« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/12

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

والمقصود بذلك انقسام نفس الوجوب الى مطلق ومشروط فمثلا: وجوب صلاة الظهر مشروط بدخول الوقت، ولكنه مطلق من حيث الاستطاعة، أي: سواء أكان المكلف مستطيعا ماديا أم لا، فإن وجوب صلاة الظهر فعلي في حقه، فوجوب صلاة الظهر بشرط من جهة ولا بشرط من جهة أخرى.

وقد وقع البحث عند الأعلام في إمكان الواجب المشروط في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات.

المقام الأول: في مقام الثبوت.

أي: هل يعقل ثبوتا أن يكون الوجوب مشروطا بشرط أم لا؟

والتحقيق أنه لا ريب في أن الاشتراط معقول في عالم الملاك وفي عالم الجعل الاعتباري، وإنما البحث في معقولية الاشتراط في عالم الشوق والإرادة، وبيان ذلك مثلا بالنسبة لوجوب الحج المشروط بالاستطاعة، فإنه لا ريب في أن لا ملاك في الحج إلا في فرض الاستطاعة، فالملاك مشروطٌ بمعنى أن اتصاف الحج بالمصلحة منوط بوجود الاستطاعة، وهذا لا إشكال فيه، كما أنه لا إشكال في رجوع الشرط في عالم الجعل والاعتبار للمجعول، لمامر من أن المجعول على نحو القضية الحقيقية كما إذا قال المولى: (إذا استطاع المكلف وجب عليه الحج) لا يكون فعليا إلا بفعلية الاستطاعة خارجا، حيث إن المولى أناط فعلية المجعول بفعلية الاستطاعة في عالم الاعتبار. فلا إشكال في الإشتراط بحسب عالم الملاك وعالم الجعل الاعتباري، وإنما البحث كله في عالم الإرادة الذي هو وسط بين عالم الملاك وعالم الجعل والاعتبار، أي هل يعقل أن تكون الإرادة مشروطة أم لا؟

وبناء على ذلك سيقع البحث في مطالب ثلاثة:

المطلب الأول: في معقولية اشتراط الإرادة بشيء.

المطلب الثاني: على فرض أن الإرادة فعلية لعدم معقولية اشتراطها بشيء فهل الحكم الشرعي هو من قبيل الإرادة أم من قبيل الاعتبار والجعل؟

المطلب الثالث: على فرض إمكان اشتراط الإرادة فما هو تصوير ذلك؟ حيث وقع الخلاف بين الأعلام في تصوير الإرادة المشروطة .

المطلب الأول: في معقولية اشتراط الإرادة

بيان ذلك: إذا قال المولى: (أريد الحج من المكلف إذا استطاع) فهل الإرادة فعلية أم لا تكون فعلية إلا بفعلية الاستطاعة؟ أي: أن الاستطاعة قيد دخيل في المراد أم في الإرادة؟ فإن قلنا بأن الاستطاعة قيد دخيل في الإرادة فلا فعلية للإرادة إلا في ظرف فعلية الاستطاعة، وإن قلنا بأن الاستطاعة قيد دخيل في المراد فإن الإرادة فعلية منجزة ولكن الحج المراد هو ما كان في ظرف الاستطاعة.

وقد بنى على ذلك الشيخ الأعظم - كما نسب إليه في مطارح الأنظار - والمحقق الإيرواني والمحقق العراقي قدست أسرارهم، وقد ذكر في كلماتهم وجه برهاني ووجه وجداني.

الوجه البرهاني:

وتوضيحه بذكر أمور ثلاثة:

الأمر الأول: أن الإرادة تابعة للعلم بالمصلحة، فمتى وجد المولى مصلحته في فعلٍ صادر من العبد أراده منه .

الأمر الثاني: إن من المستحيل تعليق الإرادة على أمر خارجي بأن تكون الإرادة منوطة بالاستطاعة الخارجية، لاختلاف الوعاء، فإن الإرادة وجود ذهني نفسي والاستطاعة وجود خارجي ولا يعقل دخل الخارجي في الذهني لاشتراط التأثير والتأثر بالسنخية ، فما لم يكن المؤثر والمتأثر متحدين في الوعاء فدخل أحدهما في الآخر مستحيل، لذلك لا يعقل أن يكون وجود الاستطاعة خارجا هو الدخيل في تحقق الإرادة، بل يتعين أن يكون شرط الإرادة ما كان من سنخها، وماهو من سنخها هو العلم واللحاظ، فالدخيل في فعلية الإرادة علم المولى بالمصلحة لا نفس المصلحة الخارجية.

الأمر الثالث: بما أن فعلية الإرادة تدور مدار العلم بالمصلحة وقد علم المولى أن في الحج عند حصول الاستطاعة مصلحة، فإرادته للحج إرادة فعلية لا أن إرادته للحج في ظرف حصول الاستطاعة.

والجواب عن هذا الوجه أنه لا إشكال ولا ريب أن الدخيل في فعلية الإرادة هو العلم لا الوجود الخارجي، ولكن المدعى أن الدخيل في وجود الإرادة بالفعل العلم باتصاف العمل بالمصلحة بالفعل لا العلم باتصاف الفعل بالمصلحة على تقدير وجود الشرط ، مثلا إذا علم المولى أن الاستطاعة تحققت فعلم باتصاف الحج بالمصلحة بالفعل أراده فعلا ، وأما إذا لم يعلم بوجود الشرط وإنما علم بالقضية الشرطية وهي اتصاف الفعل بالمصلحة إن وجد الشرط كالإستطاعة للحج فلافعلية للإرادة ، وماهو الموجود في نفس المولى حينئذ هو العلم بالقضية الشرطية من دون إرادة فعلية متعلقة بالجزاء لعدم العلم بفعلية الشرط . فالوجه البرهاني لإرجاع القيد للمراد دون الإرادة غير تام .

الوجه الوجداني:

وبيانه أن يقال: أن المولى إذا علم أن في الفعل مصلحة فالمشاهد بالوجدان صور ثلاث:

الأولى: أن يريده مطلقا فإنه إذا علم أن في الفعل مصلحة لا بشرط فإنه يريده لا بشرط، كما إذا علم أن في الصدقة مصلحة لا بشرطٍ فيريد الصدقة لا بشرطٍ.

الثانية: أن يعلم أن القيد دخيل في استيفاء المصلحة لا في أصل اتصاف الفعل بالمصلحة، كما إذا علم مثلا: أن الصلاة ذات مصلحة في نفسها من دون توقف على شرط معين، ولكن لا يمكن استيفاء المصلحة التي هي في الصلاة إلا بالطهارة، فهنا لا محالة إذا أراد المولى الصلاة أراد الطهارة، لأنه أراد الصلاة لمصلحتها، وهو يعلم أن مصلحتها لا تستوفى إلا بالطهارة، فإرادته للصلاة إرادة بالفعل للطهارة، فهو يريد المقيد بما هو مقيد غايته أن إرادته للتقيد نفسية وللقيد غيرية .

وهاتان الصورتان لا نقاش فيهما بين الأعلام.

الثالثة: أن يعلم أن الفعل لايتصف أساسا بالمصلحة إلا إذا وجد القيد اتفاقا، بمعنى أن الحج مثلا لا مصلحة فيه في نفسه، وإنما يتصف بالمصلحة إذا وجدت الاستطاعة اتفاقا، فمتى وجدت اتصف الحج بالمصلحة، لا مثل الصلاة والطهارة، فهنا هل أراد المولى الحج بالفعل والشرط وهو الاستطاعة دخيل في المراد أم لا؟ قد أفاد جماعة من الأعلام أن الوجدان شاهد على أن المولى أراد الحج بالفعل، غاية ما في الباب أن الحج المراد لا يكون إلا في ظرف الاستطاعة، والشاهد على ذلك أنه لولا أن المولى أراد الحج بالفعل لما طلبه، فإن الطلب فرع الإرادة، لأن مراحل الحكم هي الملاك ثم الإرادة ثم الطلب، فإذا علم المولى أن في الحج ملاكا في ظرف الاستطاعة، فقد أراده بالفعل من المكلف وإن لم تتحقق الإستطاعة خارجا ولذلك طلبه، فطلب الحج من المكلف إن استطاع شاهدٌ وجداني على أن هناك إرادةً للحج بالفعل.

ولكن هذا الكلام كما ترى، فإنه على مبنى أن الإرادة من مراحل الحكم فإن مقتضى الحكمة كون المجعول في مقام الاعتبار متطابقا مع مقام الملاك، وحيث إنه لا ملاك في الحج إلا في ظرف الاستطاعة فلا وجوب مجعول للحج إلا في ظرف الاستطاعة، وهذا ما بينه المولى في مقام الطلب، فإنه لم يطلب الحج بالفعل كي يقال : إن طلبه شاهد على الإرادة بالفعل، وإنما طلب الحج على فرض الاستطاعة، فلا دلالة فيه على أكثر من أن الملاك منوط بالاستطاعة لا أن هناك إرادة فعلية نحو الحج.

logo