« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/04/02

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الأوامر

الموضوع: مبحث الأوامر

 

المحتمل الثالث: أن الخصوصية التي يكتسبها المشروط عند مقايسته بالشرط خصوصيةٌ انتزاعية، وهذا هو الأقرب لمجموع عباراته، وإن كانت بعض عباراته قد تشعر[1] بأن الخصوصية اعتباريةٌ، كما توحي بعض عباراته بأنها خصوصية خارجية (ص284 ) ولكن المستفاد من مجموع عباراته أن الخصوصية أمر انتزاعي، وذلك من خلال تعبيره المتكرر بأن دخل الشرط في المشروط من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الأمر الاعتباري ومن قبيل دخل ما به التقيد في التقيد، كدخل عدم المانع في خصوصية في الأثر وهو بتلك الخصوصية تكون له القابلية في الانوجاد عن المقتضي، وهاتان العبارتان كما يظهر من كلامه (في صفحة 286) عند حديثه حول إمكان اشتراط الحكم الوضعي بالشرط المتأخر - أن دخل منشأ الاعتبار في الأمر الاعتباري انتزاعي وأن دخل ما به التقيد في التقيد أمر انتزاعي.

وبيان ذلك أن المكلف إذا تلقى الجعل كما إذا وصل للمكلف خطاب (من حاز ملك) فإن المكلف عندما يتلقى الجعل بهذا الخطاب ينتزع عقله قهرا قضية حقيقية، وتلك القضية هي أن الملكية مجعول شرعي في ظرف تحقق الحيازة، ونسبة الانتزاع للمنتزع - وهو الملكية - نسبة الطريقية كما عبر به قدس سره، ومعنى ذلك أن العقل حينما يتلقى الجعل الشرعي لا يرى نفسه فاعلا وصانعا للقضية التي انتزعها بل يرى أن لهذه القضية تقررا وثبوتا في الواقع بغض النظر عن إنتزاعه وإدراكه، وبالتالي فدخل منشأ الاعتبار - وهو الجعل - في الأمر الاعتباري - وهو الملكية - هو على سبيل الانتزاع، بمعنى أن العقل ينتزع الأمر الاعتباري من قيام الشارع بعملية الاعتبار ويرى أن للمنتزع تقررا واقعيا.

ونفس هذا الدخل موجود في علقة الشرط بالمشروط، فإنه إذا قلنا بأن النار مشروطة في إحراقها باقتراب الجسم منها فإن اقتراب الجسم منها منشأ لانتزاع خصوصية في النار، وهذه الخصوصية في النار هي كونها نارا ذات اقتراب ونار مضافة إلى الجسم المقترب ونار متقيدة بالاقتراب، فهذه الإضافة والخصوصية التي اتصف بها المشروط عند مقايسته بالشرط خصوصية انتزاعية لا خصوصية خارجية ولا اعتبارية محضة.

كما أن ظاهر تعبيره بدخل ما به التقيد في التقيد هو ذلك، فإن من الواضح أن التقيد من الأمور الانتزاعية، بمعنى أن الصلاة المضافة إلى القبلة تعني خصوصية في الصلاة وهي تقيد الصلاة بالقبلة، وليس لهذا التقيد وجود خارجي، وإنما هو أمر انتزاعي محض، وإلا ففي الخارج لا يوجد إلا الصلاة والقبلة، ولا يوجد شيء وراء ذلك، فتقيد الصلاة بالقبلة الناشئ عن إضافة الصلاة للقيد ليس إلا أمرا انتزاعيا. وبذلك يتحصل أن منظور المحقق العراقي قدس سره أن الشرط ملازم لخصوصية في المشروط وهي خصوصية انتزاعية، والمشروط المتصف بهذه الخصوصية الانتزاعية هو المؤثر، في فعلية الملاك أوالاتصاف بالملاك.

وهنا عدة تأملات على ما أفيد:

الأول: أن هذه الدعوى - وهي أن دور الشرط ليس إلا الإسهام في القابلية في المقتضي أو الأثر ولا دخل له في التأثير والتأثر - مخالفة لما ذكره أهل المعقول ومايدركه الوجدان من أن الشروط الخارجية دخيلة في فعلية التأثير، لا أنها مجرد عامل مساهم في القابلية، مثلا: النار محرقة إذا اقترب الجسم منها يعني أن النار في حد ذاتها فيها اقتضاء للإحراق لكن هذا الاقتضاء لا يصل إلى مرحلة الفعلية في التأثير إلا بالشرط، فالشرط هو الناقل من الاقتضاء إلى الفعلية، فهو مسهم في التأثير وحصول الفعلية.

فإن قلت: قد أفاد المحقق أعلى الله مقامه (ص274) أن الشاهد على أن الشرط لا دور له في التأثير هو أنهم تسالموا على أن العلة مكونة من المقتضي والشرط وعدم المانع، مع أن من الواضح أن العدم لا يعقل أن يكون دخيلا في التأثير، إذ لا يعقل أن يكون العدم مؤثرا في الوجود، فكذلك الشرط حاله حال عدم المانع لا دور له في التأثير بل له دور في تحقيق القابلية أو تتميمها

قلت :

أولا: أن دعوى تسالمهم على كون عدم المانع من أجزاء العلة ممنوع، فقد صرح عدة من أهل المعقول بأن التعبير عن عدم المانع بأنه من أجزاء العلة تعبير تقريبي لا حقيقي، نظير ماقاله صاحب المنظومة: كذاك في الأعدام لا علية ... وإن بها فاهوا فتقريبية

بمعنى أنه إذا قيل: إن عدم العلة علة لعدم المعلول فهو تعبير تقريبي إذ لا علية في الأعدام بل المراد منه بيان الملازمة بين الوجودين - أي أنه لا وجود للمعلول إلا بوجود العلة - فكذلك إذا قيل: إن عدم المانع من أجزاء العلة فهو تعبير تقريبي مجازي والمقصود به: أن أجزاء العلة ثلاثة وهي المقتضي الذي منه الوجود حيث إن الحرارة الحارقة من نفس النار ، والشرط نحو اقتراب الجسم من النار وهو المسهم في بلوغ الإقتضاء لمرحلة الفعلية لولا المانع، وقابلية الأثر للتحقق نحو قابلية الجسم للإحتراق ، ولا دخل لعدم المانع في العلية والتأثير وإنما هو عائق عن تأثير المقتضي، أي: أن المقتضي لو تم وكان الشرط متحققا فإن وجود المانع حاجز عن تحول قابلية الجسم للإحتراق الى الفعلية ببركة مزاحمته للمقتضي في تأثيره، فمن أجل بيان هذه القضية وهي أن الجسم قابل للتأثر بالإحتراق الصادر عن المقتضي الواجد للشرط لولا وجود المانع قالوا بأن عدم المانع من أجزاء العلة، وإلا فهو ليس من أجزائها تحقيقا.

فإن قلت: كما أفاد المحقق العراقي قده[2] إن مرجع ذلك الى جعل المانع من أضداد تأثير المقتضي أي: من أضداد وجود الأثر لكون التأثير والأثر أمرا واحدا والفرق بالاعتبار فقط، ولازمه بمقتضى انحفاظ الرتبة بين النقيضين هو صيرورة عدمه - أي: عدم المانع - في رتبة وجود الأثر، وهذا مناف مع مقدمية العدم المزبور للأثر وكونه من أجزاء العلة .

قلنا: إن لكل من المقتضي كالنار والمانع كالرطوبة أثرا خارجيا، وحيث إن بين الأثرين تنافيا وتضادا بحيث لايمكن اجتماعهما في وجود واحد سرى التنافي والتزاحم بين الأثرين للتنافي بين المؤثرين وهما المقتضي والمانع الذي يعني التضاد بينهما بتبع التضاد بين أثريهما ، وبالتالي فالمانع وعدمه في رتبة المقتضي ، وأثر المانع في رتبة أثر المقتضي ، لا أن عدم المانع في رتبة أثر المقتضي كي يكون ذلك منافيا لمقدميته لوجوده، ولا محذور في كون المانع مزاحما للمقتضي نتيجة التنافي بين الأثرين لهما ، بل لامانع عقلا - لولا ما سبق - من كون المانع وعدمه في رتبة نفس الأثر - كالاحتراق في المثال - سوى دعوى أن عدم المانع من أجزاء العلة، ولازم ذلك أن يكون مقدمة لوجود الأثر فلايعقل أن يكون في رتبته وهذا هو أول الكلام .

وثانيا: لو فرض أن عدم المانع من أجزاء العلة حقيقة فقياس دور الشرط على دور عدم المانع قياس بلا مقتضٍ ولا موجب، فإن الشرط خصوصية وجودية يلزم من عدمها العدم ، وعدم المانع خصوصية عدمية عبر عنها بما يلزم من وجوده العدم، وعدم المعقولية في تأثير العدم في الوجود لا يسري إلى ما له خصوصية وجودية وهو الشرط، فعدم المانع لا دخل له في التأثير لأنه عدم، ولكن الشرط له دخل لكونه أمرا وجوديا. فما أصر عليه المحقق قده من أن الشرط لا دور له إلا في القابلية قياسا له على عدم المانع ممنوع.

الثاني: أن دعوى كون الخصوصية أمرا انتزاعيا وأن المتصف بها هو المؤثر في عالم الملاك إنما تتم إذا قلنا بأن الأمور الانتزاعية أمور واقعية كما كرره السيد الصدر قدس سره في كلماته من أن لوح الواقع أوسع من لوح الوجود، ولذا فالأمور الانتزاعية حقيقية واقعية بغض النظر عن إدراك الإنسان لها وإن لم تكن موجودة خارجا، فلامانع على هذا المبنى من كون الشرط ملازما لخصوصية واقعية انتزاعية في المشروط وإن لم تكن موجودة خارجا بحيث يكون اتصاف المشروط بها مؤثرا في عالم الوجود الخارجي، وأما على القول بأصالة الوجود وأن لا واقع للأمور الإنتزاعية إلا بانتزاعها من الخارج فلا يعقل تأثير ما ليس له حقيقة في عالم الملاكات والوجودات الخارجية.


[1] نهاية الأفكار ج1 ص278.
[2] في نهاية الأفكار ج1 ص274.
logo