« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/17

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الاوامر

الموضوع: مبحث الاوامر

 

وتحقيق الحال في الثمرة الثانية يبتني على ثلاثة أمور وهي: هل لهذا البحث موضوع؟ وعلى فرض أن للبحث موضوعا فهل له ثمرة؟ وعلى فرض أن له ثمرةً فما هو المبنى الدخيل في ترتب الثمرة؟ فهنا ثلاثة أسئلة تتفرع إلى ثلاثة مبانٍ:

المبنى الأول: أن لا موضوع لهذا البحث أصلا بغض النظر عن أن له ثمرة أم لا، وهو مبنى سيدنا الخوئي قدس سره الشريف من أن البحث المذكور - وهو أنه هل أن لدى المولى إرادة فعلية نحو الجزاء المشروط قبل تحقق الشرط أم لا؟ - مما لا موضوع له.

والنكتة في ذلك تتضح بذكر أمور:

 

الأمر الأول: أن الإرادة ليس لها إلا معنى واحد، وهو إعمال القدرة أي: صرف القدرة في الفعل، فالإرادة هي الجزء الأخير من علة الفعل بحيث لا يتخلف المعلول عنها، فمتى تحققت الإرادة تحقق المراد ، وهذا المعنى من الإرادة كما يؤكده الوجدان هو الظاهر من الروايات الشريفة، ففي معتبرة النضر بن سويد قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الإرادة من الخلق ومن الله فقال: أما الإرادة في الخلق فهي الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما في الله فإرادته إحداثه لا غير) إلى أن قال عليه السلام: (فإرادته الفعل لا غير) وظاهر الرواية الشريفة مطلبان:

الأول: أن الإرادة في الله ليست أزلية، وإنما هي نفس فعله، كما ورد في معتبرة عاصم بن حميد: (لم يزل الله مريدا؟ قال: لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد).

الثاني: أن الإرادة في الإنسان هي المجموع من الفكرة المضمرة وما يبدو من الفعل .

 

الأمر الثاني: بناء على ذلك لا توجد إرادة تكوينية وإرادة تشريعية، فالإرادة ليست إلا التكوينية لأنها عبارة عن إعمال القدرة، ولا يتصور إعمال القدرة في فعل الغير، وإنما يتصور إعمال القدرة في فعل النفس، فإن فعل الغير خاضع لاختياره فلايعقل إعمال القدرة فيه والا لكان الغير مجبرا، وبذلك يتبين وجه الخدشة في ما يقال : إن الإرادة واحدة وهي الشوق المؤكد وإنما يختلف متعلقها، فإن كان متعلقها فعل النفس فهي تكوينية، وإن كان متعلقها فعل الغير فهي تشريعية ، بل هي عبارة عن إعمال القدرة و فعل الغير باختياره لا بإرادة غيره وهو المولى

 

الأمر الثالث: بما أنه لا توجد إرادة تكوينية وتشريعية وليست إلا إرادة تكوينية فلا موضوع لهذا البحث، فإن البحث يبتني على أن من مراحل الحكم الإرادة، والحال أن الإرادة لا ربط لها بالحكم إطلاقا، فالبحث في أن الإرادة فعلية قبل تحقق الشرط أو فعلية بفعلية الشرط مبني على وجود إرادة في مراحل الحكم، مع أن الإرادة لا ربط لها بمراحل الحكم إطلاقا، إذ الحكم متقوم بعنصرين: العلم بالملاك والجعل، وهو اعتبار الفعل في ذمة المكلف أو اعتبار الترك في ذمة المكلف، ومن الواضح أن القضية الجعلية الصادرة من المولى تبتني على إناطة المجعول بالشرط ومقتضاه أن لا فعلية للمجعول إلا بفعلية الشرط.

المبنى الثاني: وهو إنكار ثمرة البحث: وحاصله أنه حتى لو فرض أن للبحث موضوعا وأن هناك إرادة بالفعل قبل تحقق الشرط فلا ثمرة للبحث، وهذا ما ذهب إليه السيد الأستاذ مد ظله، والوجه في ذلك أمران:

الأول: أن ماله الموضوعية بنظر العقل في علاقة العبد بمولاه هو لزوم تنفيذ تكاليفه لا أكثر فلا يجب على العبد عقلا تحقيق مرادات المولى ولا حفظ ملاكاته التي لم تتضمنها التكاليف، وإنما يجب على المولى عقلا إذا كان حكيما أن يحفظ ملاكاته ومراداته ضمن قانونه وجعله، ولذا لو علم العبد بوجود ملاك لزومي أو إرادة فعلية لزومية في مورد لم يبرز فيه المولى خطابا لم يجب عليه حفظها.

مثلا: لو علم العبد أن الكنغر كالسبع تماما وأن الملاك اللزومي الذي اقتضى حرمة لحم السبع موجود في لحم الكنغر وأن الإرادة التي اقتضت تحريم السبع بعينها في الكنغر ولكن المولى لم يبرز شيئا من ذلك فإنه لا يجب على العبد حفظ الملاك أو تنفيذ الإرادة ، ولذلك أنكر مد ظله وجوب إتيان المقدمات المفوتة عقلا.

الثاني: بعد المفروغية عن أن موضوع اهتمام العقل في علاقة العبد بمولاه هو تكاليفه لا ملاكاته ولا إراداته، فإن مدرك استحقاق العقوبة عند مخالفة التكليف ليس من خارج التكليف وهو حكم العقل العملي بحق الطاعة للمولى الحقيقي أو لزوم دفع الضرر المحتمل، وإنما مدرك استحقاق العقوبة ناشئ من عامل داخلي في نفس التكليف، وهو إدراك العقل النظري استبطان التكليف لعنصر الوعيد بالعقوبة على الترك في الوجوب والعقوبة على الفعل في الحرمة على نحو الإندماج .

فعلى هذا المبنى لا ثمرة للبحث وإن علم أن للمولى مرادا فعليا قبل تحقق شرطه.

المبنى الثالث: أن للبحث موضوعا حيث إن للمولى إرادة متعلقة بالجزاء وإن اختلف في فعليتها قبل الشرط أو بعده ، كما أن له ثمرةً أيضا للزوم تحقيق إرادة المولى وإن لم يكن الوجوب فعليا ، وهذا المبنى يتضمن اتجاهين:

الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي يرى فعلية الإرادة.

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه المنكر لذلك .

الاتجاه الأول من هذا المبنى - هو القائل بأن للإرادة فعلية قبل فعلية الشرط - وفيه مسلكان:

المسلك الأول: ما بنى عليه المحقق العراقي قدس سره من أن الحكم هو الإرادة المبرزة .

وتقريب مطلبه بذكر أمور:

الأمر الأول: أن الحكم التكليفي هو الإرادة، والإرادة هي ما عبر عنه السيد الصدر قدس سره باهتمام المولى بالفعل اهتماما واقعيا، فقد ذكر قدس سره أنه في موارد الشك في فعلية التكليف إن كان اهتمام المولى بالفعل بدرجة شديدة فلا بد من جعل الاحتياط في فرض الشك في فعلية الحكم لإبراز اهتمامه بالفعل ، وإن لم تكن درجة اهتمام المولى بالفعل بهذه الأهمية جرت البراءة، مما يعني أن مضمون البراءة نفي امتداد اهتمام المولى بالفعل إلى مرحلة الشك، فالإرادة هي الاهتمام الواقعي بالفعل.

الأمر الثاني: إن حقيقة اهتمام المولى بالفعل تبتني على أن قوام الحكم التكليفي بعنصرين:

العنصر الأول: العلم بأهمية الملاك بمعنى تصديق المولى بأهمية الملاك بحسب موازين المصالح والمفاسد العامة والخاصة.

والعنصر الثاني هو القرار، أي أن في داخل نفس المولى قرارا وبناء على أن الفعل موطن غرضه المهم، وهذا القرار هو الإرادة التي هي الحكم ، فليست الإرادة هي الشوق المؤكد لأنه سابق على الإرادة، وليست الإرادة هي إعمال القدرة - أو ما يعبر عنه السيد الأستاذ مد ظله بإشارة الدماغ للأعصاب بالحركة - فإنها أثر للإرادة، وإنما الإرادة هي التصميم والقرار، وهذا ما يشهد به الوجدان في فعل النفس أو في فعل الغير، فإن الإنسان إذا بنى وقرر أن فعل نفسه محط غرضه فإنه يعمل القدرة تجاهه، وإن بنى وقرر أن فعل عبده موطن غرضه المهم فإنه يصدر الخطاب أو الإشارة تجاهه ، فلا يتصور فعل لايسبقه تصميم وقرار في الفعل التكويني والتشريعي خلافا لما مضى في بعض الكلمات، كما أن المستفاد من الرواية الشريفة هو ذلك حيث قالت: «الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل» ولم تقل: «وما يبدو منهم» مما يعني أن الإرادة عبارة عن إضمار المراد وما يبدو من القرار على الفعل .

الأمر الثالث: أنه لا دخل للاعتبار في حقيقة التكليف بشهادة الوجدان العقلائي في صدق عنوان التكليف على مجرد أمر الوالد لولده وإن لم يتضمن اعتبارا للفعل على عهدته، وصدقه على الإخبار عن الإرادة الكامنة في النفس ولو لم يكن في البين اعتبار، كما لا دخل للإعتبار في فاعلية التكليف ولزوم تنفيذه، لأن موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال هو إرادة المولى، فلذلك متى علم العبد بأن الفعل مراد لزومي للمولى فمن حق المولوية عليه أن يحقق مراد المولى، ولا يتوقف ذلك على وجود خطاب ولا اعتبار، بل مع حكم العقل بأن حق المولى على العبد يقتضي حفظ ملاكاته وتحقيق إرادته فإن عملية الإعتبار لغو لا أثر لها في فاعلية التكليف ومحركيته، وغاية ما في الباب أن المولى قد يبرز إرادته تارة بجملة خبرية فيقول: (أريد كذا) وأخرى بجملة إنشائية بأن يأمر وينهى، وثالثة بالاعتبار بأن يقول: (اعتبرت الحج على ذمة المكلف إذا استطاع) فالاعتبار مجرد مبرز لا أكثر، ولا دخل له في حكم العقل بلزوم الامتثال، وإنما قد يحتاج اليه في بعض الموارد من باب العملية التنظيمية للقانون كما في القوانين التكليفية الوضعية لا أكثر .

والنتيجة: أن الثمرة تترتب في المقام على مبنى المحقق العراقي قدس سره، فإن المولى إذا قال: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وعلم أن هنا إرادة فعلية للمولى لزم العبد إعداد المقدمات للحج وإن كان الشرط لم يتحقق بعد، أي أن مقتضى مبنى المحقق العراقي قدس سره لزوم المقدمات المفوتة وإن لم يحصل الشرط الدخيل في اتصاف الفعل بالمصلحة.

logo