46/03/12
مبحث الاوامر
الموضوع: مبحث الاوامر
البحث في الشرط المتأخر في مقامين: في شرائط الحكم وشرائط المأمور به.
والمقام الأول - وهو البحث في شرائط الحكم - في جهتين، إذ تارة يقع الكلام في دخل الشرط المتأخر في الحكم وأخرى يقع الكلام في دخله في الملاك.
والجهة الأولى - وهي البحث في دخل الشرط في الحكم - تشتمل أيضا على مطلبين، إذ تارة يبحث في الحكم الوضعي، وأخرى في الحكم التكليفي.
المطلب الأول: في إمكان الشرط المتأخر للحكم الوضعي.
وذلك كشرطية الإجازة من المالك لصحة العقد الفضولي.
والصحيح إمكان الشرط المتأخر، وقد استند ذلك في كلماتهم إلى ثلاثة وجوهٍ: الأول ما هو المختار وفاقا لسيدنا الخوئي قدس سره، الثاني ما عن المحقق الإصفهاني قدس سره، الثالث ما عن المحقق العراقي قدس سره.
الوجه الأول: ما هو المختار لبيان إمكان الشرط المتأخر، وبيانه تارة بوجه إجمالي إشارة إلى النكتة فيه، وأخرى بوجه تفصيلي لدفع الإيردات التي أوردت على إمكان الشرط المتأخر.
البيان الإجمالي: وهو مشتمل على ثلاثة عناصر
العنصر الأول: لا ريب أن هناك فرقا بين الجعل والمجعول، فالجعل والاعتبار هو عبارةٌ عن عملية اختيارية ذهنية يقوم بها المقنن، وأما المجعول أو المعتبر فهو ارتكاز عرفي وهميّ يترتب على الجعل بنحو القضية الكلية المعبر عنها بالقانون أو وعاء الاعتبار كما يرى له نحو من الفعلية والتحقق عند تحقق موضوعه، مثلا: إذا قال المشرع:
(من حاز ملك) يرى عند العرف أنه تحقق بهذا الجعل قضية حقيقية كلية مرتسمة في وعاء الاعتبار المعبر عنه بلوح القانون، مع أن عملية الجعل قد تصرمت وانتهت ولكن المجعول الكلي بنظر العرف له بقاء في لوح التقنين ما لم ينسخ، كما أنه إذا أوصى زيد بأن داره تكون لزوجته بعد وفاته، فلا ريب لدى كل أحد أن الوصية هنا قد تضمنت جعلا ومجعولا، فالجعل عبارة عن إنشاء الوصية، وهي عملية اختيارية إنشائية، والمجعول - وهو ثبوت الملك لزوجته للدار - لا يتحقق إلا بعد الموت، إذ لو تحقق الملك قبل الموت لكان خلف الجعل، مما يعني هنا أن هنا جعلا ومجعولا، وأن المجعول منفك عن الجعل، حيث إن المرتكز العرفي يرى أن بتحقق الموت صار للملك فعلية وتحقق، مع أنه لا وجود حقيقي للملك، بل لا وجود بحسب الحقيقة والواقع إلا للجعل وهو الإنشاء الذي قام به الموصي، فليس وراء الجعل شيء حقيقي يسمى بالمجعول، وإنما هو محض ارتكاز عرفي ويعبر عن المجعول الذي يرتسم في وعاء القانون بمجرد جعله بالمجعول الكلي الذي يبقى ما لم ينسخ، ويعبر عن المجعول الذي يتحقق بتحقق موضوعه بحسب النظر العرفي بالمجعول الجزئي .
مثلا إذا قال المشرع: (إذا مات الرجل بانت زوجته ونجس بدنه وانتقلت أمواله إلى ورثته) فلا يوجد في الواقع أكثر من هذه صدور هذه القضية التي جعلها المشرع، ولكن بحسب المرتكز العرفي يرى أن لوح التشريع اشتمل على قانون جديد باق ما لم ينسخ وأنه يمكن أن يكون وصفا لأشخاص معينين عند تحقق الموضوع، إذ أنه بالموت تحدث البينونة للزوجة وتحدث النجاسة للميت، مع أنه ليس في الواقع الخارجي شيء يحدث عند حدوث الموضوع.
كما أن بناء العقلاء على ترتيب الأثر على هذا الارتكاز العرفي هو كبناء العقلاء على ترتيب الأثر على الأمور الواقعية تماما، أي: كأن العقلاء يرون لهذا واقعية فيرتبون الأثر عليه كما يرتبون الآثار على الأمور الواقعية، مثلا: حركة الأرض وحركة الشمس وإن كان لهما واقعية الا أن تقسيم السنة إلى شهور والشهر إلى أسابيع والأسابيع إلى أيام والأيام إلى ساعات، كل ذلك اصطلاح لا وجود له خارجا، ومع ذلك يرتب العقلاء الآثار على الأيام المخصوصة كيوم العطلة وبداية السنة ونهاية السنة كترتيبهم الآثار على الأمور الواقعية، فكما أن الأمور الواقعية - كطلوع الشمس وغروبها - مما يرتب العقلاء الآثار عليه فكذلك يرتبون الآثار على التقسيم في السنة مع أنه لا واقع لها وراء الاصطلاح والاعتبار، فكما أن بناءهم على ترتيب الآثار على تقسيم الوقت فكذلك الحال في تعاملهم مع المجعول، فإن المشرع بمجرد أن يصدر منه أن الزوج إذا مات بانت زوجته ونجس بدنه وانتقلت أمواله إلى ورثته فإن العقلاء يرون أن لهذه القضية التشريعية وجودا يرتب عليه الآثار، مع أن هذه القضية التشريعية إن كان المراد بها الجعل فهي عملية آنية تنعدم بمجرد انقضائها، مما يؤكد أنهم يرون أن لهذه القضية الكلية واقعية ووجودا يرتب عليه الآثار لو تحققت موضوعاتها خارجا، مما يكشف عن أن للمجعول وجودا عرفيا وهميا هو غير وجود الجعل الذي هو عملية آنية تصرمية.
العنصر الثاني: أنه لما كان المجعول - المعبر عنه بالمعتبر الذي هو غير الجعل والاعتبار - له نصيب من الوجود وإن كان وجودا وهميا عرفيا كان المشروط بالشرط بالمتقدم أو المتأخر أو المقارن هو هذا المجعول، وإلا فالجعل عملية تنجيزية ليست مشروطة بشرط لأنها تصدر غير معلقة على شيء، كسائر الأفعال التكوينية التي لا يعقل فيها صدورها معلقة بل هي إما موجودة وإما معدومة، وعملية الجعل عملية تكوينية منجزة ليست معلقة ولا مشروطة بشيء، فمرجع الشرط ومرجع التعليق ليس إلى الجعل نفسه وإنما هو للمجعول، أي أن تلك القضية الكلية التي يرى بنظر العرف لها وجود ببركة عملية الجعل هي التي قد تكون منجزة تارة ومعلقة أخرى لا عملية الجعل.
العنصر الثالث: إذا نظرنا لتلك القضية التشريعية ذات الوجود العرفي الوهمي أمكن أن يكون شرطها متقدما أو متأخرا، لأنها ما لم تكن من الأمور التكوينية فليست علاقة الشروط بها علاقة التأثير والتأثر، لأن علاقة التأثير والتأثر إنما هي في صقع الوجود الخارجي، وما ليس له وجود خارجي خارج موضوعا عن علاقة التأثير والتأثر، فعلاقة الشرط بالمشروط ليست علاقة تأثير وتأثر، بل مجرد ربط، إذ المجعول ليس من الوجودات الخارجية كي يقبل التأثير والتأثر، بل هو أمر ارتكازي وهمي، فلأجل ذلك يخرج عن نطاق التأثير والتأثر.
وبناء على ذلك فلا مانع من أن يناط أو يربط هذا المجعول الاعتباري الذي هو وهم عرفي بأمر متقدم عليه أو بأمر متأخر عنه، ولا معنى لأن يقال: إنه من باب تأثير المعدوم في الموجود ، فإن بطلان ذلك إنما هو بالنظر للأمور الخارجية لا بالنظر إلى ما كان أمرا وهميا عرفيا، فلأجل ذلك يمكن أن يقال بالنسبة إلى بيع الصرف والسلم أنه لا تتم الملكية بالعقد بل لا بد من التقابض، فإذا حصل التقابض فلا يكون منشأ للملكية إلا بشرط متقدم وهو حصول العقد قبله، كما أن العقد الفضولي لا يكون منشأ لحصول الملكية إلا بشرط متأخر وهو وقوع الإجازة في ظرفها، والسر في ذلك أن المنوط بشرط متقدم أو بشرط متأخر - وهو الملكية - ليس من الوجودات الخارجية في شيء، لأنه ليس هو عملية الجعل والاعتبار، وإنما هو ارتسامٌ وخطٌ بنظر العرف في وعاء القانون، وهذا الخط والارتسام هو الذي يرتب العقلاء الأثر عليه كترتيبهم الأثر على الأمور الواقعية تماما.
وبناء على ذلك فلا مانع عقلا من أن يكون هذا الخط الوهمي المعبر عنه بالملكية منوطا في فعليته إما بشرط متقدم أو بشرط متأخر، إذ ليس هناك تأثير وتأثر كي يقال باستحالته.
المطلب الثاني: في الشرط المتأخر للحكم التكليفي.
إن قلنا بأن الحكم التكليفي من سنخ الاعتبار كما هو المعروف بين الأصوليين فالكلام هو الكلام، فالنكتة المذكورة لإمكان الشرط المتأخر في الحكم الوضعي - وهي انفكاك المجعول عن الجعل - تأتي بعينها في الحكم التكليفي
وإن قلنا إن الحكم التكليفي من قبيل الإرادة كما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره، بمعنى أن الحكم التكليفي هو الإرادة المبرزة، فمن الواضح أن الإرادة ليست من الاعتباريات بل هي وجود نفساني تكويني فعليته بنفس وجوده لا بشيء آخر، فلذلك لو كان الحكم التكليفي - كوجوب الحج مثلا - هو عبارة عن الإرادة المنقدحة في نفس المولى فإن الحكم يتحقق بنفس الإرادة، أي أن الحكم يكون فعليا بمجرد الإرادة، وبالتالي كيف تناط هذه الإرادة التي هي أمر نفساني تكويني بأمر خارجي متأخر؟ كما لو فرض أن وجوب الصوم من حين رؤية الهلال، لكنه مشروط بشرط متأخر وهو بقاء الإنسان حيا غير مريض ولا مسافر إلى طلوع الفجر، فكيف يتصور اشتراط الوجوب بهذا الشرط المتأخر إذا كان الوجوب عبارة عن الإرادة وهي أمر تكويني والأمر التكويني لا يوجد إلا منجزا ولا يعقل فيه التعليق؟