الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الفقه
45/08/22
بسم الله الرحمن الرحيم
تعریف العقد و أرکانه
الموضوع: تعریف العقد و أرکانه
الجواب الثاني: إن عدم شمول ﴿أوفوا بالعقود﴾[1] لا يمنع من شمول ﴿أحل الله البيع﴾[2] و﴿الناس مسلطون على أموالهم﴾[3] للمعاملة المشتملة على التعليق، والوجه في ذلك أن مفاد ﴿أوفوا بالعقود﴾ كون العقد هو الموضوع التام لوجوب الوفاء، ومانعية التعليق من حصول الملكية موجب لعدم شمول الآية له، بينما مفاد ﴿أحل الله البيع﴾ و﴿الناس مسلطون على أموالهم﴾ نفوذ إنشاء النقل بالبيع على نحو الاقتضاء، الذي لا يتنافى مع عدم ترتب الأثر بالفعل كما في بيع الصرف والسلم، حيث إن فيه اقتضاء للملكية، لكن ترتبها بالفعل منوط بالقبض، فكذلك البيع المشمل على التعليق.
ويلاحظ عليه - مضافاً لاختصاص ﴿أحل الله البيع﴾ بالبيع وعدم تمامية دليل السلطنة سنداً -: أن مفاده كمفاد ﴿أوفوا﴾ من حيث ظهوره في السببية الفعلية التامة من حين صدوره للملكية وجواز التصرفات، فالتفكيك بين الآيتين ليس تاماً.
الجواب الثالث: إن كثيراً من المعاملات النافذة تعليقية يتخلف الأثر فيها عن المعاملة كالوصية والتدبير والصرف والسلم، والدليل عليها نفس المطلقات العامة.
ويلاحظ عليه: أن من المحتمل استناد نفوذها للأدلة الخاصة فلا يقاس عليها.
الوجه الرابع - من وجوه اعتبار التنجيز في العقد -: ما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره[4] بقوله: (إن التعليق في العقود أمر غير معقول، وعندئذ لا يوجد عقد تعليقي في الخارج لكي يبحث عن صحته وفساده، فلا بد من إيجاده منجزاً).
وتقريبه يبتني على مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن العقد النافذ مشتمل على إنشاء واعتبار، فالإنشاء: هو الصادر من قبل البائع مثلاً، حيث إن البائع قد قام بإنشاء المبادلة بين المبيع والثمن، وذلك بقوله: (بعتك الكتاب بكذا إن جاء أبوك من السفر)، والاعتبار: هو عبارة عن الإقرار والإمضاء الصادر من المقنن، سواء كان المقنن عقلائياً أو شرعياً.
وكما أن الإنشاء والمنشأ متحدان وجوداً مختلفان لحاظاً فكذلك الاعتبار والمعتبر، بمعنى أنه كما أن إنشاء البائع للملكية لا يتصور فيه الانفكاك بين وجود المنشأ ووجود الإنشاء، كذلك اعتبار الشارع للملكية لا يتصور فيه الانفكاك بين المعتبر والاعتبار. والسر في ذلك أن العلاقة بين الإنشاء والمنشأ وبين الاعتبار والمعتبر علاقة الإيجاد بالوجود، فكما أنه لا يتصور التفكيك بين الوجود والإيجاد [كذلك] لا يتصور التفكيك بين المنشأ والإنشاء والمعتبر والاعتبار، فإنه كما أن إيجاد أي شيء مساوق لوجوده غاية ما في الباب أن الفعل إن لوحظ بالنسبة إلى فاعله عبّر عنه (إيجاد)، وإن لوحظ بالنسبة إلى قابله ومستقبله عبر عنه بـ(الوجود)، وإلا فالوجود والإيجاد أمر واحد لا يعقل التفكيك بينهما.
كذلك علاقة الإنشاء بالمنشأ، فإن المنشئ إذا أنشأ ملكية أو زوجية أو حقاً وجد المنشأ بالإنشاء، ولا يعقل التفكيك بينهما، وإنما إذا لوحظ العمل بالنسبة إلى المنشئ سمي (إنشاءً)، وإذا لوحظ بالنسبة إلى الملكية سمي (منشأً)، وإلا فالإنشاء والمنشأ كالإيجاد والوجود أمر واحد، وإنما يختلف التسمية باختلاف اللحاظ.
كذلك الاعتبار والمعتبر، فإن الشارع عندما يعتبر البيع - أي يمضيه - أو يعتبر الملكية - أي يقر بها - فإنه لا تفكيك بين الاعتبار والمعتبر، بل وجود الملكية وجوداً اعتبارياً بالاعتبار، وإذا تحقق الاعتبار تحقق الوجود الاعتباري للملكية، وحينئذ غاية ما في الباب إن لوحظ العمل بالنسبة إلى المشرع يقال له (اعتبار)، وإن لوحظ بالنسبة إلى الملكية يقال له (معتبر)، وإلا فالمعتبر متحقق بنفس الاعتبار لا بشيء آخر.
المقدمة الثانية: بما أنه لا تفكيك بين المنشأ والإنشاء، ولا بين المعتبر والاعتبار، فأين مصب التعليق? أي هل مصب التعليق في المنشأ أم مصب التعليق في المعتبر؟ أي أن البائع إذا قال: (بعتك الكتاب بكذا إن جاء أبوك من السفر) فما هو المعلق على مجيء أبيه من السفر? هل المعلق الملكية بوجودها الإنشائي أم المعلق الملكية بوجودها الاعتباري؟
فإن كان المعلق الملكية بوجودها الإنشائي فبما أن المنشأ لا ينفك عن الإنشاء فلازم التعليق في المنشأ التعليق في الإنشاء، أي إذا كانت الملكية المنشأة من قبل البائع معلقة فالإنشاء معلق لامحالة، والمفروض أن الإنشاء لا يعقل التعليق فيه، لأن الإنشاء أمر تكويني، وهو عبارة عن قصد إيجاد المعنى باللفظ أو بالفعل، فلا يتصور فيه تعليق، ولو فرض محالاً التعليق في الإنشاء لزم عدم تحقق العقد المشتمل على التعليق، لأن قوام العقد بالإنشاء فإذا لم يكن الإنشاء فعلياً للتعليق فيه لزم عدم فعلية العقد وهو مصادم للوجدان.
وإن كان مصب التعليق هو الملكية بوجودها الاعتباري فالكلام هو الكلام، لأنه إذا كان التعليق في المعتبر فلازمه التعليق في الاعتبار، والمفروض أن الاعتبار كالإنشاء أمر تكويني، حيث إن الاعتبار فعل نفساني صادر من المعتبر، سواء كان مشرعاً أو عقلائياً.
فكما لا يتصور تعليق في المنشأ لأن تعليق المنشأ يستلزم التعليق في الإنشاء - والإنشاء غير قابل للتعليق - كذلك لا يتصور تعليق في المعتبر، لأن لازمه التعليق في الاعتبار، والاعتبار لا يتصور فيه التعليق، فإذا لم يكن تعليق في البين لا في الإنشاء ولا في الاعتبار فوجود العقد المعلق محال، لأن التعليق لا محالة لابد له من متعلق ومورد، ولا يتصور تحققه في الملكية لا بلحاظ وجودها الإنشائي ولا بلحاظ وجودها الاعتباري.
وببيان آخر: إن قول البائع: (بعتك الكتاب بكذا إن جاء أبوك من السفر) قضية شرطية مؤلفة من شرط وجزاء، ولاريب أن مرجع التعليق فيها الى ربط الجزاء بالشرط، والمفروض أن الشرط هو المجيئ الخارجي ل اصورة المجيء، فما هو الجزاء المربوط به ؟ فإن كان هو الملكية بوجودها الإنشائي فالمفروض أنه حاصل بالفعل بمجرد الإنشاء فلا معنى لربطه بالخارج، وإن كان الوجود الاعتباري لها فهو مما لا وجود له خارجاً كي يكون منوطاً بالوجود الخارجي للمجيئ من السفر.
والجواب عن ذلك: أنه لا ريب في أن التعليق حاصل بالوجدان، لأن التعليق ليس لفظاً، وإنما التعليق هو أمر قصدي، ولا محالة عندما قال البائع: (بعتك الكتاب بكذا إن جاء أبوك من السفر) فقد قصد وجداناً تعليق المبادلة بين المبيع والثمن على شرط خارجي، أو تعليق الملكية على شرط معين خارجا، فإن التعليق عبارة عن ربط الجزاء بالشرط كسائر القضايا الشرطية، والمفروض أن القضية الشرطية الموجودة في العقد قد تحققت بالوجدان، أي أن المنشئ قصد بالوجدان ربط المبادلة بالشرط المحدد، فهذا أمر لا يمكن رفع اليد عنه لأنه امر وجداني.
وقد أفاد الشيخ الأعظم قدس سره في تحليل ذلك [5] [ج1 ص382] أن أثر المعاملة هو طبيعي الملك، فإن لم تكن المعاملة مشتملة على التعليق كان الأثر الشرعي الملك المنجز، وإن كانت مشتملة على التعليق كان الأثر الشرعي الملكية المعلقة.
ولكن الصحيح أنه لا يوجد شيء وجوداًَ معلقاً لا في عالم العين ولا في عالم الإنشاء ولا في عالم الاعتبار، لأن الوجود مساوق للتشخص والتنجز، والوجود الإنشائي والاعتباري ارتسام نفساني يدور أمره بين الوجود والعدم، فلا يقبل أن يوجد وجوداً معلقاً لا في الإنشاء ولا في الاعتبار، وإنما حقيقة المعاملة - كما أفاد المحقق الإصفهاني قدس سره [6] - هي عبارة عن التسبيب للاعتبار العقلائي والشرعي.
وتقريب كلامه في المقام: أن معنى التسبيب للاعتبار العقلائي والشرعي: أن الإنشاء الصادر من البائع الذي هو عبارة عن - إيجاد المعنى باللفظ أو الفعل أو هو إبراز اعتبار الملكية على الخلاف في حقيقة الإنشاء - إنشاء للملكية صادر بداعي قصد التوصل بهذا الإنشاء للاعتبار الصادر إما من المشرع أو من العقلاء، حيث إن التفات البائع إلى أن مجرد إنشاءه لا يجدي في تحقق موضوع الآثار فمقتضى ذلك صدور الإنشاء منه بداعي قصد التوصل للاعتبار الصادر إما من العقلاء أو من المشرع، وذلك لأن وجود هذا الإنشاء بهذا النحو هو موضوع الاعتبار، فإن موضوع الاعتبار الصادر من مقنن شرعاً أو عقلائياً أن يحصل من المتعاملين إنشاء جامع لشرائط النفوذ منجزاً أم معلقاً.
فحينئذ إن صدرت المعاملة بلا شرط فقد صدق على المعاملة أنها تمليك حقيقي، باعتبار أن هذا الإنشاء المشتمل على قصد التوصل للاعتبار تمام الموضوع للاعتبار، فمتى حصل ترتب عليه الاعتبار من المقنن بلا تخلف، وحيث ترتبت عليه الملكية الحقيقية العقلائية أو الشرعية لكونه موضوعا للاعتبار العام العقلائي أو الشرعي صدق عليه أنه تمليك حقيقي.
وأما إذا صدر الإنشاء مشتملاً على التعليق فما قصده المنشئ - وهو البائع - هو التوصل لاعتبار المقنن لا مطلقاً، بل لاعتبار المقنن في ظرف حصول الشرط المعين، فإذا قال: (بعتك الكتاب بكذا إن جاء أبوك من السفر) فقد قصد التوصل لاعتبار الشارع في ظرف مجيء الأب من السفر، فما لم يتحقق الظرف لا يوجد شيء وجوداً معلقاً كما توهمه عبارة الشيخ الأعظم قدس سره لا في الإنشاء ولا في الاعتبار، أما الإنشاء فقد حصل من المنشئ منجزاً، وأما الاعتبار فبعد لم يحصل لأن موضوعه الظرف المعين، وإذا حصل الظرف صار الاعتبار فعلياً لفعلية موضوعه.
فما هو التعليق ليس إلا قصد التوصل للاعتبار من قبل المقنن في الظرف المعين ليس إلا، لا أن هناك تعليقاً للإنشاء أو تعليقاً للاعتبار كي يقال باستحالته وعدم معقوليته، وليس المقصود بذلك هو القضية الحينية فإن ذلك خلف التعليق المشتمل على الربط الحقيقي بين طرفين، وإنما المقصود أن المربوط بالمجيئ الخارجي من السفر ليس وجوداً معلقاً لا في عالم الإنشاء ولا عالم الاعتبار، وإنما هو الوجود الفعلي للمعتبر - أي الملكية الحقيقية ذات الآثار العملية - المنوط فعليته بفعلية اعتباره، ودوران فعلية اعتباره مدار تحقق موضوعه، وذلك لأن الاعتبار العام الصادر من المقنن له موضوع ذو شرائط، وهو الإنشاء الصادر من البائع منجزاً أو مشتملاً على التعليق، فإنه متى جمع الشرائط كان موضوعا للاعتبار، والتفات البائع لذلك أوجب صدور الإنشاء منه بداعي تحقيق الموضوع بشرائطه مربوطاً بشرط خارجي معين.