« قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/08/17

بسم الله الرحمن الرحيم

/تعریف العقد و أرکانه /

 

الموضوع: /تعریف العقد و أرکانه /

 

وحاصل ما سبق: أن التعليق المبحوث عنه هو التعليق في المنشأ لا في الإنشاء، بلحاظ أن الإنشاء أمر فعلي، وإنما المنشأ هو القابل للتعليق على القيود. ولكن خالف في ذلك بعض الأكابر قدس سره[1] حيث تعرض لمطلب المحقق النائيني قدس سره الذي بيّن فيه الفرق بين الإنشاء والمنشأ، وأن التعليق راجع للمنشأ لا للإنشاء، بتقريب أن الإنشاء من الأمور التكوينية التي لا تقبل الوجود المعلق.

فناقشه بعض الأكابر في ذلك:

أولاً: بأن قياس الإنشاء على عالم التكوين قياس مع الفارق، والوجه في ذلك أن الإنشاء غير التلفظ، فالثاني - وهو التلفظ - أداة للإنشاء وليس هو نفس الإنشاء. والتلفظ والفعل المستخدم في مقام الإنشاء وإن كان أمراً تكوينياً إلا أن الإنشاء نفسه ليس أمراً تكوينياً بل هو أمر اعتباري، فإذا قال المولى مثلاً: (إن جاءك زيد فأكرمه) فالشرط - وهو المجيء - راجع للهيئة أي نفس الإيجاب والأمر بالإكرام، وليس راجعاً للمادة - وهي الإكرام -، أي أن المعلق على المجيء نفس البعث والإيجاب، لا الواجب وهو الإكرام.

وكما يعقل ذلك في الواجب المشروط بأن يكون المعلق نفس الإيجاب كذلك هو المعقول في باب البيع، فإذا قال: (بعتك الكتابة إن جاء زيد) فإن المعلق على المجيء إنشاء البيع، لا أن المعلق على المجيء هو المنشأ - الملكية - بل نفس الإنشاء، بمعنى أن لا إنشاء للبيع ولا إنشاء للتمليك إلا فرض تحقق الشرط.

ثم أفاد: (ولعل بعض الأكابر) يقصد المحقق النائيني قدس سره (خلط بينهما) أي خلط بين الإنشاء والمنشأ، فأرجع القيود للمنشأ، بينما القيود راجعة للإنشاء، والإنشاء أمر اعتباري لا أمر تكويني كي يتوهم عدم جواز التعليق فيه.

ويلاحظ عليه: أنه لم يقع خلط من المحقق النائيني قدس سره ومن سار مساره - كسيدنا الخوئي قدس سره - من أن التعليق للمنشأ لا للإنشاء، والسر في ذلك ما سبق بيانه من أن الإنشاء أمر لحاظي قصدي، فلا قوام للإنشاء إلا بالقصد واللحاظ، وبما أن قوام الإنشاء باللحاظ والقصد - والمفروض أن اللحاظ والقصد أمر تكويني - فلأجل ذلك لا يعقل رجوع القيود للإنشاء، بل الإنشاء لا محالة إما غير موجود أو موجود، لا أنه يوجد وجوداً معلقاً، إذ لا معنى لوجود اللحاظ والقصد معلقاً، بل اللحاظ والقصد إما موجودان في أفق النفس أو غير موجودين.

وكذلك لو قلنا: إن الإنشاء هو الاعتبار، فالكلام هو الكلام فإن الاعتبار فعل نفساني، وهذا الفعل النفساني متقوم بالقصد واللحاظ، لذلك هو أمر تكويني، فلا يتصور فيه الوجود المعلق، ومقتضى ذلك أن مرجع التعليق إلى المنشأ.

والمقصود بالمنشأ - كما سبق بيانه - هو متعلق الإنشاء لا بوجوده الإنشائي، فإن المنشأ بوجوده الإنشائي هو الإنشاء، إذ أن البائع إذا قال: (بعتك الكتابة بكذا) فكما أن الإنشاء حاصل بالفعل فالملكية بوجودها الإنشائي أيضاً حاصلة بالفعل، إذ لا ينفك المنشأ عن الإنشاء بلحاظ عالم الإنشاء، وإنما المقصود بالمنشأ - بحيث يعود التعليق إليه - المنشأ بوجوده الاعتباري، أي عالم ترتيب الأثر، فالمتكلم إذا قال: (بعتك الكتاب بكذا إن جاء زيد من السفر) فمقصوده أن الإنشاء وإن كان فعلياً إلا أنه لا يرتب أثراً على هذا المنشأ إلا في ظرف مجيء زيد من السفر، فما هو المعلق على القيد هو الوجود الاعتباري بمعنى ترتيب الأثر، لا أن المعلق على القيد هو الإنشاء أو المنشأ بوجوده الإنشائي، فإن كل ذلك مما لا معنى له.

وقد أوضح ذلك المحقق النائيني قدس سره[2] [في كتاب المكاسب والبيع ج1 ص292] وأفاد أن التعليق في المقام نظير القضايا الحقيقية المتداولة في سائر العلوم، ومثاله في باب المعاملات التدبير والوصية والنذر المعلق، ومن الواضح جداً أن مرجع القضايا الحقيقية كما في (يجب الحج على المستطيع) إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع - وهو الاستطاعة - وتاليها ثبوت المحمول له - وهو الوجوب -، ومن الواضح أن ما يحصل بالفعل بنظر المرتكز العقلائي عند تحقق الاستطاعة ليس هو الجعل فإنه سابق في عالم التشريع على عالم فعلية الموضوع، وليس هو متعلق الجعل في عالم الذهن والإنشاء المعبر عنه بالمجعول بالذات فإنه عبارة عن صورة الوجوب، وهو مما لا ينفك عن الجعل وجوداً، وإنما الحاصل بتحقق الاستطاعة أمر اعتباري وهو بناء المرتكز العقلائي على دخول الوجوب في عهدة المكلف بشرط وصول التكليف له، وهذا البناء العقلائي هو عبارة عن بناء عملي سبق التعبير عنه بالمنشأ بوجوده الاعتباري، لا بوجوده الإنشائي الحاصل بنفس عملية الجعل في وعاء التشريع، وهو ما يعبر عنه في كلمات الأصوليين - بفعلية الحكم عند فعلية موضوعه -، كما أن التمثيل بالوصية والنذر المعلق أوضح شاهد على مراده، فإن ما يتحقق بالموت ليس هو إنشاء الوصية بل هو بالوجدان سابق على الموت، ولا الملكية للموصى له بوجودها الإنشائي الحاصل بعملية الإيصاء، بل الحاصل هو بناء العقلاء عملاً على ترتيب آثار الملكية للموصى له بالموت. وكذلك الأمر في النذر المعلق، إذ لاريب لدى المرتكز المتشرعي في حصول النذر ابتداء، ولذا ليس للناذر الرجوع عن نذره قبل حصول الشرط، وهو أمارة على تحقق الإنشاء والتعهد بنفس صيغة النذر الصادرة عن إرادة جدية، وأن المتأخر عن حصول الشرط هو وجوب الوفاء بالنذر بالفعل لا نفس المنشأ، وبذلك اتضح الخلل في إشكاله الأول.

ثم قال: (وثانياً: بأن التعليق في المنشأ مما لا معنى له) وذكر لوازم ثلاثة تدل على بطلان رجوع التعليق للمنشأ:

اللازم الأول: أن المنشأ من المعاني التصورية، والمعاني التصورية مما لا يعقل التعليق فيها، حيث لا يتصور التعليق في صورة زيد، ولا يتصور التعليق في صورة بيع الدار، وسائر الصور في الذهن فإن المنشئ إذا قال: (بعتك الدار بكذا إن جاء زيد من السفر) فليس المنشأ إلا صور، وهو صورة البيع والمبيع والثمن ونحو ذلك، وهذه المعاني التصورية أمور حاصلة بالفعل فلا معنى للتعليق فيها، وإنما يتصور التعليق في المعاني التصديقية أي النسب، وأما غيرها فلا معنى للتعليق فيه، ومقتضى ذلك عود التعليق للإنشاء لأنه أمر تصديقي لا تصوري.

ولكن اتضح بطلان هذا اللازم مما سبق بيانه من أن المنشأ ليس هو الصورة، وإنما المنشأ الوجود الاعتباري للمبادلة بين المبيع والثمن، أو الوجود الاعتباري للملكية. والوجود الاعتباري من المعاني التصديقية لا من المعاني التصورية كي لا يكون قابلاً للتعليق.

اللازم الثاني: أن لازم رجوع التعليق للمنشأ تكثر ملك الأعيان بتكثر الزمن، وهو مما يأباه المرتكز العقلائي.

وبيان ذلك: أن هناك فرقاً بين البيع والإجارة، ففي الاجارة حيث يكون متعلق الملك هو المنفعة، والمنفعة مما تتعدد بتعدد الزمن، فيعقل في باب الإجارة تعدد الملك المساوق لتعدد الملّاك بتعدد الزمن، فيمكن لصاحب الدار أن يقول: (ملكت منفعة الدار الشهر الأول لزيد، والشهر الثاني لبكر، والشهر الثالث لعمرو) فيكون الملّاك متعددين بالفعل من حين الإجارة، والملكية أيضاً متعددة بتعدد المنفعة المتعددة بتعدد الزمن، وإن كان المملوك لكل واحد مختلفاً عن مملوك الآخر، فهذا في باب الإجارة معقول، وأما في باب البيع فلا يصح ذلك كأن يقول: (ملكت الكتاب لزيد في يوم الجمعة، وملكت الكتاب لعمرو في يوم السبت، وملكت الكتاب لبكر في يوم الأحد)، فإن المرتكز العقلاء يأبى تعدد ملك الأعيان بتعدد الزمن، بل العين تملك ملكية مطلقة من حيث الزمن لا ملكية مقيدة.

وبعد وضوح الفرق بين الإجارة والبيع بمعنى أن ملك الأعيان لا يقبل التعدد بتعدد الزمن بينما ملك المنافع يقبل ذلك، فلو قال البائع: (ملكتك الكتاب بكذا في يوم الجمعة) بحيث يرجع (يوم الجمعة) إلى المنشأ - يعني إلى الملكية -، فمقتضى ذلك أن ما حصل عليه المشتري هو ملكية خاصة بيوم الجمعة، بحيث يصح للبائع أيضاً أن يملّك العين لبكر في يوم السبت وأن يملك العين لخالد في يوم الأحد، لأنه علّق الملكية للمشتري على يوم الجمعة، بخلاف ما لو عاد القيد إلى نفس الإنشاء فإنه لا إنشاء للبيع إلا في يوم الجمعة، والمنشأ ملكية مطلقة لا أن الإنشاء فعلي لكن المنشأ - وهو الملكية - خاص بيوم الجمعة.

ولكن هذا اللازم غير لازم، وبيان ذلك: بالنقض والحل.

أما النقض فحاصله أن القيد لو رجع للإنشاء بمعنى أن لا إنشاء للبيع إلا في يوم الجمعة عاد المحذور مرة أخرى، فإن لازم ذلك اختصاص المنشأ بيوم الجمعة لامتناع انفكاك المنشأ عن الإنشاء، حيث إن العلقة بينهما علقة الإيجاد والوجود المتحدين ذاتاً المختلفين اعتباراً، وحيث إن الذي حصل من المنشئ إنشاء خاص بيوم الجمعة، ومقتضى ذلك اختصاص المنشأ بيوم الجمعة وأثره أن للبائع أن يصدر إنشاءً في يوم آخر، وهو مما لا يحتمل.

وأما الحل فإن تعليق المنشأ على الزمن كأن يقول: (بعتك الكتاب بكذا في يوم الجمعة) بحيث يرجع الظرف إلى المنشأ فمعناه لدى المرتكز العقلائي الواضح أن الزمن مبدأ حدوث الملكية، لعدم قابلية ملك العين للتعدد بتعدد الزمن ارتكازاً، لا أن الزمن قيد في الملكية حدوثاً وبقاءً. وبعبارة أخرى: إن البائع إذا قال: (بعتك الكتاب يوم الجمعة) فالإنشاء فعلي إلا أن مبدأ الوجود الاعتباري للمنشأ - وهو الملكية - يوم الجمعة لا قبله، فليس المقصود من التقييد بيوم الجمعة إلا عدم حدوث الملكية قبل الجمعة، لا أن المقصود بالتقييد يوم الجمعة دوران الملكية مدار يوم الجمعة كي يعد نقضاً على القول برجوع القيد للمنشأ.

اللازم الثالث: لو رجع القيد للمنشأ لا للإنشاء للزم من ذلك أن لا يجوز للمتعاملين الرجوع عن البيع، لأن الإنشاء قد تم فالتمليك فعلي وإن كان زمن الملكية في يوم الجمعة فليس لهما الرجوع بعد حصول البيع بالفعل، بخلاف ما إذا قلنا بأن القيد راجع للإنشاء فإن البيع لم يحصل بعد، وإنما يحصل يوم الجمعة فلهما الرجوع قبل ذلك، وبما أن المرتكز على جواز الرجوع قبل حصول الشرط كشف ذلك عن كون المعلق هو الإنشاء نفسه.

ولكن هذا اللازم محل تأمل، إذ لا قرائن ولا شواهد على جواز التراجع عن البيع قبل حصول الشرط في تمام الصور، فمثلاً إذا كان المعلق عليه قيداً معلوم الحصول كالزمن - كما لو علق المنشأ على يوم الجمعة فإن المعلق عليه وهو يوم الجمعة أمر سيحصل قطعاً -، ومتى ما كان المعلق عليه قيداً معلوم الحصول فليس لهما التراجع عن ذلك، سواء رجع القيد للإنشاء أم للمنشأ، فإن المرتكز قائم على عدم جواز الرجوع ما لم يكن العقد مستبطناً للخيار، مما يعني أن جواز الرجوع في بعض الصور - كما لو كان المعلق عليه استقبالياً مجهول الحصول - لا يكشف عن كون المعلق هو الإنشاء بل لعله المنشأ، وبناء العقلاء على جواز الرجوع لبنائهم على اعتبار التنجيز في مثل هذا الفرض.

فتلخص بذلك: أن ما ذكره بعض الأكابر في مناقشة المحقق النائيني قدس سرهما غير وارد عليه، لما أوضحه النائيني بعدة عبارات وفي كلا تقريريه (المكاسب والبيع) و(منية الطالب). والله العالم.

 


logo