« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ حسن الجواهري
بحث الفقه

47/03/22

بسم الله الرحمن الرحيم

وقد تجب العمرة بالنذر، والحلف .../فصل في أقسام العمرة /كتاب الحجّ

 

الموضوع: كتاب الحجّ/فصل في أقسام العمرة /وقد تجب العمرة بالنذر، والحلف ...

 

الجهة الرابعة: تُستحبّ العمرة المفردة في موارد عدم الوجوب، ويستحبّ تكرارها لكلّ الناس كالحجّ، وقد دلّت جملة من النصوص على هذا الاستحباب، فقد ورد في بعضها أنّ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) اعتمر تسع عمرات، وفي بعضها أربع عمرات، وفي أُخرى ثلاث عمرات، وكلّ هذه الروايات صحيحة؛ لأنّ كلّ راو نقل ما شاهده من عدد العمرات في فترة حضوره مع النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، ويدلّ على ذلك أيضاً ما ورد في نصوص أُخرى بأنّ لكلّ شهر عمرة.

الجهة الخامسة: قد اختلف الفقهاء في مقدار الفصل بين العمرتين على عدّة أقوال:

القول الأوّل: يرى أنّه لكلّ شهر قمري عمرة. وبناء على ذلك، لو اعتمر المكلّف في شعبان مثلاً، جاز له أن يعتمر مرّة أُخرى في رمضان، وإن كان الفصل بيوم واحد.

القول الثاني: يذهب إلى أنّ الفصل بين العمرتين هو عشرة أيّام، فيجوز الإتيان بثلاث عمرات في الشهر الواحد.

القول الثالث: يرى أنّ الفصل بين العمرتين يكون بسنة كاملة، فلا تصحّ العمرة إلّا مرّة واحدة في كلّ سنة.

القول الرابع: لا يُعتبر الفصل بين العمرتين أصلاً، فتصحّ العمرة في كلّ يوم، بل تجوز أكثر من مرّة في اليوم الواحد.

ومنشأ الإختلاف يعود إلى اختلاف الروايات الواردة في المقام، فإنّها على طوائف:

منها: ما دلّ على اعتبار الفصل بعشرة أيّام، كرواية الكليني والشيخ عن علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): «ولكلّ شهر عمرة، فقلت: يكون أقل؟ فقال: في كلّ عشرة أيّام عمرة»[1] ، ورواها الصدوق بإسناد آخر عن القاسم بن محمّد، عن علي بن أبي حمزة.

وقال بعض العلماء بأنّ الرواية ضعيفة بعلي ابن أبي حمزة، وهو البطائني المشهور بالكذب، والملعون على لسان بعض الأئمّة (عليهم السلام).

وقد يُقال: إنّ دعوى أنّ المراد من «علي بن أبي حمزة» المذكور في السند هو البطائني غير مسلّمة، بل قد يُراد به علي بن أبي حمزة الثمالي، وهو ثقة ثقة.

وفيه: إنّ الثمالي من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام)، في حين أنّ البطائني من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) ومتأخّر عنه زماناً، وبما أنّ هذه الرواية منقولة عن الإمام الرضا (عليه السلام) فلا إشكال في أنّ الراوي هو علي بن أبي حمزة البطائني، لا الثمالي.

وأمّا لو لم يُحرز أنّ الراوي هو البطائني أو الثمالي، فلا يمكن العمل بهذه الرواية؛ وذلك لعدم إحراز حجّيتها.

نعم، استدلّ صاحب الجواهر على اعتبار الفصل بين العمرتين بعشرة أيّام برواية، وعبّر عنها بالموثّق، حيث قال: «قال الصادق (عليه السلام) أيضاً في الموثّق: السنة اثنا عشر شهراً، يعتمر لكلّ شهر عمرة، قال: فقلت له: أيكون أقلّ من ذلك، قال: لكلّ عشرة أيّام عمرة»[2] .

ولكن لا وجود لهذه الرواية، وإنّما ضمّ صاحب الجواهر (قده) صدر رواية إلى ذيل رواية أُخرى، فإنّ الصدر من موثّقة إسحاق بن عمّار التي تدلّ على أنّ الفصل بين العمرتين بشهر، وأمّا الذيل فإنّه من رواية البطائني التي تدلّ على اعتبار الفصل بين العمرتين بعشرة أيّام.

وعليه، لا دليل على أن يكون الفصل بين العمرتين بعشرة أيّام، إلّا الرواية المذكورة عن البطائني الذي قيل في حقّه أنّه مشهور بالكذب.

ولكنّنا نقول بأنّ الرواية معتبرة؛ لأنّ البطائني ثقة في النقل، وإنّما ذُمّ في عقيدته بالوقوف على إمامة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، دون الرجوع إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، فلُعن لذلك، فإنّ سبب وقوفه كان طمعاً في المال الذي كان عنده، ولم يُرد إعطائه للإمام الرضا (عليه السلام)، فهو كذّاب في عقيدته، لا في نقله.

إذن، علي بن أبي حمزة البطائني ثقة، وإن كانت عقيدته فاسدة، فإنّ لعنه من قِبل بعض الأئمّة (عليهم السلام) لم يكن لعدم وثاقته في النقل، بل لفساد عقيدته، ولذا قال صاحب الجواهر (قده) باعتبار حديث علي بن أبي حمزة البطائني؛ لرواية جمع كثير من الأعاظم عنه، فكيف يروون عنه إذا كان كذّاباً، وكذا روى عنه جماعة من أصحاب الإجماع، وقد تقرّر في مسلكنا الأصولي أنّ رواية أصحاب الإجماع الكبير أو الصغير عن شخص تُعدّ توثيقاً له، وقد روى عنه مَن نُصّ على أنّه لا يروي إلّا عن ثقة، كالبزنطي وصفوان. وعليه، تكون الرواية معتبرة.

ومنها: ما دلّ على اعتبار الفصل بين العمرتين بسنة، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «العمرة في كلّ سنة مرّة»[3] ، وصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وصحيحة زرارة بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لا تكون عمرتان في سنة»[4] ، فإنّ المضمون واحد، وإن اختلف اللفظ.

ولكن لا يمكن الالتزام بظاهر هذه الصحاح الثلاثة؛ لوجود السيرة القطعية على استحباب العمرة وتكرارها، ولوجود الروايات المتضافرة، بل المتواترة الدالّة على استحباب العمرة في كلّ شهر، فلا بدّ من طرح هذه الروايات الثلاث، أو حملها على عمرة التمتّع، فإنّها لا تكرّر في السنة إلّا مرّة واحدة، كما حملها الشيخ (قده) على عمرة التمتّع، لا على العمرة المفردة.

ومنها: ما دلّ على اعتبار الفصل بين العمرتين بشهر، ويدلّ عليه روايات كثيرة في الباب السادس من أبواب العمرة، والمراد من الشهر هو ما بين الهلالين، بحيث لو أتى المكلّف بالعمرة في آخر شعبان، جاز له الإتيان بالأُخرى في أوّل رمضان، ولا يُشترط أن يكون الفصل ثلاثين يوماً، بل المعتبر هو انقضاء شهر قمري ودخول شهر قمري آخر.

نعم، توجد قرائن تدلّ على أنّ المراد بالشهر ثلاثون يوماً في بعض الأحكام الشرعيّة، كعدّة الوفاة والطلاق، بحيث يُلفّق بين شهرين كأن يُحسب من منتصف شعبان إلى منتصف رمضان شهراً.

فمن تلك الروايات الدالّة على اعتبار الفصل بشهر موثّقة إسحاق بن عمّار قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكلّ شهر عمرة»[5] ، فإنّ المراد بذلك اثنا عشر شهراً هلاليّاً، لا مضي ثلاثين يوماً.

ويُؤكّد ذلك أمران:

الأوّل: ما ورد في صحيحة حمّاد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، الدّالة على عدم جواز الخروج من مكّة قبل إحرام الحجّ، فقد جاء فيها: «قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة، أو إلى نحوها بغير إحرام، ثمّ‌ رجع في أبان الحجّ، في أشهر الحجّ، يريد الحجّ، فيدخلها مُحرماً أو بغير إحرام‌؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل مُحرماً»[6] ، فإنّ هذه الصحيحة وإن وردت في العمرة المتمتّع بها، إلّا أنّها تُؤكّد أنّ الفصل يكون بشهر هلالي.

وقد ذهب صاحب الجواهر والسيّد الحكيم (قدّس سرّهما) إلى أنّ الحكم المذكور في الرواية (أي: إنّه إذا رجع في نفس الشهر الذي اعتمر فيه دخل مكّة من دون إحرام، وإذا رجع في شهر آخر دخل مع الإحرام) يختصّ بالعمرة التمتّع بها، ولا يعمّ العمرة المفردة، ولكن مع ذلك تُعدّ هذه الرواية مؤكّداً للرواية الدالّة على أنّ لكلّ شهر عمرة مفردة.

الثاني: ما ورد في صحيحة بريد الواردة في شأن مَن أفسد عمرته، حيث قال: «وعليه أن يُقيم إلى الشهر الآخر فيخرج إلى بعض المواقيت فيحرم بعمرة»[7] ، والمراد من الشهر الآخر هو الذي يحلّ برؤية الهلال (لا مضي ثلاثين يوماً).

ثمّ إنّنا نقول: لا تنافي بين الطوائف المختلفة من الروايات الواردة في بيان الفصل بين العمرتين، ولكنّها تختلف في مراتب الفضل، فإنّ المقصود منها جواز الإتيان بالعمرة من دون اعتبار فاصل زمني معيّن، والروايات الدالّة على أنّ الفاصل عشرة أيّام، أو شهراً إنّما تدلّ على بيان الأفضلية لا الوجوب. وعليه، فإنّ المكلّف يتخيّر في إتيان العمرة متى ما شاء، ولكنّ الفصل بعشرة أيّام أو بشهر أفضل، فمثلاً إذا قال: زُر الإمام الحسين (عليه السلام) في كلّ سنة، ثمّ قال: زُره في كلّ شهرين، ثمّ قال: زُره في كلّ عشرة أيّام، ثمّ قال: زُر في كلّ ليلة جمعة، فإنّ هذه الأقوال كلّها تدلّ على الجواز، مع التفاوت في الفضل، وهذا القول الرابع، أي: القول بعدم اعتبار الفصل بين العمرتين.

وعليه، فإنّ الروايات كلّها معتبرة، وصادرة عن الأئمّة (عليهم السلام)، ولذا نقول بجواز الإتيان بالعمرة في كلّ يوم، وفي كلّ عشرة أيّام، وفي كلّ شهر، وفي كلّ سنة، فإنّهم (عليهم السلام) قد رخّصوا لنا ذلك، فيكون الأمر تخييريّاً.

وقد اختار هذا القول جمع من العلماء، منهم صاحب الجواهر (قده)، والسيّد الحكيم (قده)، وغيرهما، وهو القول الذي يُساعد عليه الدليل.

 


logo