46/03/29
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
هل يرجع القيد في الجملة الشرطية إلى الهيئة أم إلى المادة؟ فإذا قال المولى: (إن استطعت فحج) فهل شرط الاستطاعة راجعٌ لمفاد الهيئة وهو الوجوب أم لمفاد المادة وهو الواجب؟ فإذا لوحظ النسق اللغوي فإن كلمات أهل اللغة على أن القيد راجع للهيئة، أي أن الشرط - وهو الاستطاعة - دخيلٌ في الوجوب، ولكن ذهب الشيخ الأعظم قدس سره ومن تبعه إلى رجوع القيد للمادة أي: الواجب، بمعنى أن الواجب هو الحج المتصف بالاستطاعة، وإلا فالوجوب في حد ذاته لا بشرط .
ومنشأ هذا المبنى ثلاثة:
المنشأ الأول: أن معنى الهيئة من المعاني الحرفية، والمعنى الحرفي جزئي، والجزئي لا يقبل التقييد بالشرط.
وربما يقال: إن هذا المنشأ إنما يتم إذا أنشئ الوجوب بهيئة الأمر، وأما إذا أنشئ الوجوب بالجملة الاسمية كما إذا قال: (إن استطاع المكلف فالحج واجب) فلا موضوع لهذا الإشكال، لأن موضوع هذا الإشكال، إذ ليس في البين ما هو معنى حرفيّ كي يرد فيه الإشكال.
وبيان منشأ الإشكال بذكر أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن الوضع في الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاص، وبيان ذلك أن الوضع تارةً يكون عاما والموضوع له عاما، كما إذا قال الواضع: (وضعت كلمة رجل لما يقابل الأنثى) فهذا من الوضع العام والموضوع له العام، وتارة يكون من الوضع العام والموضوع له الخاص كقول الواضع: (سميت كل من يولد في يوم الغدير عليا) فحيث إن الوضع انحلاليّ فالتسمية ليست بإزاء العنوان العام - وهو من ولد يوم الغدير - بل بإزاء كل مولود مولود، فكل مولود بخصوصه منظور إليه في مقام التسمية إجمالا، لذلك فالوضع هنا وإن كان عاما حيث إن الواضع في مقام الوضع تصور عنوانا عاما - وهو من ولد يوم الغدير - ولكن الموضوع له ليس هذا العنوان العام، بل هو مجرد مشير لما هو الموضوع له، وهو: كل مولود مولود في يوم الغدير.
وهذا هو الشأن في باب الحروف، فإن الواضع إذا قال: (وضعت كلمة من للابتداء) فهو لا يقصد وضعها لمفهوم الابتداء، وإلا كان الوضع عاما والموضوع له عاما، وإنما جعل عنوان الابتداء عنوانا مشيرا لكل ابتداء خاص كالابتداء من البصرة ومن الحرم ومن المدرسة إلى آخره.
الأمر الثاني: بما أن الموضوع له خاص، أي أن الموضوع له كلمة (من) هو النسبة الابتدائية المتقومة بطرفين كقوله: (سرت من الكوفة إلى النجف) فالموضوع له جزئي، إذ الخاص المتقوم بطرفين جزئيّ، فالنسبة الابتدائية بين الكوفة وبين النجف تختلف عن النسبة الابتدائية بين كربلاء وبين الكوفة، ومقتضى التقوم بالطرفين أن الموضوع له جزئي، وهكذا في صيغة الأمر حيث: (وضعت هيئة افعل للنسبة البعثية أو الطلبية) والنسبة الطلبية نسبة جزئية متقومة بطرفين، فـ(اذهب) غير (صل وقم).
الأمر الثالث: أن الجزئي لا يقبل التقييد، فإنه إذا قال: (سرت من الكوفة إلى النجف) وكان المنظور النسبة الابتدائية المتقومة بهذين الطرفين فهي جزئي، والجزئي لا سعة فيه كي يكون قابلا للتقييد، فإن التقييد فرع السعة والإطلاق، والمفروض أن الجزئي متقوم بطرفين فلا يقبل التقييد بغيرهما، فكذلك قوله: (إذا استطعت فحج) فإن كلمة (فحج) صيغة أمر، وصيغة الأمر معناها حرفي وهو جزئي لا يقبل التقييد، فلا يعقل تقييد المستفاد من (فحج) بالشرط، مما يعني أن مرجع الشرط إلى الواجب والمادة وهو الحج لا إلى الوجوب المستفاد من الهيئة.
ولكن تفصيّ عن هذا الإشكال بعدة وجوهٍ تعرض لها الأعلام قدست أسرارهم، ومنهم سيدنا الخوئي قدس سره.
التفصي الأول: ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره من أن الأمر الأول ممنوع - وهو دعوى أن الوضع في الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاص - بل الوضع في الحروف من الوضع العام والموضوع له العام، فلا فرق بين كلمة الابتداء وبين كلمة (من) فكما أن كلمة الابتداء وضعت لطبيعي الابتداء فكذلك كلمة (من) موضوعة لطبيعي الابتداء، فكل من الاسم والحرف موضوع لمعنى عام والوضع فيهما عام والموضوع له عام، غاية ما في الباب أنه إذا استعمل الابتداء على نحو اللحاظ الآلي فهو معنى حرفي، وإذا استعمل الابتداء على نحو اللحاظ الاستقلالي فهو معنى اسمي، وإلا فلا فرق بينهما من حيث الذات، وإنما الفرق بينهما ناشئ عن مقام الاستعمال، فإن جاء الابتداء ملحوظا باللحاظ الآلي في مقام الاستعمال فهو معنى حرفي، وإن جاء الابتداء ملحوظا باللحاظ الاستقلالي فهو معنى اسمي، وإلا فلا فرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي من حيث الذات، وبناء على ذلك فالمعنى الحرفي كلي كالاسمي، والمعنى الكلي قابل للتقييد، فلا مانع من رجوع الشرط إلى الهيئة والوجوب.
ولكن نوقش في مبنى صاحب الكفاية كبرويا، بمنع كون وضع الحروف عاما والموضوع له عام، والسر في ذلك أنه لا يعقل وجود جامع حقيقي بين النسب، فالنسبة الابتدائية بين البصرة والكوفة والنسبة الابتدائية بين الحرم والمدرسة والنسبة الابتدائية بين السوق والبيت كلها معانٍ حرفية لا جامع حقيقي بينها حتى يوضع اللفظ بإزاء ذلك الجامع الحقيقي، لأنه إذا أريد انتزاع جامع بين هذه النسب فإما أن تلغى أطرافها وإما أن تبقى أطرافها، فإن ألغيت أطرافها خرجت النسبة عن حقيقتها، إذ المفروض أن النسبة متقومة بطرفيها، فكيف يتصور الجامع بينها وبين غيرها وقد انسلخت عن حقيقتها؟ وإن حوفظ على أطراف النسب لم يكن الجامع بينها جامعا حقيقيا، بل هو جامع انتزاعي من هذه النسب الخاصة المعبر عنها بالابتداء، والجامع الانتزاعي المشير مما لامعنى لوضع اللفظ بإزائه، فحيث لا يوجد جامع حقيقي بين النسب الحرفية الخاصة لم يكن من سنخ الوضع العام والموضوع له العام.
المبنى الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره الشريف وتبعه جملة من الأعلام منهم سيدنا الخوئي والسيد الصدر قدست أسرارهم، وهو أن المعنى الحرفي جزئي إضافي لا حقيقي، وبيان ذلك أن الجزئي الحقيقي ما كان متقوما بالتشخص الخارجي، والتشخص عبارة عن الوجود بجميع قيوده، وبعد وجوده بجميع قيوده فلا يقبل التقيد بقيد آخر، لأن تقيده بقيد آخر خلف تشخصه وتعينه بتمام قيوده، فليس الجزئي الحقيقي إلا ما فرغ عن وجوده بتمام قيوده، وما فرغ عن وجوده بتمام قيوده فلا يعقل تقيده بقيد دخيل في تحققه ووجوده، فإنه خلف تشخصه ووجوده، هذا كله في الجزئي الحقيقي، وأما الجزئي الإضافي فهو جزئي بالنسبة لا بالحقيقة كالنسب، فإن (سرت من الكوفة إلى النجف) نسبةٌ جزئية بلحاظ طرفيها لأنها لا تصدق على (سرت من البيت إلى السوق) ولكنها بلحاظ ذاتها كلية، لأن ابتداء، السير من النجف إلى كربلاء قد يكون ماشيا وقد يكون راكبا، وقد يكون مع الذكر وقد يكون مع اللغو، فالوضع العام والموضوع له الخاص في المعاني الحرفية وإن أدى إلى الجزئية ولكنه يؤدي إلى الجزئية بنحو الجزئية الإضافية بلحاظ الطرفين، لا أنه يؤدي إلى الجزئية غير القابلة للتقييد.
غاية ما في الباب أن هناك فرقا بين المقوم والمقيد، بمعنى أننا تارةً نضيف قيدا على نحو المقوم وأخرى نضيف قيدا على نحو المحصص، مثلا: إذا قال: (سرت من النجف ماشيا إلى كربلاء) فـ(ماشيا) قيد مقوم، بمعنى أن المتكلم من البداية أوجد النسبة ذات ثلاثة أطراف من باب ضيق فم الركية، لا أنه أوجد النسبة ثم قيدها، وهذا مما لا إشكال فيه، إذ ليس من تقييد المعنى الحرفي بل وجد المعنى الحرفي من أوله متقيدا بالثلاثة، وإنما الإشكال في القيد المحصص أي أنه بعد المفروغية عن وجود النسبة وتقومها بأطرافها هل يمكن تقييدها كما لو قال: (حج إن استطعت) أم لا؟