46/03/06
مبحث الأوامر
الموضوع: مبحث الأوامر
التقسيم الثالث: تنقسم المقدمة الخارجية للواجب إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة والمقدمة العلمية.
فمقدمة الوجود ما يتوقف وجود المأمور به عليها عقلا، فمثلا: وجود الحج متوقف على السفر إلى مكة عقلا، فلذلك عبر عنها بمقدمة الوجود، أوبالمقدمة العقلية باعتبار أن دخلها في وجود المأمور به عقليّ لا شرعيّ.
وأما مقدمة الصحة فهي المقدمة التي تقيد بها المأمور به شرعا، كالطهارة بالنسبة للصلاة، فإن الطهارة تتصف بالمقدمية لأن الشارع قيد المأمور به بها، وإلا فالعقل لا يدرك المقدمية دون بيان الشارع، ولذلك يعبر عنها بالمقدمة الشرعية.
وبين مقدمة الوجود ومقدمة الصحة عموم من وجه، إذ قد تكون المقدمة دخيلةً في الوجود ولا دخل لها في الصحة، وقد تكون دخيلة في الصحة ولا يتوقف عليها الوجود، فمثلا: السجود المأمور به في الصلاة ما كان عن هوي، إذ لا يمكن عقلا للمكلف أن يسجد إلا عن الهوي، فتوقف السجود المأمور به بالأمر الضمني على الهوي توقف عقلي لا لأجل دخالة الهوي في صحة السجود، بحيث لو أمكن عقلا أن ينتقل المكلف من الركوع إلى السجود من دون هوي لكان سجوده صحيحا شرعا، إلا أن هذا التوقف عقلي.
وقد لا تكون مقدمة الصحة مقدمةً للوجود كالطهارة حيث لا يتوقف عليها وجود الصلاة بناء على الوضع للأعم من الصحيح والفاسد، ولكن يتوقف عليها صحتها، وقد يجتمعان كما في رفع الرأس من السجدة الأولى أو إزاحته عن موضع السجود فإنه دخيل عقلا وشرعا في تحقق السجدة الثانية وصحتها.
وقد يقال: إن مرجع مقدمة الصحة الى مقدمة وجود فإنه إذا نظرنا للعلاقة بين الصلاة والطهارة فالطهارة مقدمة صحة، وأما إذا نظرنا إلى الصلاة بما هي مأمور به فالمأمور به من الصلاة لا يمكن أن يتحقق عقلا إلا بسائر قيوده التي هي دخيلة فيه، فصارت مقدمة الصحة مقدمة الوجود بهذا اللحاظ، وكذلك مقدمة الوجود – كالسفر إلى مكة – يتوقف عليها الوجود الصحيح، فكما أن أصل الحج مما يتوقف على السفر فالحج الصحيح أيضا مما يتوقف على السفر، فتكون مقدمة صحة.
وأما المقدمة العلمية فهي عبارة عن ما يتوقف عليه إحراز الامتثال للمأمور به سواء كان من قبيل التعلم أو من قبيل الفعل الخارجي ، فمثلا من لم يغسل طرفي أذنيه قي الوضوء عند غسل الوجه لم يحرز امتثال الأمر بالوضوء، ومن لم يتعلم أحكام الصلاة والصوم لا يتمكن من إحراز الامتثال للمأمور به، وقد تعرض سيدنا الخوئي قدس سره إلى المقدمة العلمية في باب الاجتهاد والتقليد[1]
وحاصله: أن المقدمة العلمية لها عدة صور وذلك أن المكلف الجاهل بالأحكام تارةً يكون متمكنا من إحراز الامتثال بلا تعلمٍ، كما لو كان متمكنا من الاحتياط، وتارة لا يكون متمكنا من إحراز الامتثال إلا بالتعلم. والثاني إما أن يلتفت لذلك بعد دخول الوقت وتحقق الشرط كما لو دخل وقت الصلاة وكان واجدا لأحد الطهورين ثم التفت إلى أنه لا يمكنه أن يحرز امتثال الأمر بالصلاة إلا بالتعلم، وتارةً يلتفت لذلك قبل دخول الوقت، ومن التفت لعدم قدرته على إحراز الامتثال إلا بالتعلم بعد دخول الوقت تارةً يمكنه التعلم أثناء الوقت وتارة لا يمكنه التعلم أصلا، وأما من التفت إلى عدم قدرته على إنجاز الامتثال إلا بالتعلم قبل دخول الوقت فتارةً يكون التعلم دخيلا في الإحراز وتارة يكون التعلم دخيلا في أصل الامتثال بحيث لو لم يتعلم لا يتحقق المأمور به خارجا.
وجميع الصور تنقسم إلى فرض إحراز عدم القدرة على إنجاز الإمتثال إلا بالتعلم وفرض الشك في القدرة، والفرض الأول يتصور على نحوين:
الأول: فرض العلم بالابتلاء بما يجهل حدوده من التكاليف الشرعية.
الثاني: فرض الشك في الابتلاء .
أي: تارة يعلم أنه لو لم يتعلم لم يمكنه إحراز الامتثال بصلاة الآيات مثلا ولكنه لا يعلم أنه سيبتلى بها ، وتارة يعلم الإبتلاء بها.
والمتحصل عدة صور:
الصورة الأولى: أن المكلف متمكن من إحراز الامتثال إجمالا بلا حاجة للتعلم، كما لو كان قادرا على الاحتياط، فمثلا: إذا شك المكلف في تكليفه بالقصر أو التمام ، أوشك في أحكام الصيام فلا يعلم ماهي المفطرات وحدودها، ولكنه قادر على الجمع بين الصلاتين أو قادر على اجتناب كل ما يحتمل كونه مفطرا بلا حاجة للتعلم، فهنا قد أفيد أن جواز العمل بالاحتياط متوقف على الاجتهاد او التقليد لوجود الاختلاف في بعض الأمور كاعتبار قصد الوجه والتمييز ، وصحة الإمتثال الإجمالي مع التمكن الامتثال التفصيلي ، وجواز الإحتياط المستلزم لتكرار في العبادات ونحو ذلك ، والصحيح مشروعية الإحتياط مطلقا و عدم وجوب التعلم - كما حقق في محله في بحث القطع - لكونه قادرا على إحراز الامتثال بلا حاجة إلى التعلم من دون فرقٍ في ذلك بين كون التعلم دخيلا في الإحراز أو دخيلا في أصل الامتثال وسواء كانت الشبهة حكمية كما مضى من المثال او موضوعية كالشك في القبلة .
الصورة الثانية: أن لا يكون المكلف متمكنا من الاحتياط، وتوقف إحراز الامتثال على التعلم، ولكنه لم يلتفت لذلك إلا بعد دخول الوقت، وهنا فرضان:
الفرض الأول: أن يتمكن من التعلم كما إذا تردد في أن الشك في الأوليين مبطل أم لا؟ وتمكن من التعلم، فيتعين هنا التعلم عقلا من باب الاشتغال، فإن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، وقد اشتغلت ذمته يقينا بالواجب لدخول الوقت، فلا بد من أن يتعلم لإحراز الامتثال.
الفرض الثاني: أن لا يتمكن من التعلم، ولا من الاحتياط التام أيضا، فإذا كان متمكنا من الاحتياط النسبي - أي الإتيان بكيفية يحرز عدم اشتمالها على المفسد للصلاة - تعين عليه ذلك، وإن لم يكن متمكنا كما لو دار الأمر بين المحذورين كمن شك في الإتيان بالسجدة الثانية قبل الركوع، بحيث يدور الأمر في حقه بين المحذورين، لاحتمال النقيصة إن ترك، واحتمال الزيادة في التدارك بالسجود مع عدم إمكان تنقيح الوظيفة باستصحاب عدم الزيادة، أو شك يوم الجمعة بعد دخول الزوال بين وجوب الجمعة تعيينا أو حرمتها مع وجوب الظهر تعيينا، ففي مثل هذه الموارد يكون المكلف مخيرا عقلا.
الصورة الثالثة: أن يلتفت المكلف لذلك قبل دخول الوقت وكان التعلم دخيلا في إحراز الامتثال، كما لو التفت قبل دخول الوقت إلى أنه لا يعلم حدود القراءة المأمور بها في الصلاة، فحينئذ يجب عليه التعلم لا من باب الاشتغال - لعدم اشتغال ذمته قبل الوقت - بل من باب دفع الضرر المحتمل حيث يحتمل أن في ترك التعلم عقابا باعتبار معرضيته لتفويت الامتثال المأمور به في ظرفه، فباعتبار احتمال الضرر يجب عليه التعلم عقلا من باب دفع الضرر المحتمل.