46/05/03
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
الأمر الثالث: أن ورود المعنى الحرفيّ - وهو الربط - على المعنى الحرفي - وهو النسبة المستفادة من الجزاء والشرط - غير معقول على جميع المباني في تحقيق المعنى الحرفي، وهي:
المبنى الأول: مبنى المحقق الآخوند قدس سره، وهو أنه لا فرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي من حيث الموضوع له، أي لا فرق بين عنوان الابتداء وعنوان (مِن) من حيث الموضوع له، وإنما الفرق بينهما في ما ينتزع من عالم الاستعمال، فإن الابتداء في عالم الاستعمال إن كان ملحوظا على نحو الآلية انتزع منه المعنى الحرفي، وإن كان ملحوظا على نحو الاستقلالية انتزع منه المعنى الاسمي، وبناءً على هذا الفارق يكون الإشكال في الربط بين المعنى الحرفي بالمعنى الحرفي هو اجتماع اللحاظين - الآلي والاستقلالي - في المعنى الحرفيّ. وبيان ذلك: أن المولى إذا قال: (إذا استطعت فحج) فهنا نسبتان: النسبة الطلبية المستفادة من الجزاء ونسبة الاستطاعة للمكلف المستفادة من الشرط، والربط بينهما بأداة الشرط، وحيث إن الربط معنى حرفي فلابد من لحاظه آلة لطرفيه ، إذ لا يمكن لحاظ الربط لحاظا استقلاليا فإنه خلف كونه ربطا، لذلك لا بد من لحاظه آلةً لطرفيه وهما النسبتان، وبما أن الطرفين معنيان حرفيان والمعنى الحرفي ملحوظ باللحاظ الآلي لزم من ذلك في كل طرف منهما اجتماع اللحاظين، فكل طرفٍ بما هو معنى حرفيّ يلحظ باللحاظ الآلي، وبما أنه طرف للربط يلحظ باللحاظ الاستقلالي ، فبما أن كل طرف منهما ملحوظ باللحاظ الاستقلالي لأنه طرف للربط وملحوظ باللحاظ الآلي لأنه معنى حرفي، فلازم الربط بين المعنيين الحرفيين اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في كل من الطرفين، وهو غير معقول.
المبنى الثاني: مبنى المحقق النائيني قدس سره، وهو أن الفارق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي أن المعنى الحرفي إيجادي والمعنى الاسمي إخطاري، وبيانه - بحسب تحليل سيد المنتقى قدس سره لمسلكه- بذكر أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن الأشياء على نحوين:
النحو الأول: ما يخرج عن حد اللحاظ إلى الملحوظ، أي: ما يمكن لحاظه على نحو الاثنينية، وهي ماهية ووجود، وهذه هي المفاهيم الاسمية، سواء أكان جوهرا - كتصور الإنسان - أو عرضا - كتصور القيام - أو عنوانا انتزاعيا - كعنواني الربط والنسبة -، فإن هذه العناوين مما يمكن تصورها في الذهن على نحو الاثنينية، أي: يتصور لها ماهية ولها وجود، فيقال: (الإنسان يوجد، والقيام يوجد، والربط يوجد) فما يتصور على نحو الاثنينة: الماهية والوجود فهو من المعاني الإخطارية أي: المعاني الإسمية.
النحو الثاني: ما لا يخرج عن حد الإشارة اللحاظية إلى حد الملحوظ على نحو الاثنينة، وهذا هو الأمر الإيجادي، مثلا: وجود الربط بين الإنسان وقيامه، حيث إن الإنسان جوهر والقيام عرض وكلاهما وجود في نفسه فلا بد من ربط بينهما، والربط بين الإنسان وقيامه بما هو وجود ليس له ماهية ووجود، فهذا الوجود لا يخرج عن حد الإشارة إلى حد الملاحظة على نحو الاثنينية بأن يكون له ماهية ووجود، فإن الربط الخارجي عين الوجود، فكيف يتصوره الذهن على نحو الاثنينية ، فإن هذا خلف كونه عين الوجود، فبما أن هذا الربط الخارجي بين الإنسان وقيامه مما لا يعقل خروجه عن حد الإشارة صح التعبير عنه بأنه أمر إيجادي لا إخطاري، لأن خطوره يعني تصور مفهومه ووجود عارض عليه وهو لا يقبل ذلك.
الأمر الثاني: كما أن النسب الخارجية - كالربط بين الإنسان وقيامه والربط بين السير من البيت إلى الحرم - هي عين الوجود فلا يتصور لها خطور على نحو الاثنينية فكذلك النسب الذهنية، فإن النسب الذهنية أيضا نحو من الوجود، غاية ما في الأمر أن ظرف وجودها الذهن، والنسب الخارجية ظرف وجودها الخارج، فلو تصورت في ذهني إنسانا قائما فتصور إنسان قائم يعني أن هناك نسبة بين الإنسان وقيامه في الذهن، كما أن هناك نسبة بين الإنسان الخارجي والقيام ، وبما أن النسبة والربط الذهني من سنخ الوجود فلا يقبل أن يخرج من حد الإشارة إلى حد الملحوظ على نحو الاثنينية: الماهية والوجود، والمعنى الحرفي عبارة عن نسبة ذهنية وربطٍ بين مفهومين، ولا واقع له إلا أنه وجود يشار إليه لا أكثر من ذلك.
الأمر الثالث: أن المحقق النائيني قدس سره عبر عن المعاني الحرفية بأنها النسب الكلامية، والمقصود بالنسب الكلامية بناءً على ما سبق أنها هي النسب الذهنية، وإنما عبر عنها بالنسب الكلامية لأنه لا واقع لها وراء الذهن إلا في الكلام، وإلا فإن النسب الذهنية يستحيل أن تخرج عن وعائها - وهو الذهن - إلى الواقع الخارجي إلا عبر الكلام مجازا، فالنسبة بين مفهوم القيام ومفهوم الإنسان هي: (الإنسان قائم) والتعبير بالكلام عن تلك النسبة ليس إخطارا لها وإنما هو إشارة محضة .
هذا شرح مبنى المحقق النائيني كما أفاده سيد المنتقى قدس سرهما، وقد صرح باختياره[1]
والنتيجة أنه بناء على هذا المبنى فالمعنى الحرفي لا يقبل الربط من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، لأن المعنى الحرفي عين الوجود الخارجي والوجود الذهني، فإذا كان هو عين الربط الذهني فالربط الذهني لا يقبل الربط وإلا خرج عن كونه ربطا.
المبنى الثالث: مبنى المحقق الإصفهاني قدس سره، وبيانه بذكر أمرين:
الأمر الأول: أن الوجود على أقسامٍ أربعة: الوجود في نفسه لنفسه بنفسه وهو وجود الواجب، والوجود في نفسه لنفسه بغيره وهو وجود الجواهر، والوجود في نفسه لغيره وهو وجود الأعراض، والوجود لا نفسه، وهذا هو المعبر عنه بالوجود الرابط.
إن الوجود رابط ورابطي ... ثمت نفسي فهاك واضبط
فالوجود الرابط ليس له نفسية إطلاقا بل هو عين الربط وليس شيئا له الربط، وبما أن الوجود الرابط عين الربط وعين الاندكاك في الطرفين ولا استقلالية له عنهما فالوجود الرابط ليس له ماهية، أو فقل: لا حقيقة له إلا أنه عين الربط وليس شيئا له الربط.
الأمر الثاني: أن المعنى الحرفي كالوجود الرابط، ومقصوده بذلك أن الوجود الرابط وجود خارجي، وأما المعنى الحرفي فهو نسبة ذهنية، فلذلك قال : إن المعنى الحرفي كالوجود الرابط، أي: كما أن الوجود الرابط ليس له ماهية تلحظ ويضاف إليها الوجود فكذلك المعنى الحرفي عبارة عن روابط ونسب ذهنية ليس لها ماهية يضاف إليها الوجود.
وبشرحه قدس سره لكلام المحققين النائيني والأصفهاني يتبين أنه لا يرى فرقا بين المبنيين.
والنتيجة أنه على مبنى المحقق الإصفهاني أيضا لا يعقل ثبوت الربط للمعنى الحرفي لأنه عين الربط فكيف يكون للربط ربط؟
المبنى الرابع: مبنى سيدنا الخوئي قدس سره الشريف، وبيانه بذكر أمور:
الأمر الأول: أن سيدنا الخوئي قدس سره أشكل على كلام المحققَين بأنه لو كان المعنى الحرفي عين الوجود ولا يمكن إخطاره في الذهن لما صح الوضع له، فإن الوضع فرع تصور المعنى ووضع اللفظ بإزائه، بل إن الغاية من الوضع هي التفهيم والتفهم، فلو كان المعنى الحرفي من سنخ الوجود الذي لا يقبل الخطور في الذهن لكان الوضع بلا هدفٍ، وهو موجب للغوية الوضع، فلا محالة يكون المعنى الحرفي معنى يقبل الخطور في الذهن كالمعنى الإسمي كما هو المشاهد بالوجدان عندما يقال: (زيد في الدار) و(خرجت إلى الحرم) فإن المتبادر من هذا وأمثاله معانٍ قابلة للخطور في الذهن.