46/04/16
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
المنبه الثاني من منبهات الوجدان: قياس الإرادة التشريعية على الإرادة التكوينية.
وبيانه: أن الموجود في الإرادة التكوينية إرادة فعلية قبل زمان العمل مع أن العمل منوط بأمر غير مقدور كالزمان، مثلا للإنسان أن يقول: إني أريد السفر غدا، وهو حاكٍ عن إرادة فعلية، أو يقول: إني أريد الدخول في الامتحان بعد شهرين، وهو حاك عن إرادة فعلية، أو يقول: إني أريد إجراء عملية جراحية بعد ثلاثة أشهر وهو يعبر عن إرادة فعلية مع أن المراد منوط بالزمن والزمن خارج عن اختياره، ومع ذلك فإنه يحكي عن إرادة فعلية نحو العمل، وبما أن الإرادة التشريعية على وزان التكوينية حيث لافرق بينهما إلا من حيث المتعلق، فإن متعلق التكوينية فعل النفس ومتعلق التشريعية فعل الغير فالإرادة التشريعية فعلية قبل فعلية قيود المراد، فإذا قال المولى: أريد من المكلف الحج في فرض الاستطاعة، فإنه يحكي عن إرادة فعلية وإن كان المراد منوطا بفرض الاستطاعة.
ولكن يلاحظ على ذلك أن الإرادة التكوينية على نحوين إذ تارة يكون القيد الملحوظ قيدا دخيلا في الاتصاف وأخرى يكون قيدا دخيلا في الاستيفاء، فإن كان القيد الملحوظ للمريد قيدا دخيلا في الاستيفاء كما إذا قال: أريد إجراء عملية بعد شهرين بحضور أخي، فحيث إن حضور أخيه دخيل في استيفاء المصلحة لا في أصل الاتصاف بالمصلحة، فالإرادة هنا فعلية، وأما بالنسبة للزمن فهو وإن كان خارجا عن الإختيار إلا أنه لما كان المراد هو الحصة وهي المتقومة بالزمن المعين كان التقيد بالزمن مرادا بالفعل، وإن كان القيد خارجا عن اختياره إذ يكفي في فعلية الإرادة اختيارية التقيد، وعدم إمكان تحقق الحصة بالفعل وهي العمل المتقيد بالزمن لا لقصور في الإرادة فهي فعلية وإنما لأن المراد نفسه لايقبل الإنطباق على غير هذه الفترة الزمنية.
وإن كان القيد الملحوظ للمريد دخيلا في أصل الاتصاف بالمصلحة فلا توجد إرادة تكوينية فعلية نحو المراد، كما إذا قال: أريد ختان الولد وفعل العقيقة بعد شهر إن ولد لي ذكر، فمن الواضح أنه ليس له إرادة فعلية نحو فعل الختان والعقيقة، وإنما إذا حصل الشرط وهو الولادة كان مريدا لهما، مع أنها إرادة تكوينية ولكنها ليست فعلية، لأن القيد الملحوظ وهو الولادة ليس دخيلا في استيفاء المصلحة بل في أصل الاتصاف بالمصلحة.
فدعوى أن المقيس عليه وهو الإرادة التكوينية فعلية دائما غيرتامة، حيث تبين أن الإرادة التكوينية على نحوين.
المنبه الثالث: أنه لا شك في وجود الفرق وجدانا بين من يقول: أريد شرب الدواء إن حصل المرض، ومن يقول: لا أريد شرب الدواء إن حصل المرض لكراهته ، فإن المفهوم عرفا من كل من القولين مختلف، فلو لم تكن هناك إرادة فعلية لم يكن فرقٌ بينهما إذ ليس لأي منهما إرادة فعلية نحو شرب الدواء، مع أن المرتكز العرفي يرى الفرق بين التعبيرين، فهذا الفارق الوجداني منبه على وجود إرادة فعلية في المثبت دون النافي، وإلا لم يبق فرق بينهما.
والجواب عن هذا الشاهد أنه لا شك أن هناك فرقا بين القولين المذكورين، والسر في ذلك أن القائل الأول له إرادة فعلية ولكنها ليست إرادة للجزاء وهو شرب الدواء، بل له إرادتان: الإرادة الأولى: إرادة الحفاظ على صحة جسده، فمعنى (أريد شرب الدواء على تقدير المرض) معناه أني أريد فعلا وفي كل وقت الحفاظ على صحة جسدي، ومن هذه الإرادة تنبثق إرادة لشرب الدواء على تقدير المرض لكونه حافظا للصحة ، فهنا إرادتان: فعلية وهي إرادته لحفظ جسده من المرض، وإرادة تنبثق من هذه الإرادة وهي إرادة شرب الدواء في فرض حصول المرض لابالفعل .
وأما القائل الثاني فإنه يحكي عن نفسه بأنه يريد لجسمه أن لا يدخل فيه ما يكرهه، فلذلك ينبثق عن هذا المراد بالفعل أنه لا يريد شرب الدواء حتى لو حصل المرض، باعتبار أن شرب الدواء مكروه له.
والحاصل أن الفارق الوجداني بين القولين لا يعني أن هناك إرادة فعلية نحو شرب الدواء لأحدهما دون الآخر، بل هما من هذه الجهة على حد سواء، وإنما يختلفان في إرادة فعلية سابقة من نوع آخر.
ومن هذا الجواب تنبثق لنا مقالة، وهي أنه يمكن التوفيق بين الإتجاهين اللذين يدعي كل منهما الوجدان على مدعاه، وهما: القول بأن الإرادة في التكاليف فعلية قبل حصول الشرط ، بشهادة الوجدان بأنه لو لم تكن إرادة فعلية في نفس المولى نحو الجزاء لما أراد صدور الأمر منه مقدمة لتحصيل الجزاء في ظرف وجود الشرط ، والقول بأن الإرادة تابعة لموطن الغرض ، وموطن الغرض هو الجزاء لا بالفعل ولكن عند تحقق الشرط، فلا إرادة وجدانا قبل تحقق الشرط، وذلك بأن يقال: إن الإرادة التشريعية تنحل إلى إرادتين: إرادة فعلية وإرادة تنبثق منها وهي إرادة الجزاء إذا حصل الشرط. فالاتجاه الثاني الذي يقول بأنه لا توجد إرادة فعلية مقصوده أنه لا توجد إرادة فعلية للجزاء، لأن إرادة الجزاء على تقدير حصول الشرط، وأن المولى بالنسبة للجزاء ليس له إلا العلم بالمصلحة، ولكن هذا لا يعني أن المولى ليس له إرادة فعلية صالحة لأن تنبثق منها إرادة للجزاء على تقدير حصول الشرط، وسيأتي بحث ذلك في المطلب الثالث إن شاء الله.
فتلخص أن الصحيح هو ما ذهب إليه جملة من الأعلام من أنه لا إرادة بالفعل نحو الجزاء، وإنما يراد الجزاء على فرض حصول الشرط خلافا لما نسب للشيخ الأعظم وجملة من المحققين من وجود إرادة فعلية قبل حصول الشرط، وذلك لشهادة الوجدان والبرهان على تبعية الإرادة لموطن الغرض، وموطن الغرض فعل الجزاء في ظرف حصول الشرط لا بالفعل بلحاظ دخالة الشرط في أصل الإتصاف بالمصلحة، وللخلل في البرهان على إثبات وجود إرادة فعلية قبل الشرط .
المطلب الثاني: في بيان ثمرة البحث :
قد ذكر في المقام ثمرتان:
الثمرة الأولى: جريان البراءة وعدم الجريان عند الشك في الشرط، فلو أن المكلف مثلا شك في فعلية الاستطاعة بعد دخول شهر ذي الحجة فهل تجري البراءة؟ مع فرض عدم جريان الإستصحاب لتنقيح حصول الشرط أو عدمه لتوارد الحالتين كما لو استطاع المكلف قبل دخول أشهر الحج في فترة ولم يكن مستطيعا في فترة أخرى مع الجهل بالمتقدم والمتأخر ، فلا يجدي استصحاب الاستطاعة ولا استصحاب عدمها لتوارد الحالتين، فإن استصحاب الاستطاعة معارض باستصحاب عدم الاستطاعة ، فإذا لم يجر الاستصحاب في طرف الشرط ووصلت النوبة للبراءة، فهل له إجراء البراءة عن وجوب الحج لشكه في الاستطاعة أم لا؟
فقد يقال: إن قلنا بالمبنى الأول وأن للمولى إرادة فعلية نحو الحج وإن لم يحصل الشرط فإن المولى يريد الحج فعلا وإن كان المراد متقيدا بالشرط وهو الإستطاعة ، فإذا علم المكلف أن للمولى إرادةً فعلية وإن لم يحصل الشرط فلا مجال لجريان البراءة حيث إن مراد المولى فعلي، ومقتضى كونه فعليا استعداد المكلف للحج ولا مجال لجريان البراءة، وإن قلنا بالمبنى الثاني وأن لا إرادة للمولى إلا حين حصول الاستطاعة فالشك في الشرط شك في الإرادة المولوية ، ومقتضى الشك في فعلية الإرادة جريان البراءة عنها.
ولكن هذه الثمرة غير تامة، والوجه في ذلك أن البيان الجاري بالنسبة للمجعول الإعتباري منطبق على مقام الإرادة ، وهو أن المجعول ينقسم إلى مجعولٍ كلي ومجعولٍ جزئي تكون فعليته عند فعلية الشرط .
وبيان ذلك: أن المولى إذا صدر منه الجعل فقال: (يجب الحج على من استطاع) فإن المرتكز العقلائي ينتزع من هذه القضية الإنشائية مجعولين، مجعولا كليا وهو وجوب الحج على المستطيع وهذه قضية حقيقية منتسبة إلى الشارع ، ومجعولا جزئيا لا يكون فعليا إلا إذا صارت الاستطاعة فعلية، بمعنى أنه إذا صارت الاستطاعة فعلية رأى المرتكز العقلائي أن المجعول الكلي في حق كلي المستطيع قد انحل في حق من استطاع بالفعل بحيث يقول العرف للمستطيع: الآن وجب عليك الحج ولم يكن واجبا عليك من قبل.
ومن الواضح أن الذي يدخل في عهدة المكلف ليس المجعول الكلي، حيث لا إدانة عقلا قبل تحقق الموضوع خارجا ، بل ما يدخل في العهدة فيدان به المكلف هو ما يكون فعليا عند فعلية الاستطاعة، فإذا شك المكلف في الاستطاعة فقد شك في اشتغال عهدته، ومقتضى ذلك جريان البراءة، وعين هذا البيان يجري في الإرادة، فإذا افترض أن الإرادة هي الحكم التكليفي أو هي محور الحكم من حيث الآثار ، فعندما يعلم بإرادة المولى ولو عن طريق إخبار المولى عن إرادته فإن المرتكز العقلائي يتلقى ذلك على نحو إرادتين: إرادة كلية على نحو القضية الحقيقية - وهي إرادة الحج من المستطيع - تنحل إلى إرادات في حق كل مستطيع، وإرادة جزئية في ظرف حصول الشرط، وما يدخل في عهدة المكلف عقلا بحيث يكون مدانا به هو انحلال تلك الإرادة الكلية إلى الإرادة في حقه ، فالشك في الاستطاعة موجب للشك في انحلال هذه الإرادة في حق المكلف، والشك في انحلالها لهذا المكلف مجرى للبراءة، فالبراءة جارية عند الشك في الشرط وإن قلنا بالمسلك الأول الذي يرى رجوع الشرط للمراد ، فإن معنى رجوع الشرط للمراد أنه لا دخل له في الإرادة الكلية على نحو القضية الحقيقية لا أنه لادخل له في اشتغال العهدة ، والا لم يبق فرق بين الشروط أي بين ماهو دخيل في اصل الإتصاف وماهو دخيل في الإستيفاء .
الثمرة الثانية: إعداد المقدمات، فعلى القول بوجود إرادة فعلية للمولى قبل حصول الشرط يجب إعداد المقدمات لوجود الإرادة الفعلية نحو الحج، وعلى القول بعدم وجود الإرادة الفعلية للمولى قبل حصول الشرط فلا يجب على المكلف إعداد شيء لأن المولى لا يريد شيئا منه بالفعل، بل يريد ذلك على تقدير حصول الاستطاعة.