46/03/13
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
والحاصل أن الحكم التكليفي إذا كان عبارة عن الإرادة المبرزة والإرادة أمر تكويني أوعبارة عن نفس الأمر والنهي ، والأمر ليس اعتباريا، بل هو وجود انشائي تكويني، سواء أبرزه الآمر بالقول أوبالفعل.
فلا يتصور فيه التعليق أي كونه مشروطا، فإن الأمر التكويني إما أن يكون موجودا أو معدوما، ولذلك لامعنى لرجوع الشرط - متقدما كان أم متأخرا - إلى الحكم التكليفي مع أنه لا يقبل التعليق والاشتراط؟
وقد اختلفت الكلمات في باب الواجب المشروط في إمكان كون الإرادة مشروطة وتحديد مرجع الشرط على فرض الإمتناع كما سيأتي البحث عنها مفصلا في الواجب المشروط، حيث ذهب السيد الشهيد قدس سره[1] إلى إمكان كون الإرادة مشروطة بتفسير يبتني على رجوع الإرادة الى إرادتين ويأتي عرضه في محله، وذهب المحقق العراقي قدس سره بعد إثباته إمكان اشتراط الحكم التكليفي بالشرط المتأخر[2] إلى التفكيك بين فعلية الإرادة وفاعليتها وأن الشرط لا يرجع إلى الإرادة بل إلى محركيتها وفاعليتها، بتقريب «أن الإرادة تابعة للعلم بالمصلحة ، وفعلية العلم بالمصلحة منوط بفرض القيد ولحاظه في الذهن على نحو الطريقية لمتعلقه، نعم فاعلية الإرادة لاتكون الا في ظرف تحقق القيد خارجا»
بمعنى أن المولى إذا قال: (أريد الحج من المستطيع) فإن الإرادة فعلية، وليست معلقة على شيء، ولكن إذا تحققت الاستطاعة في الخارج والتفت المكلف إلى تحقق الموضوع تحققت المحركية لتلك الإرادة ، فالشرط - وهو الاستطاعة بوجوده الخارجي - ليس شرطا في فعلية الإرادة، بل هي فعلية من حين صدورها من المولى المريد، وإنما تحقق الشرط - كالاستطاعة - دخيل في فاعليتها ومحركيتها، وأفاد[3] بأنه (لا محيص من الإلتزام في جميع الواجبات المشروطة بفعلية الطلب فيها قبل حصول شرطها نعم لو قيل بأن الأحكام التكليفية مجعولة بحقائقها كالأحكام الوضعية لأمكن دعوى كون إناطة فعلية الطلب بفعلية الموضوع) وهذا البيان ليس جوابا عن الإشكال في إمكان إناطة التكليف بالشرط المتأخر ، بل هو بيان أن الشرط الخارجي في الحقيقة ليس شرطا للحكم التكليفي نفسه، كي يبحث عن إمكانه إذا كان متأخرا بل هو شرط لفاعلية الحكم ومحركيته.ولكن يلاحظ على ما أفيد بمجموع أمرين:
الأول: إن مرحلة فعلية الموضوع بتمام شروطه وقيوده هي مرحلة ترتب الآثار، والآثار لا تختص بالمحركية حتى بالنسبة للحكم التكليفي، وإنما المحركية - التي هي عبارة عن حكم العقل بلزوم الإنبعاث على فرض وصول البعث أثرٌ من الآثار، فقد يكون الحكم التكليفي موضوعا لحكم وضعي في حق نفس المخاطب بالحكم التكليفي نحو (من وجب على المكلف الإنفاق عليه ولو لم يكن من أولاده ولا والديه لانقطاعه اليه) ثبت بذلك كونه من عياله شرعا وإن لم يكن من عياله عرفا، وإذا كان من عياله اشتغلت ذمته بزكاة الفطرة عنه بناء على كونها دينا، ومن أتى بصلاة الظهر تماما بقصد الإقامة مع كون صلاة الظهر واجبة في حقه صحت منه صلاة العصر تماما ، وإن عدل عن قصد الإقامة بعد الظهر ، بخلاف ما لو انكشف عدم وجوب الظهر في ظرف الإمتثال لمانع كالحيض أوفقد الطهورين مثلا فإن لازمه عدم صحة العصر تماما، وإن كان الباقي من الوقت مقدار أربع ركعات ، وقد يكون الحكم التكليفي موضوعا
لحكم وضعي في حق المخاطب وغيره ، مثلا من استطاع ووجب عليه الحج فلم يحج ولو جهلا بالحكم فمات كان وجوب الحج عليه في حياته موجبا لكون الحج دينا في ذمته ولازم ذلك ثبوت دين شرعي في تركته، فلا ينتقل إلى ورثة الميت ما يعادل قيمة الحج، فهذه الآثار مما لا ربط لها بالمحركية وعدمها، لأنها أمر وضعي ليس منوطا بحال العلم والإلتفات.
الثاني: إن كان المقصود بدخل فعلية الشرط في فاعلية الحكم دخله في خصوص المحركية العقلية التي هي أثر للعلم بفعلية الموضوع ، فقد تبين أن آثار مرحلة فعلية الموضوع لا تقتصر على المحركية العقلية ، مضافا لكونها أثر للعلم بفعلية الموضوع لالنفس الفعلية، وإن كان المقصود بالفاعلية جميع الآثار ولو لم ترتبط بالمحركية العقلية فهذا خلف المرسوم في مرحلة الجعل. وبيان ذلك أن المولى
إذا قال: (أريد الحج من المستطيع)، فالجزاء الذي ربط بالشرط ليس هو ترتب الآثار، وإنما الجزاء الذي ربط بالشرط نفس الإرادة، أي: إذا تحققت الاستطاعة فأنا أريد الحج، فكيف يكون المنوط بالاستطاعة في مرحلة الفعلية هو ترتب الآثار؟ فإن هذا خلف ما أخذ في مرحلة الجعل مع أن مرحلة الفعلية ليست إلا انعكاسا لمرحلة الجعل، نعم العقل لايرى عند تحقق الشرط خارجا أي وجود حقيقي للجزاء - وهو وجوب الحج - لكن المرتكز العرفي - كما تقدم - اعتمادا على المرسوم في مرحلة الجعل من ربط الوجوب بالشرط ، يفترض وجودا اعتباريا للوجوب عند تحقق الشرط ، وإن كان الوجوب هو عبارة عن الإرادة التي هي فعلية من حين صدورها ، فكأنه يقول: بما أن المترتب على الشرط في لوح الجعل هو الجزاء المعين فهذا الجزاء مما يتحقق إذا تحقق الشرط وفي طول تحققه اعتبارا تترتب الآثار وإن لم يكن له وجود خارجي ، فهذه الرؤية العرفية نشأت عن لحاظ تبعية مرحلة الفعلية لمرحلة الجعل، .
والنتيجة: أنه لا فرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي في أن المنوط بالشرط هو الوجود بالعرض، أي: كما أن المنوط بالشرط في الحكم الوضعي هو المجعول بالعرض فكذلك في الحكم التكليفي، بناءً على أن التكليف هو الإرادة، فإن المنوط بالشرط هو المراد بالعرض. وبيان ذلك - وإن تقدم إجمالا - أنه إذا تحققت مرحلة الجعل إما بعملية اعتبارية وإما بالإرادة، فإنه عقيب تحقق مرحلة الجعل يوجد المجعول لا في عالم الوجود الخارجي بل في وعاء الإعتبار العرفي ، غاية ما في الباب أن المجعول صنفان مجعول كلي على نحو القضية الحقيقية ، وتحققه في وعاء الإعتبار لايتوقف على تحقق الموضوع خارجا، ومجعول جزئي تتوقف فعليته عرفا على تحقق الموضوع خارجا ، من دون فرق بين الحكم التكليفي والوضعي ، ولذا لو أن المولى جمع بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
في دليل واحد فقال: (إذا مات الميت بانت زوجته ونجس بدنه وانتقلت تركته ووجب على الولي تجهيزه والصلاة عليه ودفنه) فإن العرف لايرى فرقا بينهما في مرحلة الفعلية أصلا، فما يرتكز في ذهن العرف بالنسبة إلى الحكم الوضعي في مرحلة الفعلية هو الذي يرتكز في ذهن العرف بالنسبة إلى الحكم التكليفي أيضا في ظرف فعلية الموضوع بنسق واحد ، لا أن المتحقق بالنسبة للحكم الوضعي حينئذ هو المجعول بالعرض وهو الملكية بالنظر العرفي ، وفي الحكم التكليفي هو الفاعلية، أي أن المترتب على العملية الجعلية حدوث مجعول كلي في عالم الاعتبار، وهي قضية كلية مؤلفة من شرط وجزاء ، فإذا تحقق ميت في الخارج بالفعل قيل: بانت هذه المرأة منه، ونجس هذا البدن، وانتقلت هذه التركة إلى الورثة، وصار هذا الولي مخاطبا بأن يجهزه ويصلي عليه.
والفرق بين المرحلتين أن الأولى مرحلة الانتساب، والثانية مرحلة الاتصاف، فمرحلة الانتساب بمعنى أن المولى بمجرد أن يفرغ من عملية الجعل تنتسب القضية التشريعية إليه، ومقتضى انتساب القضية التشريعية إليه جواز الإخبار والإفتاء بها وحرمة الإبتداع والتغيير ، فإن هذه آثار تتعلق بانتساب القضية التشريعية إلى مصدرها، وهو المقنن المشرع، بينما مرحلة فعلية الموضوع - كمالو مات المسلم خارجا - فهي مرحلة الاتصاف، بمعنى اتصاف زوجته بالبينونة ولم تكن موصوفة بذلك من قبل، واتصاف بدنه بالنجاسة، واتصاف أمواله بالملكية للورثة، واتصف وليه بكونه مخاطبا
بوجوب التجهيز والدفن، فمرحلة المجعول الكلي مرحلة الانتساب، ومرحلة المجعول الجزئي مرحلة الاتصاف، ولكل منهما آثار، وإن كان كل منهما أمرا اعتباريا لأن الوجود الحقيقي ليس إلا لمرحلة الجعل، و تحقق الشرط خارجا بحسب النظر العقلي الدقي ليس دخيلا الا في ترتب الآثار سواء في الحكم الوضعي والتكليفي ، و لكنه بحسب المرتكز العرفي - الناشئ عن رؤية تبعية مرحلة الفعلية للجعل - يكون دخيلا في مرحلة الإتصاف ، فإن الشرط قيد في الموضوع والإتصاف منوط بفعلية الموضوع.