46/04/19
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
والمتحصل مما سبق أنه بناء على أن لدى المولى إرادةً فعلية قبل فعلية الشرط فإن المقدمات المفوتة مما يجب شرعا، وأما جريان البراءة عند الشك في فعلية الشرط فهو تام على جميع المباني، وهذا ما أحدث إشكالا بأنه كيف يجمع بين وجوب المقدمة المفوتة وبين جريان البراءة عند الشك في فعلية الشرط؟ فلو فرض أن المكلف في أوائل شهور الحج لم يعلم أنه سيكون مستطيعا في ظرف الحج أم لا؟ فهو من جهة المقدمة المفوتة يجب عليه إعدادها كإعداد الأمور الرسمية ونحو ذلك، ولكنه من جهة الشك في فعلية الشرط - وهو شرط الاستطاعة - تجري البراءة في حقه عن وجوب الحج، فكيف يجمع بين وجوب أداء المقدمات وبين جريان البراءة عن وجوب الحج للشك في فعلية شرطه؟
والجواب عن هذا الإشكال أن هناك مبنيين في بحث المقدمات المفوتة:
المبنى الأول: أن وجوب المقدمة المفوتة على القول به إنما هو في فرض كون شرط الوجوب هو الزمان المضمون الحصول، كما لو فرض أن المكلف قبل أن يطلع الفجر من نهار شهر رمضان علم أنه لو لم يغتسل عن الجنابة قبل طلوع الفجر لما أمكنه أداء الصوم بعد طلوع الفجر، فهنا إنما يجب الغسل قبل طلوع الفجر من باب المقدمة المفوتة بلحاظ أن الشرط في الوجوب هو طلوع الفجر، وطلوع الفجر مضمون التحقق على كل حال، فبما أن لديه ضمانا لحصول الشرط فلديه علم بفعلية الوجوب في ظرفه على كل حال فلذلك وجبت عليه المقدمة المفوتة وهي الإتيان بالغسل قبل طلوع الفجر، لكونها مقدمة واجب معلوم الفعلية في ظرفه، وعلى هذا المبنى لا موضوع لجريان البراءة لانتفاء الشك في الوجوب في ظرف أداء الواجب مستقبلا، وأما في فرض الشك في حصول الشرط فلا موضوع لوجوب المقدمة المفوتة وإنما الجاري هو البراءة لعدم إحراز واجب في حقه مستقبلا.
المبنى الثاني: أنه لا فرق بين ضمان حصول الشرط الدخيل في أصل الاتصاف بالمصلحة أو الشك في حصوله، فإن النكتة في وجوب المقدمة المفوتة واحدة وهي إحراز إرادة المولى بالفعل لما يجب مستقبلا على تقدير حصول شرطه .
والسر في ذلك أن إرادة المقدمة المفوتة إنما هي إرادة طريقية لا تستتبع إدانة ولا تنجزا، غاية ما في الباب أنه ما دام المكلف يحتمل أنه لو لم يأت بالمقدمة لما أمكنه إتيان الواجب في ظرفه على فرض حصول الشرط فمن باب الإحتياط عليه أن يأتي بالمقدمة المفوتة، وإلا فهذه الإرادة لا تستتبع إدانة ولا تنجزا، وهذا لا يتنافى مع جريان البراءة إذا جاء وقت الحج وشك في وجوب الحج نتيجة الشك في فعلية الشرط، باعتبار أن مفاد دليل البراءة نفي التنجز والإدانة، فلا منافاة بين إرادة المقدمة المفوتة قبل شهر الحج إرادة طريقية لا تستتبع إدانة وبين نفي تنجز وجوب الحج إذا شك في الوجوب نتيجة الشك في فعلية الشرط.
الاتجاه الثاني: ما ذهب إليه المشهور ويستفاد من كلمات سيد المنتقى قدس سره من أنه لا إرادة فعلية قبل فعلية الشرط.
وكلمات سيد المنتقى مختلفة، ففي موضع[1] ذهب إلى أن الإرادة فعلية قبل فعلية الشرط، والحكم إذا كان هو الإرادة كما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره فهو فعلي، وذلك لأن الإرادة عبارة عن الشوق المؤكد الناشئ عن العلم بالمصلحة، وحيث إن المولى يعلم بأن في الحج على تقدير الاستطاعة مصلحة فهو مريد للحج إرادة فعلية، ولا إشكال في ذلك باعتبار أن الإرادة بمعنى الشوق المؤكد أمر نفسي غير اختياري للمولى تابع وبما أن المولى يعلم بالمصلحة فإرادته للحج إرادة فعلية، فيكون على ما ذكره في المقام موافقا لمبنى الشيخ الأعظم ومن تبعه، ولكنه أفاد في بحث الاستصحاب التعليقي[2] أن الإرادة غير فعلية حتى وإن قلنا أن الحكم هو الإرادة، والسر في ذلك أن الإرادة تابعة للعلم بفعلية المصلحة، وبما أن الشرط الذي لم يحصل - كالاستطاعة - دخيل في أصل الاتصاف بالمصلحة فقبل حصول الشرط لا علم للمولى بأن الاتصاف بالمصلحة فعلي، وحيث لا يعلم بأن الاتصاف بالمصلحة فعلي فليست له إرادة فعلية نحو الحج على تقدير الاستطاعة، وبناء على ما أفاده هنا يكون موافقا للمشهور من أنه لا إرادة فعلية قبل فعلية الشرط، ومقتضى أن لا إرادة فعلية قبل فعلية الشرط أنه لا تجب المقدمات المفوتة.
وقد أفاد قدس سره بأن الصحيح أن الحكم أمر اعتباري وليس الإرادة، والسر في ذلك أن ظاهر دليل حديث الرفع أن الرفع في هذه الموارد امتناني، ومقتضى أن الرفع امتناني أن الحكم مما يقبل الوضع ويقبل الرفع الامتناني، فلو كان هو الإرادة فلا يتصور رفع الإرادة امتنانا وهي أمرٌ تكويني، وإنما يتصور الرفع الامتناني في المجعول لأنه أمر اعتباري يمكن أن يضعه الشارع ويمكن أن يرفع امتنانا، وأما لو كان الحكم هو الإرادة وهي أمر تكويني إما موجود أو غير موجود فلا معنى لرفعه امتنانا.
ولكنه محل تأمل:
أولا: أن الإرادة بناءً على تفسيرها بأنها العزم أو التصميم أو القرار على أن الفعل موطن الغرض فهي أمرٌ اختياري بأمر المولى وهي فعل من أفعاله.
ثانيا: لو فرض أن الإرادة أمر غير اختياري يدور بين الوجود العدم فيمكن أن يقال: إن علم المولى أن في الفعل مصلحة غير مزاحمة بمصلحة الامتنان وجدت الإرادة في نفسه، وإن علم أن المصلحة الموجودة في الفعل مزاحمة بمصلحة أخرى وهي مصلحة التيسير والتسهيل والامتنان لم توجد في نفسه الإرادة، فليس هناك عملية وضع ورفع بل الإرادة دائرة بين الوجود والعدم وهي تابعة لعلم المولى، فليس هنا وضع كي يقال إنه غير متصور في الإرادة ويترتب على ذلك تعين كون الحكم أمرا اعتباريا.