« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/05/01

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

وحاصل ما تقدم في عرض كلام جملة من الأعلام أن المعنى الحرفي إن كان جزئيا إضافيا فهو قابل للتقييد والتعليق، وإن كان جزئيا حقيقيا فلا يقبل التقييد لأنه لا سعة فيه، ولا التعليق لأن الجزئي هو ما فرغ عن تشخصه بتمام قيوده، وفي طول تشخصه بتمام قيوده فإنه لا يقبل التعليق في وجوده على قيد من القيود، وهكذا الكلام بالنسبة إلى حاله، فإن الحال أيضا مما لا يقبل التقييد والتعليق ببيان سبق ذكره .

ولكن قد يقال في الدفاع عن المحققين الثلاثة الإصفهاني والعراقي والخوئي قدست أسرارهم الذين أفادوا بأن المعنى الحرفي وإن كان جزئيا إلا أنه يقبل التعليق، وبيان الدفاع بذكر أمور ثلاثة:

الأمر الأول: إنه لا يعقل وجود إمكاني مستقل، فهو إما لا استقلال له بلحاظ علته أو لا استقلال له بلحاظ موضوعه، أو لا استقلال له بلحاظ المادة، فما لا استقلال له بلحاظ علته كوجود الإحراق دون النار، وما لا استقلال له بلحاظ موضوعه كوجود الأعراض حيث لا استقلال لها في الوجود عن موضوعها، وما لا استقلال له إلا بالمادة كالصورة فإنه لا فعلية للصورة إلا بوجود المادة، وبالتالي فلا ممكن إلا وهو غير مستقل في الوجود بلحاظ أحد هذه الأنحاء، والمعنى الحرفي هو عنوان منتزع من عدم الاستقلالية، فإن كل نحو من أنحاء عدم الاستقلالية مما ينتزع منه المعنى الحرفي، بغض النظر عن نكتة عدم الاستقلال، ومن أوضح مصاديق المعنى الحرفي النسب، حيث إنها مما لا يعقل وجودها إلا بوجود طرفيها، مما يعني عدم انحصار المعنى الحرفي في معاني الحروف والهيئات بل هو عنوان انتزاعي عام لكل ما لا استقلال له في الوجود.

الأمر الثاني: أن الجزئية لها معنيان: الجزئية المساوقة للتشخص والتعين بتمام القيود الدخيلة في الوجود، وهو مصطلح أهل المعقول في الجزئية. والمعنى الآخر وهو الجزئية الناشئة عن الحرفية، لا الناشئة عن التشخص والتعين، ومعنى الجزئية الناشئة عن الحرفية هي الجزئية الناشئة عن عدم الاستقلال في الوجود، وهذا المعنى من الجزئية هو المنظور في كلمات الأعلام بعدم قبوله التقييد ، وإلا فالجزئية بمعنى التشخص مما لا يختص بالمعنى الحرفي، حيث إن المعنى الإسمي أيضا قبل تشخصه خارجا كلي يقبل التقييد والتعليق، وفي طول تشخصه خارجا لايقبل التقييد ولا التعليق، ومقتضى ذلك عدم اختصاص الإشكال بالمعنى الحرفي ، مع أن ذلك محور كلمات الأعلام مما يؤكد أن منظورهم المعنى الثاني للجزئية، وتكون نكتة الإشكال حينئذ هي أن المعنى الحرفي لا يقبل التقييد إلا بتقييد أحد طرفيه، إذ ما دام لا استقلال له لكونه متقوما بطرفيه فالتقييد لا يرد عليه فإن ذلك خلف تقومه بطرفيه، وإنما هو وارد على طرفيه حقيقة، فإذا تقيد الطرفان أو أحدهما تضيق المعنى الحرفي قهراً، إلا أنه تضيق بالتبع لا بالأصالة، مثلا: إذا قال المولى: (سر من النجف إلى كربلاء) والنسبة المستفادة من لفظ (من) معنى حرفي، فلو أراد المولى تقييد ذلك فقال: (سر من النجف إلى كربلاء ماشيا) أو (سر من النجف إلى كربلاء نهارا) أو (سر من النجف إلى كربلاء متقربا إلى الله) فكل ذلك قيود لأحد الطرفين، بمعنى أن قوله: (ماشيا ونهارا) تقييد للسير لا للنسبة الابتدائية، فإن النسبة الابتدائية لا وجود لها إلا بطرفيها، فلا يرد التقييد بالمشي والنهار والتقرب على نفس النسبة الابتدائية بل يرد على أطرافها كالسير، إذ النسبة بما هي نسبة ومعنى حرفي لا استقلال له ليست مصبا للتقييد وإنما مصب التقييد طرفاها، وإن كان تقييد الطرفين أو أحدهما يوجب تضيق دائرة النسبة الابتدائية، إلا أنه تضيق قهري لا تقييد مولوي اختياري كي يقال: إن المعنى الحرفي قابل للتقييد، فهذه هي نكتة الإشكال بأن مقتضى الجزئية الناشئة عن الحرفية - المنتزعة من عدم الاستقلال - عدمُ ورود التقييد على نفس المعنى الحرفي.

الأمر الثالث: ما أجاب به المحققون أعلى الله مقامهم من أن هذا التقرير للإشكال إنما يمنع التقييد، لكنه لايمنع التعليق، والوجه في ذلك: أن النسبة لها وجود وإن كان وجودها بطرفيها، إلا أن هذا الوجود المتقوم بالطرفين قابل للتعليق على قيد من القيود، فإذا قال المولى: (سر من النجف إلى كربلاء) فإن النسبة الابتدائية المتقومة بطرفيها قابلة للتعليق - لا بلحاظ ذاتها بل بلحاظ وجودها -على الشرط كما في قوله: (إذا زرت أمير المؤمنين عليا عليه السلام فسر من النجف إلى كربلاء) وكما أمكن تصوير التعليق بلحاظ النسبة الإبتدائية فإنه ممكن بلحاظ النسبة الطلبية المتقومة بالطرفين المستفادة من هيئة الأمر (سر)، فإن هذه النسبة المتقومة بالطرفين - الطالب والمطلوب منه - وإن امتنع تقييدها ولكن بلحاظ وجودها بما له من طرفين يمكن تعليقها، فلا فعلية لهذه النسبة الطلبية إلا بفعلية القيد وهو الزيارة. أو أن التعليق راجع لحال من أحوال النسبة، فإن النسبة لها أحوال أيضا بغض النظر عن طرفيها ، فقد تكون النسبة الطلبية نفسية وقد تكون غيرية وقد تكون مطلقة ومؤقتة وغير ذلك، فكما يمكن التعليق بلحاظ وجود النسبة فإنه يمكن التعليق بلحاظ حالٍ من أحوالها،

والحاصل: أن ذات النسبة لايقبل التقييد ولا التعليق إذ لاقوام لها إلا بطرفيها، ولكن وجودها المتقوم بطرفيها قابل للتعليق وإن لم يكن قابلا للتقييد .

هذا تمام بيانٌ الدفاع عما ذكره المحققون أعلى الله مقامهم، ولكنه هل ينسجم مع بعض عبارات المحقق الإصفهاني قدس سره حيث قال في[1] (إن المعاني الحرفية غير جزئية لا عينية ولا ذهنية بل جزئيتها وخصوصيتها بتقومها بطرفيها، كما أنها غير كلية بمعنى صدقها على كثيرين لأنها لا جامع ذاتي لها حتى يصدق على أفرادها . نعم كليتها بمعنى قبولها لوجودات لامحذور فيها لأن القدر المسلم من خصوصيتها هي الخصوصية الناشئة من التقوم بطرفيها فقط ، لكنه مع ذلك لامانع من تقييدها بمعنى أن البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها - الباعث والمبعوث والمبعوث إليه - ربما لا يكون له تخصص آخر غير ماحصل من أطرافها الثلاثة. وربما يكون له تخصص آخر من قبل ما علق عليه ، وإن لم يكن جامع ذاتي بين النسبة الغير المتخصصة بقيد والمتخصصة به، فكون النسبة البعثية في ذاتها خاصة لا ينافي زيادة تخصص لها من ناحية المعلق عليه) ثم قال[2] وهو موضع الشاهد (بل التحقيق: أن المعنى الإنشائي وإن كان جزئيا حقيقيا إلا أنه يقبل التقييد بمعنى التعليق على أمر مقدر الوجود، وإن لم يقبل التقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى ... إلخ) فتأمل .

المنشأ الثاني: وهو الإنشائية، فإن الإنشاء نوع من الإيجاد، وبالتالي فما يوجد بالإنشاء جزئي - بغض النظر عن كونه قد أنشئ بالهيئة أم بالمادة - لذلك لا يقبل التقييد والتعليق.

وقد صاغ سيدنا الخوئي قدس سره الإشكال[3] بصورة أخرى وهي: أنه لا يعقل التفكيك بين الإيجاد والوجود، فإن المولى إذا قال: (إن استطعت فحج) فهو لم يقصد تعليق الإنشاء على الاستطاعة لأن الإنشاء أمر فعلي منجز لا يقبل التعليق، وإنما قصد تعليق المنشأ وهو الوجوب على تحقق الاستطاعة، فإذا كان الإنشاء فعليا والمنشأ استقباليا لزم التفكيك بين المنشأ والإنشاء، أو فقل: لزم التفكيك بين الإيجاب والوجوب، فالإيجاب فعلي ولكن الوجوب لا فعلية له إلا بفعلية الاستطاعة، والتفكيك بين الإيجاب والوجوب تفكيك بين الإيجاد والوجود، ولا يعقل التفكيك بين الإيجاد والوجود، لأنه لا فرق بينهما إلا بالاعتبار، فإن الفعل إذا نسب إلى فاعله سمي إيجادا وإذا نسب إلى قابله سمي وجودا، فكما لا يعقل التفكيك بين الإيجاد والوجود فلا يعقل التفكيك بين الإيجاب والوجوب، فكيف يكون الإيجاب فعليا والوجوب معلق على الاستطاعة؟

والجواب الصحيح عن ذلك أن هناك فرقا بين الوجود الحقيقي والوجود الاعتباري، فإنه لا يعقل التفكيك بين الإيجاد والوجود في الوجودات الحقيقية ، ولكن البحث في المنشأ ذي الوجود الاعتباري فهل يعقل فيه ذلك أم لا؟ والصحيح أنه كما أن هناك معلوما بالذات ومعلوما بالعرض، فمثلا: إذا علمت بأن في الفاطمية الآتية في يوم الثالث عشر من شهر جمادى الأول يخرج موكب عزائي في النجف، فإن العلم فعلي، والمعلوم بالذات أيضا فعلي لأنه هو نفس الصورة الذهنية، ولا ينفك المعلوم بالذات عن العلم، ولكن المعلوم بالعرض - وهو الوجود الخارجي لهذا الموكب العزائي - متأخر زمانا، مما يعني أنه يعقل التفكيك بين العلم والمعلوم بالعرض، فكذلك يعقل التفكيك بين المعتبر بالذات والمعتبر بالعرض، فإن المولى إذا قال: (إن استطعت فحج) فمرجعه إلى اعتبار الوجوب في ذمة المكلف في فرض الاستطاعة، فالاعتبار فعلي، والمعتبر بالذات - وهو الوجود الإنشائي للوجوب - فعلي أيضا، لكن المعتبر بالعرض - وهو وجود الوجوب في عالم الاعتبار العقلائي - استقبالي معلق على وجود الاستطاعة، ولا إشكال في ذلك أصلا.

وبذلك يتبين وجه الخدشة في ما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره في المحاضرات من أنه لا جواب عن هذا الإشكال إلا على مبناه في حقيقة الإنشاء من أنه إبراز الاعتبار النفساني، وأما على مبنى القوم من أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ فلا يوجد جواب عن إشكال امتناع التفكيك بين الإيجاب والوجوب ، فإن الصحيح أنه لا فرق بين المبنيين من هذه الجهة ، فإن من قال بأن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ لا يقصد الوجود العيني الخارجي حتى يقال: إنه لا يعقل التفكيك بناء عليه بين الإيجاد والوجود، وإنما يقصد إيجاد المعنى بواسطة اللفظ وجودا اعتباريا أي: وجودا في وعاء الاعتبار العقلائي، وما دام كذلك فلا مانع من انفكاكه عن الاعتبار، وبذلك يتضح مقصود صاحب الكفاية قدس سره أيضا حيث قال: ( إن المنشأ إذا كان هو الطلب - أي: الطلب بوجوده الإعتباري لا الإنشائي - على تقدير حصوله - أي: الشرط - فلابد أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث وإلا لتخلف عن إنشاءه، وإنشاء أمر على تقدير كالإخبار به بمكان من الإمكان، كما يشهد به الوجدان).


[1] ج2ص59.
[2] ص60.
[3] المحاضرات ج2 ص144.
logo