46/04/05
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
ويلاحظ على ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره بأن ما أفاده في المقام لا يجدي في حل معضلة اشتراط الحكم الوضعي بالشرط المتأخر، كاشتراط الملكية في عقد الفضولي بالإجازة المتأخرة وجودا عن وجود العقد، وذلك بالنظر إلى مجموع أمور تعرض لبعضها المحقق نفسه في نهاية الدراية:
الأمر الأول: أن الملكية وجود اعتباري، بمعنى أن في الأحكام الوضعية ما هو أمر انتزاعي وما هو مجعول بالاستقلال، فمثلا الجزئية والشرطية ليستا مجعولتين، بل هما منتزعتان من الجعل، فإن المولى إذا أمر بالصلاة مع الطهارة وستر العورة والاستقبال انتزع العقل من المأمور به المعين عنوان الشرطية للطهارة والستر، وإلا فإن المولى لم يتصد لجعل الشرطية وإنما أمر بالصلاةٍ بهذه الكيفية، فالشرطية ليست مجعولة من قبل المولى، بينما الملكية والزوجية مجعولة استقلالا من قبل المولى، حيث إن المولى إذا قال: (من حاز ملك) فقد جعل الملكية، ومحل البحث في الحكم الوضعي المجعول من قبل المولى، ومعنى أنه مجعول أن وجوده وجود اعتباري، كما أفيد في نهاية الدراية[1] بمعنى أن المولى إذا قال: (اعتبرت الملكية لمن حاز شيئا) فإن الموجود بالحقيقة هو اعتبار الملكية، أي: هذه العملية الاختيارية الصادرة من المولى المسماة بالاعتبار، ولا وجود حقيقي للملكية، غاية ما في الباب أن العقل ينتزع من اعتبار الملكية عنوان الملكية المجعولة لمن حاز، أو أن المرتكز العقلائي عندما يتلقى الجعل والإعتبار الصادر من المولى يرى أن للملكية في فرض الحيازة وجودا اعتباريا يعبر عنه بالقانون، فالبحث فعلا فيما هو موجود بوجود اعتباري من الأحكام الوضعية.
الأمر الثاني: ما أشار إليه المحقق نفسه[2] من أن محل البحث ليس في شرط الانتزاع وإنما في شرط المنتزَع، ونص كلامه: (ومثله الكلام في شرط الوضع، فإنّ الشيء إذا كان شرطا للانتزاع بما هو فعل النفس ، أو تصديق العقل ، فلا محالة يكون شرطا بنحو وجوده النفساني المناسب لمشروطه ، وشرط الانتزاع ـ بما هو انتزاع ـ ليس من محلّ النزاع ، بل الكلام في شرطية شيء للمنتزع ، وهي الملكية ـ مثلا ـ والإشكال فيه على حاله لعدم معقولية دخل أمر متأخّر في ثبوت أمر متقدّم والمفروض أن الإجازة بوجودها الخارجي شرط لحصول الملكية من حين العقد).
ومحصل كلامه أن البحث ليس في شرط فعل النفس - وهو نفس عملية الانتزاع والاعتبار - فإنه بلحاظ وعاءه وهو الذهن مشروط بأمر نفساني مقارن له مماثل له في الوعاء وهو لحاظ الموضوع بتمام قيوده ، ولكنه بلحاظ ماهو خارج عن الذهن فعل منجز غير مشروط بشيء، وإنما البحث في شرط المنتزَع من عملية الإعتبار، حيث إن المولى بعد قيامه بالاعتبار يدرك العقل مجعولا يسمى بالملكية، ومعقد البحث في شرط هذا المنتزع، وأما الانتزاع نفسه فعملية نفسانية تكوينية يتعين أن يكون شرطها مثلها في كونه تكوينيا نفسانيا وهو اللحاظ، فإن اللحاظ شرطٌ تكويني للملحوظ، وشرط الملكية كما ذكره قدس سره نفس الإجازة الخارجية لا لحاظها ولا عنوانها، فالإجازة بوجودها الخارجي هي الشرط في المنتزع المعبر عنه بالملكية.
الأمر الثالث: في تحديد المجعول الجزئي الفعلي بفعلية موضوعه، وقد أفاد قدس سره[3] ما نصه أن (قيام الاعتبار بالمعتبر ـ بملاحظة أن الشارع بعد ما جعل اعتباره منوطا بهذا الأمر) ومعناه أن الشارع أناط وجود الملكية بأمر من الأمور الخارجية ، ولا معنى للإناطة إلا ربط الوجود بالوجود، فإذا أناط الملكية بأمر فقد ربط وجودها بوجود ذلك الأمر، مثلا إذا أناط الملكية الحاصلة حين العقد بالإجازة فلا وجود للملكية إلا بوجود الإجازة، وهذا ما ذكرناه في مطلع البحث في الشرط المتأخر من أن مرجع الشرط - كالإجازة- ليس لعملية الجعل ولا للمجعول الكلي، بل للمجعول الجزئي المعبر عنه بالحكم الفعلي عند فعلية الموضوع، فإن ما أناط المولى وجوده في عملية الجعل بوجود الشرط ليس الجعل فهو عملية تكوينية تنجيزية غير منوطة بشيء خارجي، كما أن المجعول الكلي أمر تنجيزي، حيث إن ما يتلقاه العقلاء من قول المولى: (إني جعلت الملكية لمن حاز شيئا) أن هناك مجعولا كليا ليس منوطا بشيء في الخارج وهو الملكية لمن حاز ، مما يعني أن الملكية التي أنيط وجودها بوجود الإجازة هي المجعول الجزئي المعبر عنه بالحكم الفعلي عند فعلية الموضوع.
الأمر الرابع: ذكر المحقق قدس سره عبارة ترشد إلى محل الكلام[4] فقال: (أن سببيتها لهذا الوجود الاعتباري ـ مع قيام الاعتبار بالمعتبر ـ بملاحظة أن الشارع بعد ما جعل اعتباره منوطا بهذا الأمر - كالإجازة -، فالموجد له - أي الإجازة - متسبب به إلى إيجاد اعتبار الشارع ، فاعتبار الملكية فعل مباشري للمعتبر ، وأمر تسبيبي للمتعاملين) وبيان ذلك أن هناك فرقا بين أن يكون موضوع الحكم على نحو صرف الوجود وبين أن يكون موضوع الحكم على نحو الانحلال، فلو قال الشارع: (أكرم عالما) أو (دمٌ نجس) فالمجعول - من الإكرام للمأمور به أو النجاسة - على نحو صرف الوجود لأن موضوعه صرف وجود عالم أو دم، وأما إذا قال الشارع: (أكرم كل عالم) أو (كل دم نجس) أو قال (كل من حاز ملك) أو قال (كل من عقد له فأجاز ترتبت له الملكية) فموضوع الحكم هنا انحلالي، ومعنى أنه انحلالي أن كل حيازة توجد في الخارج يترتب عليها فرد من الملكية، غاية ما في الباب أنهم اختلفوا في أن الانحلال في مقام الجعل أم في مرحلة الفعلية؟ فالظاهر من بعض عبارات تقرير السيد الشهيد الصدر قده[5] أن الانحلال بلحاظ مرحلة الجعل، بمعنى أن المولى عندما يقول: (كل حيازة مملكة) فقد لاحظ على نحو الإجمال جعل ملكياتِ عديدة بعدد الحيازات، كما لاحظ بنحو الإجمال في: (أكرم كل عالم) جعل وجوبات عديدة بعدد أفراد العالم، وأثر ذلك أنه متى وجدت حيازة جاء اعتبار جديد من الشارع لهذه الحيازة الخارجية، ومتى حصل عقد فضولي ينتظر أن يجيزه المالك جاء اعتبار جديد للملكية من الشارع لهذا العقد، فلذلك ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره أن الاعتبار فعل مباشري من الشارع وفعل تسبيبي للمتعاملين فإنهما إذا قاما بالعقد فقد سببا لوجود ذلك الاعتبار.
وأما معنى الانحلال في مرحلة الفعلية فمعناه أن الشارع لم يقصد بنحو الإجمال جعل وجوبات عديدة بعدد أفراد العالم أو ملكيات عديدة بعدد الحيازات، بل جعل وجوبا واحدا بإزاء عنوان (كل عالم) أو ملكية واحدة بإزاء عنوان (من حاز)، إلا أن الموضوع خارجا يتعدد، فكلما حصلت حيازة خارجا بنى المرتكز العقلائي على أن تلك الملكية المجعولة بنحو القضية الحقيقية مما تنحل وتنطبق على هذا المورد وهو المعبر عنه بالإنحلال في مرحلة الفعلية .
وعلى هذا فالنزاع بين الأعلام في الشرط المتأخر إنما هو في شرط هذا الفرد من الملكية الانحلالية، وأنها هل يمكن أن تكون فعلية قبل فعلية الشرط أم لا؟
الأمر الخامس: في تأثير الشرط في الملاك. وقد ذكر قدس سره [ص 40] أن الشيء قد يكون له وجودان وجود تكويني ووجود اعتباري كالأسد، فإن للأسد وجودا تكوينيا وله وجود اعتباري وهو الرجل الشجاع، كذلك الملكية لها وجود تكويني وهو سلطنة النفس على قواها، ووجود اعتباري كقول الشارع : (من حاز ملك).
ولكل من الاعتبارين مصحح فـ(كما أنّ مصحّح اعتبار الرجل الشجاع أسدا هي الجرأة والشجاعة كذلك مصحّح اعتبار المتعاملين مالكا والعين مملوكا هي المصلحة القائمة بالسبب الحادث الباعثة على هذا الاعتبار) مما يعني أن الملاك المنظور اليه في محل البحث ليس المصلحة القائمة بالاعتبار نفسه - وهي كونه حافظا للنظام تشريعا - كي يقال: كما لادخل للإجازة الخارجية في صدور الإعتبار فإنه لا دخل لها في المصلحة القائمة بالإعتبار، وإنما الملاك المنظور هو المصلحة القائمة بالعقد والسبب الحادث ، حيث إن المصلحة القائمة به هي الباعثة على الاعتبار، حيث إن في العقد مصلحة نظامية، بمقتضى كونه وسيلة لتبادل الأموال ومانعا من تصرف كل أحد في مال غيره ومبيحا لتصرف المتعاملين في ما وصل إليهما، فهل الإجازة المتأخرة يمكن أن تكون شرطا في فعلية الملكية من حين العقد مع أنها لم توجد بعد؟ وهل يمكن أن تكون مؤثرة في المصلحة القائمة بالعقد بغض النظر عن المصلحة في الإعتبار نفسه ؟ فإن أجاب عن ذلك - بما هو الصحيح كما مضى بيانه - وكما أشار اليه في [ص40] بأن وجود الملكية وجود اعتباري بمقتضى المرتكز العرفي، والوجود الإعتباري خارج عن إطار التأثير والتأثر لعدم كونه وجودا حقيقيا فلا مانع من إناطته بشرط متأخر، وأن الملاك وهو دخالة العقد في نظم الأمور اعتبار عقلائي أيضا لا ملاك تكويني فلا مانع من إناطة اعتبار العقلاء له بشرط متأخر ، فلا حاجة للمقدمات التي سطرها من أجل الوصول للنتيجة.