« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الأصول

46/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

 مبحث الاوامر

الموضوع: مبحث الاوامر

 

الجهة الثانية: في دخل الشرط المتأخر في الملاك.

هل يعقل دخل الشرط المتأخر في الملاك أم لا؟ مثلا: وجوب الحج إنما يصح إذا كان متعلقه - وهو الحج - متصفا بكونه ذا ملاك، وبما أن البحث في الشرط المتأخر للحكم وشرط الحكم ليس جزافا ، بل إن مرجع اشتراط الحكم به لعلقته بالملاك، فهل يعقل أن يكون الشرط المتأخر دخيلا في ملاك الحكم؟ فوجوب الحج مثلا مشروط بشرطين: شرطٍ مقارن - وهو الاستطاعة - وشرطٍ متأخر - وهو كون المكلف حيا قادرا في ظرف يوم التاسع من ذي الحجة - فمتى استطاع المكلف ولو قبل شهر ذي الحجة بأشهر وجب عليه الحج فعلا، إلا أن هذا الوجوب الفعلي مشروط بشرطٍ متأخر وهو كون المكلف حيا عاقلا قادرا في اليوم التاسع من ذي الحجة، فهل يعقل أن يكون هذا الشرط - وهو كون المكلف بالغا عاقلا قادرا في اليوم التاسع - دخيلا في اتصاف الحج بالملاك منذ شهر شوال مثلا؟ بمعنى أن اتصاف الحج بالملاك في شهر شوال منوط بشرط متأخر وهو كون المكلف بالغا عاقلا في اليوم التاسع من ذي الحجة؟ فإن دخل الشرط المتأخر في الحكم فرع دخله في الملاك، والا لكان اشتراطه اعتباطيا، ولذلك يرد السؤال: أنه هل يعقل أن يكون الشرط المتأخر دخيلا في أصل الاتصاف أم لا؟

فقد يقال: إن هذا محال، لأن الاتصاف بالملاك من الأمور الوجودية التكوينية، فلا يعقل أن يكون متوقفا على شرطٍ متأخر، فإن لازم ذلك تأثير المعدوم في الموجود.

ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: ومرجعه لمنع الصغرى وهي كون الشرط المتأخر للحكم شرطا متأخرا للملاك أيضا، وذلك لما ذكرناه في أول البحث في مناقشة الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب الذي اشتهر بين الأصوليين، وهو أن ما كان دخيلا في الوجوب فهو دخيل في أصل الاتصاف بالملاك، وما كان دخيلا في الواجب فهو دخيل في استيفاء الملاك، فقد تقدم أنه غير تام، حيث لا ملازمة عقلا بين كون الشيء شرطا في الوجوب وكونه دخيلا في أصل الاتصاف بالملاك، فقد يكون الشيء دخيلا في استيفاء الملاك لا في أصل الاتصاف ومع ذلك يؤخذ قيدا في الوجوب لا في الواجب لمبرر نحو كونه غير مقدور أو لنظم الأمور أو من باب الامتنان، وبيان ذلك بالمثال: أن اشتراط وجوب الحج بكون المكلف قادرا يوم التاسع من ذي الحجة لا لكون ذلك دخيلا في أصل الاتصاف بالملاك فإن الحج ذو ملاك سواء أكان المكلف عاجزا أم قادرا، وإنما القدرة دخيلة في استيفاء الملاك لعدم قدرة العاجز على تحصيل واستيفاء الملاك، ومع ذلك لم يجعلها المولى من قيود الواجب، بل جعلها من قيود الوجوب، مما يؤكد أن كون الشيء دخيلا في الوجوب لا يعني أنه دخيل في أصل الاتصاف كي يقال: لا يعقل كون المتأخر دخيلا في الاتصاف مع تقدم الاتصاف عليه لفعلية الاتصاف بالملاك من حين فعلية الوجوب، فالقدرة في المثال بلحاظ الاستيفاء شرطٌ مقارن لا متقدم، وإن كانت بلحاظ الحكم شرطا متأخرا، ونتيجة ذلك أن كون الشيء شرطا متأخرا للحكم وإن كان راجعا لدخالته في الملاك لكنه لا يعني دخالته في أصل الاتصاف بالملاك كي يقال: لا يعقل تأثير المتأخر في المتقدم، لاحتمال كونه دخيلا في الاستيفاء، وبذلك اللحاظ يكون مقارنا لا متأخرا، وإن أخذه المولى شرطا متأخرا للحكم لمبرر يقتضي ذلك .

الوجه الثاني: لو سلمنا أن هناك قاعدة كلية تفيد أن الشرط في الوجوب دخيل في أصل الاتصاف بالملاك فنقول: إن الملاكات مختلفة، فربما كان الملاك أمرا تكوينيا، وربما كان الملاك أمرا عقلائيا، فإذا كان الملاك أمرا خارجيا تكوينيا ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكون الحج قربانا للمؤمن، وهو مايدعى أنه لا يعقل أن يناط بأمر متأخر، وأما إذا كان الملاك من الاعتبارات العقلائية، أي: مما بنى عليه العقلاء لمصلحة نظامية وإن لم يكن أمرا خارجيا تكوينيا نحو كون القانون حافظا للنظام أو داعيا للخير، فإنها عناوين اعتبارية عقلائية، ولامانع من إناطة اعتبارها العقلائي بالشرط المتأخر. مثلا: ترتب الملكية على بيع الصرف والسلم مشروط بالتقابض بعده ولامانع منه لكونه حافظٌا للنظام لدى العقلاء بهذا النحو، وكذلك اتصاف الأمر الصادر من المولى بكونه داعيا إلى الخير، واتصاف النهي الصادر منه بكونه زاجرا عن الشر، كل ذلك من الاعتبارات التي لا يمتنع اشتراطها بشرط متأخر.

بل قد يقال: إن الحسن والقبح بناء على القول بأنهما من الاعتبارات العقلائية، أو الأمور الانتزاعية لا مانع من اشتراطها بشرط متأخر.

وبيان ذلك أنه لو تمت مقولة أهل المعقول - ومنهم المحقق الأصفهاني قدس سره[1] من أن حسن العدل وقبح الظلم ليست من الأمور الواقعية أصلا، وإنما بنى العقلاء على حسن العدل وقبح الظلم لضرورة حفظ النظام، فلذلك لا مانع من اشتراطه بشرط متأخر، لأن استحالة تأثير المعدوم في الموجود إنما هي في الأمور الوجودية التكوينية، وأما ما ليس منها فلا مانع من اشتراطه بشرط متأخر لأنه لا تأثير فيه ولا تأثر، وكذلك لو قلنا : إن حسن العدل وقبح الظلم من الأمور الانتزاعية بمعنى أن واقعية حسن العدل هي بإذعان العقل به، أي أن العقل جبل على أن يرى له واقعا وتقررا بغض النظر عن إدراكه والإذعان به، فإذا كانت واقعية حسن العدل وقبح الظلم ليست شيئا إلارؤية العقل أن له واقعا وراء إذعانه وإدراكه فلا مانع من إناطته بشرط متأخر، مثلا: إذعاننا بأن تعليم الأولاد أو تعليم طلبة العلم أمرٌ حسن، مشروط بأن يكونوا صالحين ثابتين على عقيدتهم في ظرف العمل، وإلا فلا إذعان بحسنه على تقدير كونهم فاسدين في ظرف العمل، فحسن التعليم منوط بشرط متأخر، مع أنه من الأمور الانتزاعية إذا كان معناه أن لاواقع له إلا الإذعان به، وكذا لو كان معنى حسن العدل وقبح الظلم عبارة عن ملائمة القوة العاقلة ومنافرتها كما هو مبنى سيد المنتقى قده[2] فلو كان الملاك من قبيل الحسن والقبح وقلنا بأنهما أمران اعتباريان أو انتزاعيان أو من الأمور الوجدانية بمعنى الملائمة والمنافرة فلا إشكال في إناطتهما بشرط متأخر، لخروجهما عن عالم التأثير والتأثر.

الوجه الثالث: لو سلمنا بأن الشرط المتأخر دخيل في الملاك وأن الملاك من قبيل الأمور الخارجية التكوينية فلا مانع من اشتراطه بشرط متأخر إذا كان مرجع ذلك إلى التوقف والإعداد، فمثلا يجب إعداد الطعام اليوم إذا كان الضيف يأتي غدا، حيث لا يمكن إعداده في وقت مجيئه، فمجيئ الضيف غدا شرط متأخر للأمر بإعداد الطعام اليوم ، وذلك لأن حصوله في ظرفه دخيل في الحاجة الى إعداد الطعام لا في الزمن المتقدم ، بل في زمن الشرط نفسه ، لكن لما كان إعداد الطعام غير ممكن في ظرف الشرط نفسه أمر المولى بتقديمه في يوم سابق ، فإعداد الطعام هذا اليوم من قبيل المقدمة المفوتة التي لولاها لفات الواجب في ظرفه، وبالتالي فضرورة إعداد الطعام هذا اليوم مشروط بشرط متأخر وهو مجيء الضيف غدا، ووجه هذا الاشتراط توقف الإكرام غدا على الإعداد هذا اليوم، وكذلك الحال في مسألة الإعداد، فمثلا الطبيب يطلب من المريض شرب الدواء بعد الأكل بشرط أن يمشي بعده بساعة، بلحاظ أن شرب الدواء في الساعة الواحدة نافع بمعنى أنه يوجد استعدادا في الجسم يبقى الى أن يتحقق مشي المريض بعده بساعة، فاذا اقترن استعداد الجسم مع المشي كان الدواء مؤثرا في العلاج ، ففي المثال شرب الدواء والمشي بعده من الأمور الوجودية، إلا أنه لما كان مشي المريض بعد شرب الدواء بساعة دخيلا في إعداد الجسم لأن يتلقى منفعة الدواء المتحققة بالمشي اشترط شرب الدواء به بنحو الشرط المتأخر.

والنتيجة أن دخل الشرط المتأخر في تولد الملاك التكويني الخارجي قبله ممتنع، ولكن يمكن أن يكون مرجع الشرط المتأخر للحكم بالنسبة للملاك إلى أحد هذه الوجوه الثلاثة.


[1] نهاية الدراية ج2ص104.
[2] ج4ص25.
logo