46/03/18
شرطية القدرة على التسليم// كتاب الإجارة
الموضوع: كتاب الإجارة // شرطية القدرة على التسليم
التنبيه الرابع: وقع الكلام في أنّ القدرة على التسليم شرطٌ أم أنّ العجز عن التسليم مانع؟
حيث إنّ المستفاد من النبوي: (نهى النبي عن الغرر)[1] أنّ الغرر مانعٌ، وبما أنّ مصداق الغرر هو العجز عن التسليم، فيصح عرفاً أنْ يقال إنّ العجز مانعٌ؛ نظراً إلى أنّ العجز محققٌ للغرر.
كما أنّ المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): (لا تبع ما ليس عندك) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد الإرشاد إلى الشرطية، وهي شرطية القدرة على التسليم.
فباعتبار أنّ المستفاد من كلّ من أحد الدليلين بحسب الظهور الأولي غير المستفاد من الآخر وقع البحث عندهم في أنّ القدرة على التسليم شرطٌ أم أنّ العجز عن التسليم مانعٌ.
وقد أفاد الشيخ الأعظم (قدس سره الشريف)[2] أمرين:
الأمر الأول: بأنّه لا معنى لكون العجز مانعاً.
والسر في ذلك: أنّ العجز أمرٌ عدمي، فلا يصلح أنْ يتصف بالمانعية.
حيث قد تقرر عندهم الفرق بين المقتضي والشرط والمانع: بأنّ المقتضي ما منه الوجود، بمعنى أنْ يلزم من وجوده إقتضاء الوجود كاقتضاء النار للإحراق، بينما الشرط ما يلزم من عدمه العدم وإنْ لم يلزم من وجوده الوجود، فمثلاً الشرط في احتراق الجسم بالنار اقتراب الجسم من النار، واقتراب الجسم من النار لا يلزم من وجوده وجود الإحتراق؛ إذ لعل هناك مانعاً، لكن يلزم من عدمه عدم الاحتراق، وأما المانع فهو ما يلزم من وجوده العدم، فلو فرض مثلاً أنّ الجسم كان رطباً فالرطوبة مانعٌ، ومعنى أنّ الرطوبة مانع أنّه يلزم من وجودها عدم الاحتراق، وحيث إنّ المانع هو ما يلزم من وجوده العدم.
فلا معنى لأنْ يتصف الأمر العدمي كالعجز بالمانعية.
الأمر الثاني: أنّه لا ثمرة في البين، سواء قلنا بأنّ الشرط هو القدرة أو قلنا بأنّ العجز مانع، فإنّه لا يترتب عليه ثمرة عملية.
والسر في ذلك: أنّه إما أنْ تُحرز الحالة السابقة للمتعاملين أو لا، فإنْ أُحرزت الحالة السابقة استصحبت، فلو أُحرز أنّ الحالة السابقة هي القدرة استصحبت القدرة وصحت المعاملة سواء كان القدرة شرطاً أم كان العجز مانعاً.
وإنْ كانت الحالة السابقة المحرزة هي العجز، استصحب العجز، سواء قيل بأنّ القدرة شرطٌ أو قيل بأنّ العجز مانعٌ.
وإنْ لم تحرز الحالة السابقة لم يمكن إثبات أيّ منهما؛ لإبهام الحالة السابقة.
فلا ثمرة في البين تترتب على البحث في أنّ القدرة على التسليم شرطٌ أم أنّ العجز مانعٌ، والنتيجة أنّ البحث لغوٌ.
وفي كلام الشيخ (طاب ثراه) دعويان:
الدعوة الأُولى: أنّ العجز أمرٌ عدمي، والأمر العدمي لا يتصف بالمانعية.
وقد أُجيب عنه كما في كلمات المحققين ومنهم النائيني والاصفهاني (قدس سرهما): بأنّ هناك فرقاً بين تقابل السلب والإيجاب وتقابل الملكة والعدم، فلو كان القدرة والعجز متقابلين تقابل السلب والإيجاب -أي تقابل النقيضين- بحيث يكون العجز عدماً محضاً، فكلامُ الشيخ متين فإنّ العدم المحض لا يتصف بالمانعية.
وأما إذا كان التقابل بين القدرة والعجز تقابل الملكة والعدم، كتقابل العدالة والفسق، وتقابل البصر والعمى فللعدم أي عدم الملكة -وليس العدم بمعنى النقيض- حظٌ من الوجود، ومعنى "له حظٌ من الوجود" هو الوجود الانتزاعي لا الخارجي، مثلاً الموجود القابل للإبصار كالإنسان والحيوان -لا مثل الحجر الذي ليس له قابلية الإبصار- إذا فقد البصر انتُنزع من فقدانه للبصر مع قابليته له عنوانٌ، وذلك العنوان يعبر عنه بالعمى، وهذا معنى أنّ للعدم -أي عدم الملكة- حظاً من الوجود، وهو الوجود الانتزاعي بملاحظة القابلية وفقد الملكة، وليس وجوداً حقيقياً.
فلذلك يصح أنْ يبحث في الشاهد -مثلاً- هل الإبصار شرطٌ في صحة الشهادة أم العمى مانعٌ من صحة الشهادة؟ وهل العدالة شرطٌ في صحة الائتمام بإمامة الجماعة أم عدم العدالة -وهو الفسق- مانعٌ من صحة الائتمام؟
فكما يتصور النزاع في الشهادة، والائتمام، كذلك يتصور النزاع في المقام بأنْ يقال هل القدرة على التسليم شرطٌ في صحة المعاوضة أم أنّ العجز عن التسليم -الذي هو عدم ملكة- مانعٌ من صحة المعاوضة؟ فالبحث معقولٌ، لا أنّه غير معقول كما يظهر من عبارة الشيخ الاعظم (قدس سره).
الدعوى الثانية: أنّه لا ثمرة عملية تترتب على البحث في أنّ القدرة على التسليم شرطٌ أم أنّ العجز عن التسليم مانعٌ.
والجواب عن ذلك: أنّ هنا مقامين:
المقام الأول: أنّ الشرط أو المانع هو الوجود الإحرازي، بمعنى أنّ مَن يدعي شرطية القدرة لا يدعي أنّ الشرط هو القدرة الواقعية؛ بل يدعي أنّ الشرط هو القدرة المحرزة، ومن يدعي أنّ العجز مانعٌ إنّما يدعي أنّ إحراز العجز مانعٌ لا العجز الواقعي.
فبناءاً على هذا المدعى تتضح الثمرة بينهما؛ لأنّه بمجرد شك المُستأجِر في أنّ المُؤجِر قادر على التسليم أم لا يتضح الحكم؟ فإنّ قلتم أنّ الشرط إحراز القدرة فهو لم يحرز القدرة، وهذا معنى أنّ المعاملة باطلة؛ لأنّ الشرط إحراز القدرة فشكه في أن المُؤجِر قادر على التسليم يعني عدم الشرط لعدم إحرازه، وإنْ قلتم بأنّ إحراز العجز فهو لم يحرز العجز لشكه، وهذا كافٍ في صحة المعاملة بلا حاجة للتشبث بالاستصحاب، أي أنّ نفس شك المكلف في أنّ المُؤجِر عاجزٌ أم ليس بعاجز يعني أنّه لم يحرز العجز، ومقتضى عدم إحرازه العجز صحة المعاملة.
فظهر الفرق بين القول بشرطية إحراز القدرة، والقول بمانعية إحراز العجز.
المقام الثاني: أنْ نقول بأنّ ظاهر الأدلة أنّ الشرط هو القدرة الواقعية والمانع هو العجز الواقعي، فإذا حصل الشك من المكلف في أنّ هناك قدرة أم لا، فتارةً يكون الشك على نحو الشبهة المفهومية، وأُخرى يكون الشك على نحو الشبهة المصداقية.
فهنا صورتان:
الصورة الأُولى: أنْ يقع الشك في القدرة على نحو الشبهة المفهومية:
مثلاً: بناءاً على أنّ القدرة شرطٌ فهل القدرة التي هي شرطٌ هي القدرة العقلية أم القدرة التي هي شرطٌ هي القدرة العرفية -بمعنى أنْ لا يكون التسليم عُسراً وحرجاً-؟
فإذا دار الأمر بين القدرة العقلية والقدرة العرفية فهذه شبهةٌ مفهومية في ما هو الشرط، وكذلك إذا قيل بأنّ العجز مانعٌ فهل المانع هو العجز العقلي أم العجز العرفي؟
فإذا دار الأمر بينهما فلا ثمرة في البين؛ لأنّ مرجع الشك في المقام إلى الشك في التخصيص الزائد، أي أنّ مقتضى عموم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[3] ، و ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[4] صحة المعاملة، وقد خرجنا عن هذا العموم في فرض امتناع التسليم عقلاً، ونشك في الخروج عن هذا العموم في فرض تعذر التسليم عرفاً؛ لأنّ الأمرين من الأقل والأكثر أو المانع مرددٌ بين الأقل والأكثر، فحينئذٍ نقول أنّ القدر المتيقن من المخصص للعموم خروج فرض العجز العقلي عن التسليم، وأما خروج العجز العرفي عن التسليم فهو مشكوكٌ فمقتضى العموم صحة المعاملة.
فلا ثمرة تظهر بين القول بأنّ القدرة شرطٌ أو أنّ العجز مانعٌ.
الصورة الثانية: أنْ تكون الشبهة موضوعية، بأنْ لا يعلم بوجود القدرة فالقدرة هي القدرة العقلية ولكن لا ندري هل المُؤجِر قادرٌ عقلاً على التسليم أم لا، أو نعلم أنّ المانع هو العجز العقلي ولكن لا ندري أنّ المؤجر عاجزٌ واقعاً عن التسليم أم لا.
فالشك حينئذٍ على نحو الشبهة الموضوعية.
فهنا إذا كان الدليل في المقام هو قوله (صلى الله عليه وآله): (نهى النبي عن الغرر) وقلنا إنّ الغرر هو عبارة عن احتمال الخطر -لا نفس الخطر- فأيضاً لا ثمرة في البين؛ لأنّ مجرد الشك في أنّ المُؤجِر قادرٌ على التسليم عقلاً أم لا؟ يعني أنّ الإقدام على المعاملة إقدامٌ مع احتمال المخاطرة، ومقتضى كون المعاملة محتملة للمخاطرة اتصاف المعاملة بكونها معاملة غررية، فيشملها (نهى النبي عن الغرر).
فإنْ قلتَ: يمكن رفع المشكلة باستصحاب القدرة، حيث كان المُؤجِر قادراً على التسليم قبل ذلك، فيجري استصحاب قدرته.
قلتُ: هناك فرق بين الأمارة والأصل فلو قامت الأمارة على القدرة كان لها حيثية الإحراز للواقع وزال احتمال المخاطرة حكما بمقتضى حجية الأمارة، وأما استصحاب القدرة فإنّه لا ينفي احتمال المخاطرة إذ ليس له حيثية الإحراز للواقع فلا معنى لاستصحاب القدرة مع كون الأثر مترتباً على احتمال المخاطرة .
وأما إذا قلنا بأنّ الدليل على الشرط في المقام هو قول النبي (صلى الله عليه وآله): (لا تبع ما ليس عندك)، الدال على أنّ القدرة الواقعية شرطٌ.
أو قلنا بأنّ الدليل على الشرط في المعاملة في المقام هو (نهى النبي عن الغرر)، وكان المراد بالغرر الخطر الواقعي لا مجرد احتمال الخطر.
فهنا ذكر سيدنا الخوئي (قدس سره) في الموسوعة[5] : (وإن كانت الشبهة موضوعية بأن يشكّ في وجود القدرة وعدمها، فحينئذٍ إن قلنا إنّ الدليل على اعتبار القدرة هو نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر فظاهره مانعية احتمال الخطر -بناء على كون المراد من الغرر احتمال الخطر- لا شرطية القدرة ولا مانعية العجز. فحينئذٍ أيضاً لا فرق بينهما في بطلان العقد وذلك لوجود هذا الاحتمال وجداناً وخروج المورد من موارد الشبهة رأساً. وتوهّم أنّه لو كانت القدرة مسبوقة بالحالة السابقة نستصحب ونثبت القدرة فعلاً فيحكم بصحّة العقد في غاية السقوط، لأن الموجب لبطلان العقد وعدم صحّته هو احتمال الخطر) وهو موجود، (وليست القدرة موضوعاً للحكم بل الموضوع هو احتمال الخطر كما هو المستفاد من النبوي (صلى الله عليه وآله) وبديهي أنّ استصحاب القدرة لا يثبت عدم احتمال الخطر إلّا على القول بالأصل المثبت وهو كما ترى، نعم لو قامت البيّنة على القدرة فعلاً تثبت لوازمها تعبداً).
وإنْ لم تحرز الحالة السابقة كما في توارد الحالتين بأنْ كان في فترة قادراً على التسليم وكان في فترة عاجزاً عن التسليم وشك في المتقدم والمتأخر منهما بحيث لا يمكن استصحاب القدرة ولا استصحاب العجز لتعارضهما باعتبار أنّ لكل منهما حالة سابقة، ولكن شك في المتقدم والمتأخر.
وهنا ذكر سيدنا الخوئي (قدس سره الشريف) أيضاً: (وأمّا إذا كان دليل الاعتبار قوله (صلى الله عليه وآله) (لا تبع مال ليس عندك) وفسرنا (ما ليس عندك) بعدم السلطنة والقدرة لا عدم الملك، فحينئذ إن كانت القدرة مسبوقة بالحالة السابقة نستصحب فنحكم بصحّة البيع، وكذا نستصحب عدم القدرة أو العجز ونحكم ببطلان العقد إذا كان عدم القدرة أو العجز مسبوقاً بالحالة السابقة بلا فرق بين شرطية القدرة أو مانعية العجز، وأمّا إذا كان كلّ منهما مسبوقاً بالحالة السابقة ولكنّه قد اشتبه المتقدّم والمتأخر فيتعارض الاستصحابان) أي استصحاب القدرة مع استصحاب العجز، ومقتضى تعارض الاستصحابين أنْ (يرجع إلى الأصل الآخر الموجود في المقام وهو عبارة عن أصالة الفساد في المعاملة وعدم انتقال الثمن من ملك مالكه إلى البائع أو أصالة عدم انتقال المثمن من ملك صاحبه إلى المشتري) حيث لا ندري أنّ هذه المعاملة واجدة للشرط واقعاً أم ليست واجدة، فالتمسك بدليل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[6] تمسكٌ بالدليل في الشبهة المصداقية، فإذا لم تشمل العمومات هذه المعاملة وصلت النوبة إلى الأصل الحكمي، والأصل الحكمي هو عبارة عن استصحاب عدم التأثير للمعاملة المعبر عنه بأصالة الفساد.