46/04/10
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
الجهة الثانية: دخل الشرط المتأخر في ملاك المأمور به
ووجه الإشكال في دخل الشرط المتأخر في ملاك المأمور به أنه إذا فرض مثلا أن صوم المستحاضة مشروط بالغسل في الليلة التالية فبما أن الاشتراط ليس جزافاً ، بل إن الإشتراط في مقام الجعل كاشف عن الدخل في الملاك، إذ لولا دخله في الملاك لم يكن لاشتراط صحة الصوم به وجهٌ، فحينئذ يرد الإشكال، وحاصله أن المحقق للملاك عنصران: العنصر الأول: المقتضي، وهو الصوم نفسه، العنصر الثاني: الشرط، وهو الغسل في الليلة التالية، والسؤال أن الملاك إما أن يتحقق حين تحقق الصوم أو يتحقق حين تحقق الشرط وهو الغسل، وعلى كلا المحتملين يلزم تأثير المعدوم في الموجود، وهو محال، وذلك لأنه إن تحقق عند تحقق الصوم قبل الغسل والفرض دخل الغسل في الملاك فيلزم من دخله في الملاك قبل وجوده دخل المعدوم في الموجود، وإن تحقق الملاك عند تحقق الغسل وقد انعدم الصوم حينه لتصرمه وانقضائه بحلول الغروب، فيلزم من تأثير الصوم في الملاك المتحقق حين تحقق الغسل تأثير المعدوم في الموجود، فمقتضى دخالة العنصرين في الملاك أنه لا يعقل انعدام أحدهما عند تحقق الملاك، وإلا لزم تأثير المعدوم في الموجود.
وقد أجيب عن هذا الإشكال بأحد جوابين:
الجواب الأول: ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره، وهو مبني على مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن اختلاف الحسن والقبح باختلاف العناوين، واختلاف العناوين باختلاف الإضافات، وبيان ذلك أن التواضع مثلا بالإضافة إلى المتكبر يتعنون بكونه إذلالا للنفس فيكون قبيحا، والتواضع بالإضافة إلى الأبوين يتعنون بكونه احتراما، وتعنونه بكونه احتراما موجبٌ لحسنه، فاختلف حسن التواضع وقبحه باختلاف العنوان، واختلاف العنوان باختلاف الإضافة، فإن إضافته للأبوين غير إضافته للمتكبر المتعالي، وهذا شاهدٌ على أن الإضافة - أي: إضافة الفعل إلى شيء - توجب عنونته بعناوين مختلفة تقتضي هذه العناوين اتصاف الفعل بالملاك الموصوف بالحسن أو القبح.
المقدمة الثانية: بما أن الإضافة إلى شيءٍ توجب عنونة الفعل، وعنونة الفعل توجب ملاكا من الحسن أو القبح، فلذلك إذا أضيف المأمور به إلى شرط من الشروط كما إذا أضيفت الصلاة إلى شرط الطهارة أو أضيف صوم المستحاضة إلى الغسل الليلي فإن نفس الإضافة هي الدخيلة في الملاك لا الشرط، إذ لا دور للشرط إلا كونه طرفا في الإضافة، وأما ما هو الدخيل في تحقق الملاك فهو نفس الإضافة، لأن الإضافة موجبة لعنونة الفعل، وعنونة الفعل هي التي توجب حسنه أو قبحه، فلا دخل للشرط الذي يقاس إليه الفعل، بل الدخل للإضافة، وبما أن الإضافة أمر مقارن لا متقدم ولا متأخر فلا فرق بين كون الشرط شرطا متقدما كما إذا أضيفت الصلاة إلى الوضوء قبلها أو شرطا مقارنا كما إذا أضيفت الصلاة إلى الطهارة أو شرطا متأخرا كما إذا أضيفت الصلاة إلى التعقيب بعدها، فإن الشرط لا دور له، بل الدخيل نفس الإضافة، والإضافة أمرٌ مقارنٌ فالمؤثر في وجود الملاك معاصر له فلا يرد إشكال تأثير المعدوم في الموجود.
وفي المقام إيرادان:
أولا: ماذكره المحقق الإصفهاني في نهاية الدراية [ج2 ص47] بقوله: (وفيه أن دخل شيء في منشئية شيء لعنوان انتزاعي ليس جزافا، بل لدخله في علل قوامه - أي ماهيته - أو دخله في وجود ذات منشأ الإنتزاع، وما لم يتحقق ما شأنه كذلك لا يعقل تحقق الأمر الإنتزاعي).
وحاصله: أنه لو سلمنا أن الإضافة هي المؤثر في الملاك إلا أن وجود الشرط المتأخر دخيل في تحقق الإضافة التي هي منشأ لانتزاع عنوان حسن أو قبيح، إذ لولا وجود الشرط لما صار المشروط منشأ للتعنون بعنوان حسن أو عنوان قبيح، فيعود نفس الإشكال، وهو أن دخل الشرط المتأخر في منشئية الفعل المشروط لعنوان حسن أو قبيح - كدخل الغسل الليلي في الإضافة المقترنة بالصوم التي هي منشأ لعنوان انتزاعي يتصف به الصوم - من قبيل دخل المتأخر في المتقدم لأنه لا يعقل تحقق الأمر الانتزاعي - وهو العنوان - قبل تحقق منشأ انتزاعه ومصحح انتزاعه.
وثانيا: أن الشرط المتأخر لا ينحصر دخله بالأمور الاعتبارية، أو بالملاكات التي هي من قبيل الحسن والقبح، بل هو قائم حتى في التكوينيات، مثلا: علاج المريض يتم بشرب الدواء بعد الغذاء، وبشرط المشي بعد شرب الدواء، فالمشي بعد شرب الدواء شرط متأخر في دخالة شرب الدواء في تحقيق العلاج والشفاء، وهذا من الشرط المتأخر في التكوينيات، وجواب صاحب الكفاية لا يعالج الإشكال في هذا المورد، لنظره إلى حل الإشكال في عالم الحسن والقبح، مع أن الشرط المتأخر يعم موارد الملاكات والمصالح التكوينية الخارجية.
الجواب الثاني: ما اختاره المحقق الإصفهاني قدس سره وتبعه في أصل النكتة الأعلام الثلاثة: السيد الخوئي وسيد المنتقى والسيد الصدر قدست أسرارهم، وإن أضاف كل واحد منهم تكميلا أوتحليلا لها، قال قدس سره [ج2 ص 35] (العلة إما أن تكون مؤثرة أومقربة للأثر، والثانية هو المعد وشأنه أن يقرب المعلول إلى حيث يمكن صدوره عن العلة، ومثله لا يعتبر مقارنته مع المعلول في الزمان ، بخلاف المؤثر بمايعتبر في فعلية المؤثرية ، أوتأثر المادة فإنه يستحيل عدم مقارنته زمانا ، فما كان من الشرط شرطا للتأثير كان حاله حال ذات المؤثر، وما كان شرطا لتقريب الأثر كان حاله حال المعد).
ومحصله أن هناك فرقا بين المؤثر والمعد، فالمؤثر لا يمكن أن يكون متقدما أو متأخرا عن تأثيره، بل لا بد أن يكون معاصرا معه، سواء أكان مقتضيا أم شرطا، ففرض التأثير يستلزم المعاصرة، وأما المعد، فإن شأنه تقريب الأثر إلى عالم الفعلية لا إفاضة الأثر وإيجاده، وبما أن دوره التقريب لا إفاضة الأثر فمن الممكن أن يكون معدوما حين وجود الأثر، وبيان ذلك بالأمثلة:
إذا جاء المكلف لزيارة الحرم الشريف فكل خطوة يخطوها بالنسبة إلى الوصول إلى الحرم معد وليست مؤثرا في الوصول ، أي أن كل خطوة في المشي ضرورة للخطوة الثانية والثانية للثالثة إلى أن يصل إلى الحرم، فإذا حصل الأثر وهو الوصول إلى الحرم فإن نسبة الخطوة الأولى إليه ليست نسبة المؤثر بل نسبة المعد، إذ أن دورها كان تقريب الأثر - وهو الوصول إلى الحرم - إلى عالم الفعلية بحيث يصدر عن الفاعل له ، وإلا فليست هي الموجدة والمفيضة للأثر وهو الوصول إلى الحرم، ولذلك قد ينعدم المعد حين تحقق الأثر، كانعدام الخطوة الأولى حين الوصول إلى الحرم، وكذلك نسبة البناء إلى البناء، فإن دور البناء أنه بحركات يده يحدث إعدادا في مواد البناء، ومواد البناء تختزن ذلك الأثر الإعدادي وهي بضميمة العوامل الطبيعية تكتسب التماسك والتجاذب، ومقتضى ذلك استمرار البِناء حتى مع موت البنّاء حينه ، لأن نسبة البنّاء إلى البِناء ليست نسبة المؤثر للأثر بل نسبة المعد.وتقريب ذلك في الشرط المتقدم أنه إذا فرض أن شرب الدواء إنما يكون نافعا في العلاج إذا سبقه الغذاء، فالغذاء شرط متقدم، إلا أن دور الغذاء بالنسبة لأثر الدواء ليس دور المؤثر بل دور المعد، ومعنى أن دوره دور المعد أن الغذاء يحدث أثرا في البدن، وهذا الأثر هو عبارة عن الاستعداد والقابلية ويبقى هذا الاستعداد والقابلية إلى حين شرب الدواء، فحين اجتماع الاستعداد مع شرب الدواء يكون شرب الدواء مؤثرا، فالمؤثر هو شرب الدواء بضم الاستعداد، والاستعداد قد تحقق ببركة الغذاء قبله وإن انعدم الغذاء حين تحقق الأثر المستند إلى شرب الدواء.