« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/03

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

التأمل الثالث: بما أن الخصوصية التي يكتسبها المشروط عند وجود الشرط خصوصية انتزاعية فما هي نسبة الشرط اليها ؟ وهنا محتملان : الأول: أن تكون نسبة الشرط اليها نسبة منشأ الانتزاع، كنسبة السقف إلى الفوقية، حيث إن الذهن لولا ملاحظة السقف لما انتزع صفة الفوقية، فكذلك في المقام، فإن الذهن لولا ملاحظته الشرط لما انتزع الخصوصية في المشروط، مثلا: إذا كان الشرط في إحراق النار اقتراب الجسم منها فإن الذهن لولا ملاحظته الاقتراب لما انتزع صفة في النار وهي النار ذات الإضافة للجسم أو النار المقتربة من الجسم، فالشرط منشأ لانتزاع الخصوصية في المشروط. الثاني: أن تكون نسبتها إلى الشرط نسبة التضايف، أي أن الذهن عندما يدرك الشرط يدرك أن بين الشرط وبين الخصوصية تضايفا أي: تلازما في التعقل ، فإن التضايف كما يأتي في الأمور الخارجية يأتي في الأمور الانتزاعية، مثلا: الكفر والإيمان بناء على أن الكفر أمر وجودي هما من المتضايفين المتلازمين تعقلا، فلا يعقل إيمان ما لم يعقل كفر وبالعكس، فكذلك في الأمور الانتزاعية، فالفوقية والتحتية متضايفان، حيث إن الذهن لا يعقل التحتية ما لم يعقل الفوقية، وهما من الأمور الانتزاعية.

وسواء كانت النسبة بين الشرط والخصوصية نسبة منشأ الانتزاع للمنتزع أم نسبة التضايف فإنه على كلا المحتملين يرد الإشكال على مبنى المحقق العراقي قدس سره، فإنه إذا كانت نسبة الشرط الخارجي - كاقتراب الجسم من النار - للخصوصية في النار - وهي كونها نارا مقتربة من الجسم - نسبة منشأ الانتزاع للمنتزع فلا يعقل أن يتقدم المنتزع على منشأ انتزاعه زمانا، حيث إن منشأ الإنتزاع ليس هو تصور الشرط، فان التصور مجرد مرآة لما هو منشأ الإنتزاع، بل منشأ الإنتزاع هو وجود الشرط خارجا، وحيث إن نسبة منشأ الانتزاع للمنتزع بمثابة العلة والمعلول، فكما لا يعقل تقدم المعلول على العلة، كذلك لا يعقل تقدم المنتزع على وجود منشأ الانتزاع، نعم العقل يدرك بالفعل قضية شرطية وهي أنه إذا وجد الشرط فإن المشروط سيكتسب الخصوصية لا أن الخصوصية ثابتة بالفعل للمشروط ببركة انتزاعها من وجود الشرط في ما بعد .وإذا كانت النسبة نسبة التضايف فقد أفيد في علم المعقول أن المتضايفين متكافئان قوةً وفعلا، فالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية والقبل والبعد متكافئان قوة وفعلا، فإما أن يكون كلاهما بنحو القوة أو يكون كلاهما بنحو الفعل، وأما أن يكون أحدهما بالفعل - وهو الخصوصية في المشروط - والآخر بالقوة - وهو الشرط المتأخر الذي لم يتحقق بعد - فهذا منافٍ للتضايف.

فإن قلت: إن الزمان يتصف بالسبق واللحوق مع عدم فعلية اللاحق، فالسبت مثلا يتصف بأنه سابق قبل أن يوجد الأحد، مع أن السبق واللحوق من المتضايفين، ومع ذلك يصح وصف السبت بأنه سابق قبل وجود الأحد، ويتصف الأحد عند مجيئه بكونه لاحقا مع أن السبت قد تصرم وانقضى، فلماذا لا يمكن أن يكون أحد المتضايفين سابقا على الآخر زمانا مع تحققه وجدانا في مثل السبق واللحوق؟

قلت: كل الوجودات التدريجية لا يمكن أن تجتمع في الوجود، لأن طبع الوجود التدريجي أن لا يوجد الجزء الثاني إلا بعد تصرم الجزء الأول، وهذا هو الفرق بين الوجودات الدفعية والوجودات التدريجية، فمثلا وجود جسم الإنسان بأعضائه من الوجودات الدفعية لذلك يمكن أن تجتمع جميع أجزائه في الوجود، وأما الوجودات التدريجية كالكلام والحركة والزمن فلا يمكن فيه ذلك، فإن الوجود التدريجي متقوم بأن لا يوجد جزء إلا بانعدام الجزء السابق عليه، فبما أن الوجود التدريجي قائم على ذلك فإن تقدم الجزء الأول على الثاني ذاتي للوجود التدريجي، ولهذا فاتصاف الزمن كاتصاف السبت بالسبق غير متوقف على وجود الأحد، لأن سبقه عدم وجود الأحد عند وجوده ذاتي له ، فهو مقتضى تدريجيته، وتأخر الأحد بمعنى عدم وجوده إلا بانصرام السبت ذاتي له لكونه تدريجيا أيضا.

وهذا يعني أن اتصاف الزمان بالسبق واللحوق بالذات، واتصاف الزماني بالسبق واللحوق بالعرض، كما لو فرض أن زيدا توفي يوم السبت وتوفي بكر يوم الأحد، فيقال: إن وفاة زيد متصفة بالسبق على وفاة بكر، ولكنه اتصاف بالعرض، والمتصف بالسبق بالذات هو الزمن، و أما اتصاف من في الزمن بالسبق واللحوق فبالعرض، وبالتالي فالوجودات التدريجية خارجة موضوعا عن اقتضاء التضايف للتكافؤ من حيث الزمن قوة أوفعلا فلايرد النقض بها .

فتلخص من ذلك أن ما أفاده المحقق العراقي قدس سره لعلاج مشكلة الشرط المتأخر بدعوى أن الشرط المتأخر في التكوينيات ممكن فضلا عن الاعتباريات غير تام، إذ ثبت مما سبق أن دخالة الشرط المتأخر في عالم الملاكات التكوينيات مستحيلة إلا بنحو الإعداد والتوقف كما سبق بيانه .

الوجه الثالث لإثبات إمكان الشرط المتأخر: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره كما في[1] وهو خاص بالحكم الوضعي، أي: بيان لإمكان الشرط المتأخر في الأحكام الوضعية، وبيان ذلك ضمن مقدمات: المقدمة الأولى: إن الغاية من كل فعلٍ اختياري سابقة عليه تصورا مترتبة عليه خارجا، مثلا: الغاية من المشي كل يوم هي الرياضة، فهذه الغاية سابقة على المشي تصورا ومترتبة عليه خارجا، أي: متى تحقق المشي تحققت الرياضة به، فهي قائمة به مترتبة عليه. وهكذا الاعتبارات الشرعية، فإن الاعتبار الصادر من الشارع فعلٌ اختياري للشارع فلا بد له من غاية، والغاية منه سابقة عليه تصورا مترتبة عليه خارجا، أي: متى صدر الاعتبار من الشارع ترتبت عليه غايته من دون فرق في ذلك بين الاعتبار التكليفي والاعتبار الوضعي.

وبيان ذلك أنه لو صدر من المولى اعتبارٌ تكليفي - وهو الأمر والنهي - كما لو أمر المولى بفعل ذي مصلحة أو نهى عن فعل ذي مفسدة فإن الغاية من الاعتبار التكليفي أن يكون باعثا وزاجرا، فبما أن الغاية من الأمر أن يكون داعيا فمتى تحقق الأمر من المولى اتصف بكونه داعيا، ومتى تحقق النهي من المولى اتصف بكونه زاجرا، فإن هناك فرقا بين الداعوية التشريعية والداعوية العقلية، فالداعوية العقلية متأخرة عن الأمر، لأن الأمر إذا صدر من المولى ثم التفت إليه العبد حكم العقل بوجوب الانبعاث عن أمر المولى، فهذه الباعثية العقلية متأخرة زمانا عن الأمر، وأما الداعوية التشريعية وهي اتصاف الأمر بكونه داعيا مما يحصل بمجرد صدور الأمر، فإن العقلاء بمجرد أن يصدر أمر المولى يرونه داعيا للانبعاث، والنهي زاجرا عن الفعل، فالاتصاف بالداعوية التشريعية غايةٌ مترتبةٌ على الأمر والنهي بمجرد صدوره، وكذلك الحكم الوضعي، كاعتبار الملكية والزوجية، فإن الغاية من هذا الاعتبار أن يكون حافظا لنظام المعيشة، إذ لولا القوانين الوضعية لما انتظمت المعيشة، فاتصاف اعتبار الملكية بكونه حافظا للنظام مترتب عليه، إذ بمجرد أن يصدر من الشارع (من حاز ملك ومن باع ملك ومن أحيى مواتا فهي له) فإنه يتصف بكونه حافظا للنظام وإن لم يتحقق البيع والحيازة والإحياء خارجا.

المقدمة الثانية: أن وجود العقد والإجازة في الخارج ليس سببا لا في الاعتبار ولا في المصلحة المترتبة على الاعتبار، فإن الشارع إذا قال: (من باع وأجيز بيعه من قبل المالك فبيعه نافذ) فإنه اعتبار لا يتوقف على وجود عقد ولا إجازة خارجا، فليس العقد ولا الإجازة سببا في صدور الاعتبار، ولا سببا في الغاية المتحققة بالاعتبار، بل الاعتبار على نحو القضية الحقيقية صادر، والمصلحة المترتبة على الاعتبار - وهي كونه حافظا للنظام - متحققة بمجرد الاعتبار حصل عقد وإجازة أم لا، بل لا يعقل أن يكون العقد الخارجي سببا في الاعتبار أو مصلحته المترتبة عليه لاختلاف الأفق، فإن العقد قائم بالمكلف والاعتبار قائم بالمولى، ومع اختلاف الموضوع لا يعقل أن يكون أحدهما سببا للآخر. وبهذا يتبين أن الشرط المتأخر - كالإجازة للعقد الفضولي - ليست سببا لاعتبار الملكية، لأن الإجازة صادرة من المالك واعتبار الملكية حين العقد صادر من الشارع، فلا يعقل أن يكون أحدهما مؤثرا في الآخر، فإن التأثير فرع كون الوعاء واحدا، والإجازة من وعاء واعتبار الملكية من وعاء آخر، فلا يعقل أن تكون الإجازة شرطا متأخرا للملكية، فالإشكال في الشرط المتأخر - وهو لزوم تأثير المعدوم في الموجود - مما لا موضوع له في المقام.


[1] نهاية الدراية ج2 ص42.
logo