46/04/15
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
الوجه الوجداني: وحاصله أن المولى إذا التفت إلى فعل العبد فإما أن لا يتوجه إليه لعدم ملاك فيه، وإما أن يتوجه له، وحينئذ إما أن يريده على نحو اللا بشرط لأن الملاك ثابت فيه من دون قيد، وإما أن لايريده على نحو الإطلاق لفرض وجود القيد، والقيد إما أن يحتاج إليه لتحقيق المصلحة، أو أنه لايحتاج إليه ولكن إذا وجد اتفاقا فالفعل ذو مصلحة، ففي هذا الفرض لا توجد إلا صورتان بحسب الوجدان:
الأولى: أن القيد محل الحاجة ولازم ذلك أن يريد المولى الفعل بما هو مقيد الذي يقتضي إرادة القيد معه، كما في الصلاة فإنها ذات مصلحة في نفسها ، إلا أن قيد الطهارة دخيل في استيفاء تلك المصلحة ، ولازم ذلك إرادة تقيد الصلاة بالطهارة ، وبما أن التقيد مراد فالقيد المحقق للتقيد مراد أيضا .
الثانية: أن لاحاجة للقيد ولكن إذا وجد اتفاقا كان الفعل ذا مصلحة كما في فرض الاستطاعة بالنسبة للحج ، ومقتضى ذلك أن متعلق الإرادة للمولى ، هو الحج في ظرف القيد.
فالإرادة على كل حال فعلية، لأنه إما أن يريد الفعل على نحو اللابشرط أو يريد الفعل مع قيده أو يريد فعلا الواجب في ظرف القيد، ولا توجد صورة بحسب الوجدان أن لا يريد الفعل فيها إلا إذا حصل القيد.
وهنا عدة منبهات على الوجدان:
المنبه الأول: ما سبق ذكره، ويمكن تقريبه بنحو أعمق، وبيانه بذكر مقدمتين:
الأولى: أن الفعل ذا الملاك كالحج له مقدمات لا يمكن وجوده إلا بها كالسفر وإعداد الزاد ولوازم المناسك، ومن هذه المقدمات نفس خطاب المولى، لأنه لولا وجود خطاب بالحج لما وجد الحج من العبد، فلذلك تتعلق إرادة المولى فعلا بصدور الخطاب استطراقا ومقدمة لوجود الحج من العبد لتحصيل ملاكه .
الثانية: إذا كان الخطاب من المولى بالحج مرادا إرادةً مقدمية استطراقية فهذا كاشف عن وجود إرادة نفسية للحج بالفعل، إذ لا يعقل وجود الإرادة المقدمية مع عدم وجود إرادة نفسية نحو ذي المقدمة مع أنها ناشئة عنها ، فلولا أن المولى أراد الحج من المكلف بالفعل لما أراد صدور الخطاب، فإرادة المولى صدور خطاب منه نحو العبد شاهد على وجود إرادة نفسية متعلقة بالحج نفسه وإن كان المراد هو الحج لا مطلقا بل الحج في ظرف الاستطاعة، مما يعني أن الاستطاعة قيد في المراد وإلا فالإرادة فعلية.
ولكن ترد على المنبه المذكور ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: أن المولى إنما أراد الخطاب لا لإرادة نفسية نحو الحج، بل لأجل أن الطريقة العقلائية في مقام التشريع تقتضي كون التقنين بهذا النهج ، حيث إن المولى والمقنن لايمكنه عادة أن يصدر خطابات لكل من هو واجد للموضوع بالفعل أي لكل من هو مستطيع بالفعل بحيث ينتظر الاستطاعة الفعلية من كل مكلف كي يتوجه له الخطاب، فهذه الطريقة متعذرة ، كما أنها تستلزم فوت بعض الملاكات لاختلاف المكلفين من حيث الإستعداد وتوقع الخطاب وعدمه، لذلك تبانى العقلاء في مقام التقنين على أن يصدر المولى المقنن خطابا عاما مشروطا بموضوع معين نحو أن يقال: (من استطاع فعليه الحج)، وبما أن الطريقة العقلائية هي صياغة الخطاب على نحو القضية الحقيقية لتعذر الطريقة الأخرى أو استلزامها تفويت بعض الملاكات فالمولى جريا على وفق الطريقة العقلائية قام بذلك، لا أنه أراد صدور الخطاب إرادة مقدمية استطراقية بحيث تكشف هذه الإرادة المقدمية عن إرادة نفسية متعلقة بالحج، وإنما جرى على وفق الطريقة العقلائية في إصدار الخطابات على نحو القضية الحقيقية.
الملاحظة الثانية: أن من المحتمل أن يكون صدور الخطاب لإرادة نفسية لا مقدمية، أي أن صدور الخطاب في نفسه مراد لأنه في نفسه ذو ملاك، والسر في ذلك أن المولى لإظهار حكمته وإبراز مولويته التدبيرية في حفظ المصالح العامة عن طريق القوانين والخطابات، تصدى لجعل القانون وإبرازه، فالخطاب ذو ملاك في نفسه وهو إظهار حكمة المولى بتدبيره للمصالح العامة عن طريق القوانين وإبرازها بالخطابات، والنتيجة أن صدور خطاب بالحج مثلا لا يكشف عن إرادة للخطاب بنحو الإرادة المقدمية الناشئة عن إرادة نفسية نحو الحج.
بل قد يقال - كما ذكره السيد الصدر قدس سره[1] أنه لا وجه لتعلق إرادة بالمقيد من دون تعلق إرادة بقيده، وتقريب مرامه: أنه لو كان للمولى إرادة فعلية نحو فعل العبد، وكان الفعل المراد هو الحصة - لفرض أن المراد ليس الفعل اللابشرط بل هو الفعل المشروط بالقيد - فلابد من استتباع ذلك إرادة القيد، للملازمة الوجدانية بين إرادة المقيد - مع الالتفات لقيده - وإرادة القيد، أي: أنه إذا أراد المقيد بالفعل - مع التفاته إلى أن المقيد لا يحصل إلا بحصول قيده - فهومريد لقيده، مع أن القيد قد لا يكون محلا للرغبة أصلا، لعدم دخله في استيفاء المصلحة كما في الاستطاعة، حيث إن الاستطاعة لا مصلحة فيها أصلا ولا دخل لها في استيفاء المصلحة، ولكنها لو وجدت اتفاقا صار الحج ذا مصلحة، فلو كان المولى يريد الحج بالفعل مع كون المراد الحج في ظرف الاستطاعة فلا محالة تترشح من إرادته للحج إرادة للإستطاعة، فإن التفكيك مخالف للوجدان، وإرادته للاستطاعة خلاف ملاكه لأنه لا ملاك فيها، وإنما الملاك في الحج على فرض وجود الاستطاعة، أو لأن القيد مبغوض للمولى فكيف يريده؟ فمثلا المولى يريد دفع الكفارة ممن أفطر أثناء الصوم متعمدا، فهل يتصور هنا أن يريد من العبد الإفطار عمدا كي يتحقق المقيد؟
والنتيجة أن لازم دعوى وجود إرادة فعلية نحو المقيد أن تكون إرادة فعلية نحو القيد إذ لا يمكن التفكيك بينهما وجدانا، وحيث إن التالي باطل، إذ أن إرادة القيد غير معقولة في بعض الموارد لكونه مبغوضا، وفي بعضها مما لا دخل له في استيفاء المصلحة، فالمقدم باطل، وهو وجود إرادة فعلية نحو المقيد.
فإن قلت: إن الملازمة الوجدانية مما يعقل الخروج عنها إذا كان التفكيك بين إرادة المقيد وإرادة القيد مما تقتضيه بعض العوامل وهو كون القيد الدخيل هو الوجود الإتفاقي لا الوجود المرغوب.
قلت: إن غاية ذلك عدم الإدانة والعقوبة على ترك القيد لا عدم إرادته، فإنه إذا كان الملحوظ في دخله في الواجب الوجود الإتفاقي فلا موجب للإدانة بالترك لكن التفكيك بحسب عالم الشوق والإرادة بين المقيد والقيد غير متصور .
فإن قلت: إن هناك فرقا بين إرادة الحج وإرادة القضية الشرطية، فمن الواضح أنه لا توجد إرادة فعلية نحو الحج لأنه لو أراد الحج نفسه إرادة فعلية لأراد قيوده مع أن بعض القيود غير مراد، ولكن هذا لا يقتضي عدم أي إرادة فعلية في نفس المولى وراء الخطاب ، بل هناك إرادة فعلية نحو القضية الشرطية، فكما أن المولى لو صدر منه الجعل بقوله ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ فإن الجعل وجود تنجيزي بالفعل مع أنه لا فعلية للمجعول إلا بفعلية الاستطاعة، فكذلك الإرادة موجودة بالفعل لكن نحو القضية الشرطية لا نحو الجزاء نفسه ، فلو قيل للمولى: إن هذه الشرطية - وهي لزوم الحج عند الاستطاعة - مرادة لك أم لا؟ لأجاب بأنها مرادة ولذلك جعلها، فالإرادة الموجودة بالفعل قبل الاستطاعة إرادة نحو القضية الشرطية لا إرادة نحو الحج، ولذلك لا تترشح منها إرادة للشرط، فإن إرادة الشرطية لا تستلزم إرادة الشرط، إما لمبغوضيته وإما لعدم دخله في استيفاء المصلحة أو نحو ذلك .
قلت: لا معنى لإرادة الشرطية بما هي شرطية، فإن القضية الشرطية مجرد صورة ذهنية حاكية عن عالم الملاك ، والنكتة في ذلك أن إرادة الإنسان إنما تنصب على ما هو موطن غرضه، لا غير ذلك، وبما أن إرادة الإنسان إنما تتعلق بموطن غرضه فموطن غرضه ليس الشرطية بما هي شرطية، وإنما موطن غرضه الجزاء إن حصل الشرط، فالمولى إما أن يريد الجزاء بالفعل ولازمه إرادة القيد وهو خلف أو لا توجد إرادة بالفعل وليس في نفسه سوى العلم أي: علم المولى بأن في الحج مصلحة إن حصلت الاستطاعة، ولأجل هذا العلم صدر الخطاب منه فلا إرادة نحو الحج بالفعل ولا نحو القضية الشرطية بما هي قضية شرطية .