ) فإنه لا دلالة للجملة إلا على النسبة الاتحادية، بمعنى أن الموضوع والمحمول متحدان مصداقا، وأما أن الاتحاد ثابت أم لا؟ فلا تعرض للجملة له، وكذلك الجملة الإنشائية، فإذا قلنا: (سر من النجف) فإنها لا تدل إلا على ذات النسبة الطلبية، وأما أنها نسبة فعلية أم لا؟ فلا دلالة فيها على ذلك.
الأمر الثاني: أن الإخبار والإنشاء خارجٌ أيضا عن إطار الجملة، فالجملة شيءٌ، ووقوعها في مقام الإخبار والإنشاء شيءٌ آخر، مما يعني أن للإخبار والإنشاء مدلولا زائدا على مدلول أصل الجملة، فمثلا: الإنشاء هو قصد تحقيق المعنى، فإذا قال: (اذهب) و(سر من النجف) فقد قصد تحقيق الطلب بالفعل ، وهو خارج عن ذات الجملة، وكذلك مقام الإخبار، فإذا قال: (سهل بن زياد ثقة) أو (المعلى بن خنيس ثقة) وهو في مقام الإخبار والحكاية فقد قصد الحكاية عن اتحاد الموضوع والمحمول في مصداقٍ في الخارج.
الأمر الثالث: أن الجملة الشرطية تفيد تعليق ثبوت النسبة في الجزاء على الشرط، لا نفس المعنى الحرفي للجزاء، سواءٌ أكانت الجملة خبرية أم إنشائية، فمثلا: الجملة الخبرية (إن كان الشيخ الكليني قد روى عن سهل بن زياد ثلث الكافي على نحو الاعتماد على ما تفرد به من رواية الأحكام الإلزامية فسهل بن زياد ثقة) فالمقصود هنا تعليق ثبوت الوثاقة على الشرط، لا تعليق نفس النسبة المستفادة من جملة الجزاء على الشرط ، فمضمون الجملة الشرطية وإن كان هو التعليق والربط إلا أنه ليس المعلق مدلول الهيئة والحرف الذي هو معنى حرفي، بل المعلق ثبوت هذا المدلول على الشرط، ومن الواضح أن الثبوت معنى اسمي وليس معنى حرفيا، وكذلك في الجملة الإنشائية كما إذا قال: (إذا زرت أمير المؤمنين فزر الحسين) فإن المقصود تعليق ثبوت النسبة الطلبية على حصول الشرط، فبما أن المعلق هو الثبوت والثبوت معنى اسمي - سواء أكان المعلق جملة خبرية أم إنشائية - فيقع التصالح بين الوجدان والبرهان، فإن المتبادر في الوجدان من الجملة الشرطية أنها ربط بين مفهومين تركيبيين، وهذا مما لم يرفع اليد عنه وإن أضيف إليه عنصر إسمي وهو الثبوت، والبرهان قائم على امتناع تقييد المعنى الحرفي لأنه من سنخ الوجود، فمقتضى التوفيق بين الوجدان والبرهان أن المعنى الحرفي لا يقبل التقييد، ولكن لم يحصل في الجملة الشرطية تعليق لمدلول الهيئة في الجزاء، وإنما المعلق أمر خارج عن مدلول الهيئة وهو الثبوت، وهو معنى اسمي.
ولكن يلاحظ على ما أفيد من قبل سيد المنتقى قدس سره ما هو مجموع أمور ثلاثة:
الأول: من الواضح أن التعليق لا يعقل في المفاهيم التصورية بغض النظر عن الوقوع - ولو كان على سبيل الفرض - كتعليق مفهوم الإنسان على مفهوم الكر، وإنما يعقل التعليق بلحاظ الوقوع، مما يعني أن مورد التعليق مداليل الجمل بما لها من فناء وإشارة للوقوع ولو زعما، وإلا فما لم تلحظ دلالة الجمل على شيء فلا معنى للتعليق بين المفاهيم التصورية، فلا بد من لحاظ عالم الوقوع.
الثاني: قد اختلف الأعلام في مدلول الجملة الشرطية من حيث إفادتها التعليق المنتج لثبوت المفهوم وعدمه ، فالمحقق الإصفهاني قده مثلا لا يرى أن مفاد الجملة الشرطية هو التعليق - كما سيأتي في بحث مفهوم الشرط - ، وإنما تفيد الثبوت في فرض الثبوت، فإذا قلت مثلا: (إن كان زيدٌ يجيء فعمرو يجيء) فلا تعليق، بل المقصود الإخبار عن مجيئ عمرو في فرض معين وهو مجيء زيد.
ولكن بناء على القول بأن الجملة الشرطية تفيد التعليق فهل المعلق على الشرط خارج عن مدلول الهيئة - وهو الثبوت بالمعنى الاسمي كما ذكره سيد المنتقى قدس سره - أم أن المعلق على الشرط نفس مدلول الهيئة - كما هو الظاهر وجدانا - فإذا قال : (زر الحسين عليه السلام إذا زرت أمير المؤمنين عليه السلام) فإن المتبادر منه أن المعلق نفس مفاد (زر) على هذا الشرط لا معنى خارج عنه ، وكذلك في الجملة الخبرية نحو (إن جاء زيد جاء عمرو) فإن الظاهر منها أن المعلق نفس مفاد الجملة الجزائية لا أمر خارج عن مفادها وهو الثبوت بالمعنى الاسمي كما يقال.
الثالث: بما أن الظاهر من الجملة الشرطية تعليق نفس مدلول الهيئة والجزاء، كما أن التعليق لايعقل في المداليل التصورية بما هي، فلا بد من تحرير مدلول الجزاء بنحو يكون قابلا للتعليق، فمثلا مدلول الجملة الطلبية نحو (زر الحسين) هو النسبة الطلبية لكان لا بما هي ماهية كسائر الماهيات، بل بما لها من فناء وإشارة لعالم الفعلية، والمعلق على الشرط هو هذه النسبة الطلبية ذات الإشارة للفعلية، وبالتالي فالمعلق هو الثبوت لكن بالمعنى الحرفي الذي لا يكون خارجا عن مدلول الهيئة، وكذلك في الجملة الخبرية، فإن المعلق على الجزاء الثبوت بالمعنى الحرفي، والثبوت بالمعنى الحرفي مستبطن في مدلول الجملة نفسها وليس خارجا عنها، لأنه عبارة عما يشير إليه مفاد الجملة أو الهيئة بحسب الطبع، فإذا كان المعلق هو الثبوت بالمعنى الحرفي عاد الإشكال مرة أخرى، والجواب ما سبق من أن المعنى الحرفي أمر قابل للتقرر المفهومي كلي فهو قابل للتقييد والتعليق.