46/05/20
مما يشترط في صحة الإجارة// كتاب الإجارة
الموضوع: كتاب الإجارة // مما يشترط في صحة الإجارة
التقريب الثاني لكلام سيدنا الخوئي (قدس سره): وهو يبتني على التفريق بين الترتب في الأحكام التأسيسية والترتب في الأحكام الإمضائية.
وبيان ذلك بذكر عدة مطالب:
المطلب الأول: أنّ هناك فرقاً بين الحكم التأسيسي والحكم الإمضائي، فالحكم التأسيسي هو عبارة عن المجعول ابتداءً من دون سبق تعهد أو التزام من قبل المكلف، سواءً كان هذا الحكم تكليفياً - كوجوب الصلاة أو وجوب إنقاذ الغريق أو وجوب أداء الدين - أو كان الحكم وضعياً - كحكم الشارع بسببية الحيازة للتملك أو سببية موت المورّث مع حياة الوارث للإرث أو ثبوت حق الاختصاص بالسبق مثلاً أو ضمان المتلفات ونحوها -، فإنّ هذه الأحكام أحكام تأسيسية وإنْ كان بعضها إنفاذاً لمرتكزات عقلائية نظير بناء العقلاء على ضمان ما أُتلف، فإنّ إنفاذ الشارع لما بنى عليه العقلاء من ضمان المتلفات حكم تأسيسي، باعتبار أنّ مرجعه لباً إلى صدور أمرٍ من الشارع حفظاً للنظام.
والحكم الإمضائي هو ما كان متفرعاً على التزام أو تعهد من قبل المكلف، فالحكم المسبوق بالتزام أو تعهد من قبل المكلف يسمى حكماً إمضائياً، سواءً كان من الأحكام الوضعية - كالصحة في الإيقاعات والملكية في المعاوضات والزوجية في عقد النكاح - أو كان من الأحكام التكليفية - كوجوب الوفاء بالنذر والعهد - فإنّه حكم تكليفي لكنه حكم إمضائي، باعتبار أنّه مسبوق بالتزام أو تعهد من قبل المكلف من خلال نذره أو يمينه أو عهده أو نحو ذلك.
فالفارق بين الحكم التأسيسي والحكم الإمضائي: أنّ الحكم التأسيسي ما لم يكن متفرعاً على التزام من قبل المكلف، والحكم الإمضائي ما كان متفرعاً على تعهد من قبل المكلف.
المطلب الثاني: أنّ الترتب - كما أفاد السيد الأستاذ (مدّ ظله الشريف) في بعض أبحاثه الأصولية - إما آمري أو مأموري.
فالترتب الآمري هو عبارة عن علاج الشارع ابتداءً للتنافي بين إطلاقات الأدلة في مقام الفعلية، فإنّ الشارع إذا تصدى ابتداءً لعلاج التنافي بين إطلاقات الأدلة في مرحلة الفعلية كان ذلك ترتباً آمرياً، نظير علاج التنافي بين حرمة مال الغير وإنقاذ النفس المحترمة، أو التنافي بين لزوم النهي عن المنكر وحرمة إيذاء الأبوين، فهذا علاج ابتدائي صدر من الشارع لحل معضلة التنافي بين إطلاقي الدليلين بحيث لا يجتمعان في مرحلة الفعلية من الأساس.
والترتب المأموري هو عبارة عن علاج عقلي أو عقلائي في طول حصول التزاحم وقصور القدرة عن الجمع بين الامتثالين، فإذا فرض أنّ المكلف قصرت قدرته عن الجمع بين امتثالين فالعلاج للإطلاقين في هذا الفرض بنكتة عقلية أو عقلائية يعبر عنه بالترتب المأموري، مثلاً إذا وقع التزاحم في ضيق الوقت بين إنقاذ الغريق وبين الصلاة نتيجة قصور قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين فإنّ تقيّد الإطلاق الأحوالي لدليل المهم بفرض الإشتغال بامتثال الأمر بالأهم أو امتثال الأمر بالمساوي هو ما يعبر عنه بالترتب المأموري.
بيان ذلك: إذا وقع التزاحم بين إنقاذ الغريق أو الصلاة في ضيق الوقت فإنّ دليل وجوب إنقاذ الغريق باقٍ على إطلاقه من دون قصور أصلاً لأنّه الأهم، بينما دليل المهم - وهو الأمر بالصلاة - لا إطلاق له لحال القيام بالأهم، مما يعني ضيق الإطلاق الأحوالي لدليل المهم عن الشمول لفرض الإتيان بالأهم ولا عكس، لذلك لو أنّ المكلف عصى الأمر بالأهم فقد اندرج تحت إطلاق دليل المهم وهذا ما يعبر عنه بالترتب المأموري.
وكذلك الحال بين المتساويين سواءً قلنا بأنّ الترتب تقييد في مرحلة الفعلية - بمعنى أن لا فعلية للمهم في فرض ارتكاب الأهم - أو قلنا بأنّ الترتب تقييد في مرحلة الفاعلية كما هو المسلك المختار، بمعنى أنّ كلا الدليلين فعلي غاية ما في الباب أنّ آثار المهم لا تترتب على المكلف حال اشتغاله بالأهم.
المطلب الثالث: في عرض كلام سيدنا الخوئي (قدس سره) من أنّ الترتب إنّما يتصور في الأحكام التأسيسية، ولا ترتب في الأحكام الإمضائية.
وبيان ذلك بأحد نحوين:
النحو الأول: ما أفاده (قدس سره) في[1] من أنّه لا مانع ثبوتاً وإثباتاً من الترتب في الأحكام التأسيسية كما في فرض التزاحم نتيجة قصور القدرة عن الجمع بين الامتثالين بين وجوب الصلاة في ضيق الوقت وإنقاذ النفس المحترمة، حيث يجب على المكلف إنقاذ النفس المحترمة فإنْ لم يفعل - عصياناً أو غفلةً أو جهلاً - فيجب عليه أداء الصلاة.
وأما في الأحكام الإمضائية كما في المقام وهو استئجار الحائض لكنس المسجد مع استلزام الكنس للبث المحرم في حقها، أو استئجار الجنب لكنس المسجد مع استلزام الكنس للبث المحرم في حقه، فإنّ الترتب يعني: (يحرم على الحائض اللبس في اللبث في المسجد، فإن لم تمتثل الحرمة عصياناً أو جهلاً فيجب عليها الوفاء بعقد الإجارة)، حكم إمضائي لأنّه مسبوق بالتزام، حيث إنّ الحائض التزمت على نفسها بكنس المسجد نتيجة لإبرامها عقد الإجارة بينها وبين المستأجر.
إلا أنّ الدليل قاصر في مقام الإثبات عن الشمول لمورد الحكم الإمضائي من دون فرق بين الأدلة سواء كان دليل الإمضاء هو ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أو ﴿تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ﴾ أو ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾، فإنّ اختلاف الأدلة لا يوجب اختلاف النكتة في المقام الموجبة لقصور الدليل إثباتاً عن الشمول للحكم الإمضائي على نحو الترتب، وذلك لأنّ المفروض أنّ الحائض ملكت عملها - وهو كنس المسجد - للمستأجر على نحو اللابشرط، حيث لم تقيده بفرض عصيانها، فدليل الإمضاء كـ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ إما أن يمضي متعلق العقد على إطلاقه أو يمضيه معلقاً على فرض العصيان للحرمة، فإنْ كان الإمضاء مطلقاً لزم الترخيص في المعصية، باعتبار أنّ وجوب الوفاء بالعقد يقتضي الاتيان بالكنس، والإتيان بالكنس ملازم للعمل المحرم، فوجوب الوفاء بالعقد مستلزم للترخيص في المعصية لا محالة، وهو مما لا يعقل صدوره من الشارع. وإما أن يمضيه معلقاً على عصيان الحائض لحرمة اللبث في المسجد، وهذا خلف الإمضاء، لأنّ مقتضى الإمضاء هو إنفاذ الالتزام والتعهد على ما وقع عليه، وأما تنفيذ التعهد مشروطاً بعصيان المرأة لحرمة اللبث في المسجد فهو خلف كون الحكم إمضائياً.
النحو الثاني: أنْ يقال: إنّ الصحة الترتبية أمر مستهجن لدى المرتكزات العقلائية.
والسر في استهجان الصحة الترتبية: أنّ لازم ذلك تعليق نفوذ العقد على اختيار المكلف، نظير أن ينذر المكلف زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة من كل سنة ثم يستطيع للحج، فيقع التنافي بين إطلاق دليل وجوب الوفاء بالنذر وبين دليل وجوب الحج عند الاستطاعة، فيقال حينئذ: إنّ دليل وجوب الوفاء بالنذر إما أن يشمل الزيارة على نحو اللابشرط ولازم ذلك الترخيص في المعصية لوجوب الحج بلحاظ فعليته لفعلية الاستطاعة، أو أن النذر – نفسه - لم ينعقد إلا في هذه الحصة الخاصة وهي فرض عصيان المكلف لوجوب الحج، وهذا يعني أنّ الصحة الترتبية معلقة على اختيار المكلف، فإن اختار عصيان الأمر بالحج فالنذر صحيح، وإلا فهو باطل، فتعليق انعقاد النذر في حد ذاته على اختيار المكلف مستهجن لدى المرتكز العقلائي، بأن يكون نفوذ التزامه على نفسه معلقاً على اختياره وتراجعه، وبالتالي فدعوى الحكم الإمضائي الترتبي أمرٌ غير عقلائي.
ولكن المناقشة في كلامه (قدس سره) بإحدى ملاحظتين:
الملاحظة الأُولى: عدم الاستهجان عرفاً بين كون الدليل إمضائياً وقصور الإمضاء عن الشمول لبعض فروض العقد أو النذر، فإنّ المنافاة بين الإمضاء والممضى - وهو الالتزام الذي أبرمه المكلف على نفسه - إنّما تتم إذا كان الإمضاء إلغاءً لالتزامه، فإنّ هذا خلف كونه إمضاءً وهو إلغاء لما التزم وتعهد به على نفسه بعقد أو بإيقاع، وأما قصور دليل الإمضاء عن الشمول لبعض الفروض فليس منافياً لحيثية الإمضاء بالنظر العرفي، فيقال بأن المكلف قد نذر زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة على كل حال، أي سواءً امتثل وجوب الحج أو عصى وجوب الحج فالنذر مطلق، لكن دليل وجوب الوفاء بالنذر قاصرعن الشمول لفرض امتثال الأمر بالحج، فإنّه إذا امتثل الأمر بالحج فلا موضوع لانعقاد نذر زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة في سنة الحج.
فدليل الإمضاء قاصر عن الشمول لهذا الفرض وهو فرض الاشتغال بالحج، وأما في فرض عدم الاشتغال بالحج لعصيان أو غفلة فإنّ الدليل يشمله.
فلا منافاة بين الإمضاء وبين قصور دليل الإمضاء عن الشمول لبعض الفروض، إذ لم يلزم من الإمضاء هنا إلغاء ما التزم به المكلف على نفسه كي يكون ذلك خلف كونه إمضاءً، فلا منافاة بين حيثية الإمضاء وعدم امتداد الدليل لبعض الفروض لمحذور عقلي أو عقلائي، ولا يرد على ذلك أن لازمه تعليق النفوذ والصحة على اختيار المكلف، بل المعلق عليه عدم اشتغاله بالواجب الآخر، لا أنّ المعلق عليه هو اختياره، إذ قد يحصل اشتغاله بالواجب الآخر عن غفلة منه أو جهل بالحكم أو الموضوع، فلم تعلّق الصحة أو النفوذ على اختياره كي يكون ذلك مستهجناً، وإلا لورد الإشكال في الترتب في الأحكام التأسيسية الذي يسلم به سيدنا الخوئي (قدس سره)، فإنّه لو وقع التزاحم بين إنقاذ الغريق أو وجوب الصلاة في فرض ضيق الوقت فإنّ الترتب - هنا - مرجعه لاختيار المكلف، يعني إن اختار المكلف عصيان الأمر بإنقاذ الغريق فإنّ وجوب الصلاة فعلي في حقه، مع أنّ السيد لا يرى منافاة ولا استهجاناً بين وجوب الصلاة وتعليق الوجوب على اختيار المكلف وعصيانه للأمر بالأهم؛ لأنّ المعلق عليه في الواقع ليس العصيان كي يكون مستهجناً، بل المعلق عليه في الواقع عدم اشتغاله بالأهم ولو لغفلة منه، فلا منافاة بين كون الدليل إمضائياً وبين قصور شموله لفرض اللابشرط.