46/04/18
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
المسلك الثاني من الاتجاه الأول: ما أفاده السيد الشهيد الصدر قدس سره في بحوثه، وبيان مطلبه قدس سره بذكر أمرين:
الأمر الأول: قد يظهر من بعض عبارات بحوثه أنه لا يرى لعنصر الاعتبار موضوعية، حيث يرى أن روح الحكم وحقيقته هي الملاك والإرادة وأن عنصر الاعتبار لا دخل له إلا في الصياغة التنظيمية للحكم التكليفي، كما يظهر ذلك من قوله[1] (الاعتبار ليس عنصراً ضروريّاً في مرحلة الثبوت، بل يستخدم غالباً كعمل تنظيمي صياغي اعتاده المشرِّعون العقلاء، وقد سار الشارع على طريقتهم في ذلك).
وكأنه على طبق مسلك المحقق العراقي من أن حقيقة الحكم وقوامه بالغرض والإرادة.
كما يبدو ذلك أيضا[2] (وأما في حالة الاضطرار - بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي - فالنهي وان لم يكن ثابتا على كل تقدير، ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالا على كل حال وهو كاف في التنجيز، لأن ما يدخل في العهدة انما هو روح الحكم وان لم يجعل المولى خطابا على طبقه لعدم الحاجة إليه أو لاستهجانه).
ويمكن استيحاء ذلك أيضا مما[3] (وأما ملاكات الحكم ومباديه من المصلحة والمفسدة والإرادة أو الكراهة فهي أمور تكوينية محفوظة في حالات العلم والجهل معا وهذه المبادئ هي روح الحكم وحقيقته وهي تكفي للحكم بالمنجزية وحق الطاعة للمولى).
فلو خلينا وهذه العبارات لقلنا إن مسلكه مسلك المحقق العراقي من أن الاعتبار ملحوظ على نحو الطريقية المحضة، وليس له مدخلية لا في حقيقة الحكم ولا في أثره من حكم العقل بلزوم الجري على طبقه.
ولكن عند ملاحظة عبائر أخرى من كلامه قدس سره يظهر منه أن لعنصر الإبراز موضوعية في ثبوت الحكم الموضوع للآثار وليس كاشفا محضا.
فمثلا ما أفاده بقلمه[4] بقوله : (وإن كان روح الحكم وحقيقته التي بها يقع موضوعا لحكم العقل بوجوب الإمتثال هي نفس الملاك والإرادة إذا تصدى المولى لإبرازهما بقصد التوصل إلى مراده سواء أنشأ اعتبارا أولا) وأفاد[5] (وقد مر بنا في الحلقة السابقة أن مرحلة الثبوت للحكم الواقعي تشتمل على ثلاثة عناصر ملاك وإرادة واعتبار، وقلنا إن الاعتبار ليس عنصرا ضروريا بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمي وصياغي، ونريد أن نشير الآن إلى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم الاعتبار بدور التعبير عنه...).
وبيان مطلبه طاب ثراه بذكر مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن العقل كما يحكم بحق الطاعة للمولى على العبد فإنه يحكم بأن للمولى الحق في تحديد موضع حقه، إذ من الواضح أن للمولى الحقيقي حق الطاعة، لكن ماهية الحق تعني أن لصاحب الحق إسقاطه أو تحديد مورده، وهذا معنى أن له حق تحديد موضوع حق الطاعة.
المقدمة الثانية: أن عنصر الاعتبار له لحاظان: لحاظ كون عملية اعتبارية يقوم بها المقنن، وهذه العملية لا دور لها لا في حقيقة الحكم ولا في حكم العقل بلزوم الامتثال لأنها مرحلة صياغية تنظيمية، ولحاظ آخر وهو أن الاعتبار دخيلٌ في تحديد موضوع حق الطاعة، فإن المكلف قبل أن يبرز المولى ما هو موضع تكليفه وأمره أو نهيه لا يعلم أين موضع حق الطاعة بالنسبة إليه، فعنصر الاعتبار بما له من حيثية إبرازية دخيل في تحديد موضوع حق الطاعة بالنسبة للمولى.
وتعميق ذلك - بما أفاده أيضا في بحوثه[6] - (ثم إن المراد من تسجيل الفعل في العهدة ليس هو الجعل والاعتبار - الذي قلنا مرارا إنه مجرد صياغة وأسلوب، وليس له دخل في حقيقة الحكم ثبوتا، بل المراد به تعيين المولى نفسه لمصب ما يريده من العبد ويلزمه به، فإن موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال ما عينه المولى وألزم به وأبرزه سواء كان مصب غرضه أيضا أو كان مقدمة له) من أنه قد يكون ملاك المولى في فعل معين وإرادته متعلقة بذلك الفعل، ومع ذلك يكون موضع تكليفه وخطابه ما هو مقدمة لموطن غرضه ومصب إرادته، مما يعني الاختلاف بين ما هو موطن غرضه وإرادته وما هو مصب خطابه وأمره، فيكون موضوع حق الطاعة والداخل في العهدة ما هو مقدمة لموطن غرضه، مما يعني أن ما هو مراد بالأصالة بحسب عالم الإرادة وهو موطن الغرض هو مراد بالتبع بحسب عالم العهدة والتكليف.
والسر في ذلك أنه قد يكون موطن الغرض مما لا يمكن كونه مصب الأمر أو أن هناك ملاكات امتنانية تقتضي أن لا يجعل أمره نفس موطن غرضه، كما إذا افترض أن موطن الغرض له طرق مختلفة بحسب القرب والبعد والسهولة والصعوبة وربما يكون الغرض من قبيل حفظ النظام الاجتماعي الذي تختلف فيه الأذواق والأنظار، مما يعني الحاجة إلى أن يعين المولى الطريق الذي يراه موصلا إلى موطن غرضه فيأمر به حفاظا على غرضه.
فتلخص: أن مسلك السيد الصدر قدس سره يختلف عن المسلك الأول - وهو مسلك المحقق العراقي قدس سره - في أن لعنصر الإبراز دخلا في حكم العقل بلزوم التنفيذ والجري عليه.
ولكن ما أفيد قد يبعث على التساؤل في أن الفارق بين المسلكين في الكبرى أم الصغرى؟ مثلا لو فرض أن موطن غرض المولى من الأغراض العقلائية المعلومة الواضحة كما في التطبيقات العقلائية للحسن والقبح العقليين، -كرؤيتهم أن للأولاد القاصرين حق النفقة، وإن كانت الدولة قادرة على تأمين ذلك، أو أن من حاز شيئا من المباحات حرم على غيره التصرف فيه - بحيث يرون أن عدم أداء نفقة الأولاد والتصرف في ما حازه الغير دون إذنه ظلم موجب للعقوبة، ففي مثل ذلك لا يرى العقلاء أن لعنصر الإبراز موضوعية، لارتكازهم الثابت أن ما هو موطن تكليف المولى والداخل في عهدة المكلف نفس موطن الغرض والإرادة، فهل الفارق كبروي بمعنى أن السيد الشهيد قده يرى أن للإبراز بالخطاب موضوعية حتى في مثل هذا الفرض، بمعنى أن قوام الحكم وأثره يقتضي في حد ذاته عنصر الإبراز مالم يكن مانع، والمقام من موارد وجود المانع لا انتفاء المقتضي حيث يرى العقلاء أن الخطاب المولوي في المورد مستهجن، وإلا فالحكم التكليفي من حيث حقيقته يقتضي عنصر الإبراز، وهو الموافق لمبنى السيد الأستاذ مد ظله بتقريب آخر (وهو أن الموارد التي يرى العقلاء أن ما هو موطن تكليف المولى هو موطن غرضه مما لا يصح النقض بها، بلحاظ أن نفس ارتكاز العقلاء على ذلك هو بمثابة الكاشف المبرز المستبطن للوعيد على الترك المحقق لما هو الداخل في عهدة المكلف، حيث لا فرق في المبرز المنطوي على الوعيد بين الخطاب المباشر أو الخطاب المستكشف من ارتكاز العقلاء، لجري المولى عادة على وفق مرتكزاتهم) أم أن الفارق صغروي بمعنى أن الحاجة لدخالة عنصر الإبراز في أثر التكليف - وهو حكم العقل بلزوم الطاعة - إنما هو في فرض احتمال أن يكون للمولى ملاك يقتضي اختلاف ما هو مصب خطابه عن ما هو موطن غرضه لا مطلقا.
الأمر الثاني في كلام السيد الصدر: أن للمولى إرادة فعلية وإن لم يتحقق الشرط الدخيل في أصل اتصاف الفعل بالملاك، فإن المولى إذا قال: (ولله على الناس حج البيت) فإن هنا إرادة فعلية، أثرها لزوم الإتيان بالمقدمات المفوتة. ولكن ما هي تلك الإرادة الفعلية الباعثة على فعل المقدمات؟
وبيان ذلك: أن تحديد الإرادة الفعلية في عالم التشريع مما يتوقف تصويره على تحديد الإرادة الفعلية في عالم التكوين، فلو فرض في عالم التكوين أن إنسانا يريد السفر إلى المكان المعين المعروف في موسم معين بالأوبئة والأمراض قاصدا السفر في نفس الموسم، ومن المحتمل أنه سيصاب بالمرض، وإذا أصيب به فسيحتاج إلى الدواء الفلاني، فهل يرى من نفسه أن له إرادة فعلية نحو أخذ الدواء؟ والجواب أن له إرادة فعلية غيرية نحو أخذ الدواء وإن لم يصب بالمرض فعلا، وذلك لأن للإنسان إرادة فعلية نفسية وهي حفظ حياته، ومنها تنبثق إرادة أخرى وهي إرادة الحفاظ على صحة جسده، ومن هذه الإرادة الفعلية النفسية تنبعث إرادة غيرية وهي إرادة أخذ الدواء وإعداده بغرض أنه لو أصيب بالمرض لكان الدواء بين يديه، فأخذ الدواء من قبيل المقدمات المفوتة وقد أراده المكلف بالفعل إرادة غيرية منبثقة عن إرادة الحفاظ على صحة جسده، وكما يتصور هذا في الإرادة التكوينية فإنه يتصور في الإرادة التشريعية، فإن المولى له إرادة فعلية وهي حفظ ملاكاته وأغراضه وهو ما يعبر عنه بالاهتمام الواقعي، وقد تعلقت إرادته الفعلية بحفظ الغرض المعين، ومن هذه الإرادة الفعلية تنبثق إرادات غيرية، منها: إرادته للخطاب، حيث إن إرادته للخطاب إرادة مقدمية انبعثت عن إرادته حفظ أغراضه، ومن تلك الإرادات الغيرية إرادة المقدمات المفوتة من العبد، فيجب عليه إعداد المقدمات المفوتة شرعاً فضلا عن الوجوب العقلي، لأن هناك إرادة غيرية من المولى بالمقدمات المفوتة انبثقت عن إرادته الفعلية بحفظ أغراضه وملاكاته.