« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ حسن الجواهري
بحث الفقه

46/10/09

بسم الله الرحمن الرحيم

لو أوصى بصرف مقدار معيّن في الحجّ سنين معيّنة .../فصل في الوصيّة بالحجّ /كتاب الحجّ

 

الموضوع: كتاب الحجّ/فصل في الوصيّة بالحجّ /لو أوصى بصرف مقدار معيّن في الحجّ سنين معيّنة ...

 

(مسألة6): لو أوصى بصرف مقدار معيّن في الحجّ سنين معيّنة، وعيّن لكلّ سنة مقداراً معيّناً واتّفق عدم كفاية ذلك المقدار لكلّ سنة، صرف نصيب سنتين في سنة، أو ثلاث سنين في سنتين مثلاً، وهكذا، لا لقاعدة الميسور؛ لعدم جريانها في غير مجعولات الشارع، بل لأنّ الظاهر من حال الموصي إرادة صرف ذلك المقدار في الحجّ، وكون تعيين مقدار كلّ سنة بتخيّل كفايته، ويدلّ عليه أيضاً خبر علي بن محمّد الحضيني، وخبر إبراهيم بن مهزيار، ففي الأوّل تجعل حجّتين في حجّة، وفي الثاني تجعل ثلاث حجج في حجّتين، وكلاهما من باب المثال كما لا يخفى، هذا ولو فضل من السنين فضلة لا تفي بحجّة فهل ترجع ميراثاً، أو في وجوه البرّ أو تزاد على أُجرة بعض السنين؟ وجوه، ولو كان الموصى به الحجّ من البلد ودار الأمر بين جعل أُجرة سنتين مثلاً لسنة، وبين الاستئجار بذلك المقدار من الميقات لكلّ سنة ففي تعيين الأوّل أو الثاني وجهان، ولا يبعد التخيير، بل أولويّة الثاني، إلّا أنّ مقتضى إطلاق الخبرين الأوّل. هذا كلّه إذا لم يعلم من الموصي إرادة الحجّ بذلك المقدار على وجه التقييد، وإلّا فتبطل الوصيّة إذا لم يرج إمكان ذلك بالتأخير، أو كانت الوصيّة مقيّدة بسنين معيّنة[1] .

هذه المسألة فيها فروع متعدّدة.

الفرع الأوّل: لو أوصى بصرف مقدار معيّن من ثلثه في الحجّ سنين معيّنة، وعيّن لكلّ سنة مقداراً معيّناً، واتّفق عدم كفاية ذلك المقدار لكلّ سنة، يُصرف نصيب سنتين في سنة، أو ثلاث سنين في سنتين مثلاً وهكذا، فمثلاً لو أوصى بصرف مبلغ عشرة ملايين دينار من تركته لعشر سنين بحيث يُصرف لكلّ سنة مليون دينار، وحُجّ عنه في السنة الأُولى والثانية بهذا المبلغ، ولكن لم يكف هذا المبلغ لأداء الحجّ عنه في السنة الثالثة والرابعة، فحينئذ يُجمع نصيب السنة الثالثة والرابعة ويُصرف للحجّ عنه في السنة الثالثة، وكذلك يُجمع نصيب السنة الخامسة والسادسة والسابعة ويُصرف للحجّ عنه في السنة الرابعة (إذا لم يكف قيمة الحجّ إلّا بهذه الصورة)، وهكذا.

مورد هذه المسألة هو ما إذا شُكّ في مراد الموصي من وصيّته بالحجّ هل تعلّق بإتيان الحجّ على نحو وحدة المطلوب، أي: إنّه يريد الحجّ ضمن المبلغ المعيّن فقط (مليون دينار) ولا يريد الحجّ فيما لو تجاوزت تكلفته ذلك المبلغ، أم أنّ مراده تعلّق بإتيان الحجّ على نحو تعدّد المطلوب، أي: إنّه يريد أمرين، أحدهما الحجّ، والآخر أن يكون الحجّ ضمن المبلغ المعيّن.

وقد استُدلّ على هذا الحكم بأربعة وجوه، ونضيف إليها وجهاً خامساً:

الأوّل: الإجماع، فإنّ إجماع علمائنا المتقدّمين من الطبقة الأُولى يشكف عن رأي الرواة، وهو يكشف عن رأي رئيسهم وهو الإمام (عليه السلام). وقد نصّ على ذلك غير واحد من العلماء حيث قال صاحب الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه»[2] ، وقال صاحب الحدائق: «من غير خلاف يُعرف»[3] ، وقال صاحب المدارك: «أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب»[4] .

الثاني: قاعدة الميسور، فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، فإذا تعذّر أداء الحجّ بذلك المبلغ جاز إكماله من نصيب السنة الآتية.

الثالث: ظهور حال الموصي في إرادة صرف المبلغ المعيّن في الحجّ، فإنّ الظاهر من حاله أنّه كان يعتقد أو يتخيّل كفاية ذلك المبلغ لأداء الحجّ، فمع تبيّن عدم الكفاية ووقوع الشكّ في مراده من حيث كون المطلوب واحداً أو متعدّداً، يُحكم بإتمام الناقص من نصيب السنة الآتية.

الرابع: روايتان تدلّان على هذا المضمون بأنّه لو أوصى شخص أن يُحجّ عنه سنين معيّنة، وعيّن مبلغاً معيّناً لكلّ سنة، واتّفق عدم كفاية ذلك المقدار، يُصرف نصيب سنتين في سنة أو ثلاث سنين في سنتين.

وقد استشكل المصنّف (قده) على الدليل الثاني بأنّ قاعدة المسيور إنّما تجري في المجعولات الشرعيّة والواجبات الارتباطيّة، كالصلاة والحجّ، حيث يكون المكلّف مأموراً بمركّب ذي أجزاء أو شرائط، فإذا تعذّر عليه الإتيان ببعض تلك الأجزاء أو الشرائط وجب إتيان الباقي، فمثلاً إذا تعذّر عليه الصلاة من قيام وجبت الصلاة من جلوس، وإن تعذّر عليه الركوع وجب الإيماء برأسه للركوع، وكذلك الحال في الحجّ، فلو تعذّر عليه رمي جمرة العقبة أو الطواف وجبت الاستنابة لهما؛ وذلك لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، فإنّ الأجزاء الميسورة لا يسقط وجوبها بتعذّر الأجزاء التي تعسّر الإتيان بها، فإنّ الشارع يريد عنواناً واحداً، وإذا تعذّر ذلك العنوان التام بسبب فقدان بعض الأجزاء أو الشرائط فلا يسقط التكليف بالمرّة ولا يرتفع التكليف كلّه، بل يبقى التكليف باستثناء الجزء أو الشرط الذي تعذّر إتيانه، فبناء على اعتبار قاعدة الميسور وثبوتها بدليل معتبر، تكون هذه القاعدة دليلاً لوجوب العمل في المجعول الشرعي الفاقد للجزء أو الشرط؛ لأنّ بهذه القاعدة يُعلم بوجود الملاك في العمل الارتباطي الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط.

ولكنّ الكلام في المقام ليس كذلك؛ لأنّ المجعول ليس حكماً شرعيّاً صادراً من قِبل الشارع، بل حكم شرعي جعله الموصي حيث أوصى أن يُحجّ عنه سنين معيّنة بمبلغ معيّن لكلّ سنة، فإذا تعذّرت تلك الخصوصيّة ولم يكن المبلغ كافياً للحجّ فلا موجب لثبوت الحكم استناداً إلى هذه القاعدة.

وكذا لو أمر الأب ولده بشراء عنب أسود، ولم يُوجد في السوق إلّا العنب الأخضر، فلا يكون أمره بالشراء باقياً عند تعذر تلك الخصوصيّة المأمور بها؛ لأنّ الأمر تعلّق بعنوان خاص وهو العنب الأسود، ولم يُوجد ذلك العنوان.

وكذا لو نذر شخص إعطاء مبلغ معيّن لخطيب معيّن يقرأ في مسجد معيّن في وقت معيّن، ولكن تعذّرت إحدى الخصوصيّات المأخوذة في النذر، كأن ألقى الخطيب مجلسه في مسجد آخر، ففي هذه الحالة لا يجب الوفاء بالنذر ولا يُعطى شيء من المبلغ؛ لعدم تحقّق متعلّق النذر.

ومثله ما لو نذر أن يزور الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة لكن تعذّر عليه ذلك، فلا تجب الزيارة في يوم آخر؛ لأنّ الزيارة في يوم آخر ليست متعلّقة للنذر.

إذن، لو كان الحكم الشرعي مجعولاً من قِبل الموصي أو الناذر أو الأب تجاه ولده، فلا موجب لثبوت الحكم مع فقد الخصوصيّة استناداً إلى قاعدة الميسور، وإنّما هذه القاعدة تجري في الأحكام الشرعية الارتباطيّة المجعولة من قِبل الشارع، لا في الأحكام المجعولة من غيره.

وقد ناقش المحقّق الخوئي (قده) ذلك فقال: إنّ هذه القاعدة مخدوشة من جهة الكبرى؛ إذ لا دليل على اعتبارها، كما أنّها مخدوشة من ناحية الصغرى فإنّه على فرض اعتبار الروايات الدالّة عليها، لا دليل على جريانها في خصوص الأحكام الشرعيّة الارتباطيّة.

نعم، في الواجبات المستقلّة غير المترابطة كصوم شهر رمضان فإنّه يقتصر على الميسور، وليس ذلك استناداً إلى قاعدة الميسور، بل لأنّ‌ الاقتصار على الميسور في هذه الواجبات بحكم العقل، فإنّ العجز عن إتيان تمام الواجب لا يوجب سقوط الواجب بالمرّة، فلو عجز عن صيام تمام شهر رمضان وتمكّن منه في بعض الأيّام، يجب عليه الصيام في تلك الأيّام، وهكذا الدَّين فإنّ العجز عن أداء تمام الدَّين لا يوجب سقوط الأداء حتّى بالنسبة إلى المقدار الممكن.

وأمّا لو ثبتت هذه القاعدة كبرويّاً ولو لأجل انجبار الروايات الضعيفة الدالّة عليها بعمل المشهور، وقلنا أنّ عمل المشهور جابر لضعف الروايات، فإنّ هذه القاعدة تجري مطلقاً في الأحكام الشرعيّة الارتباطيّة، وفي الأحكام الشرعيّة المستقلّة، وفي الأحكام التي جعلها الموصي أو الناذر أو الأب تجاه ولده.

وبعبارة أُخرى: يكون مقتضى القاعدة (لو ثبتت) هو حكم جديد على الميسور مغاير للحكم الأوّل الثابت لتمام الأجزاء، فالحكم الأوّل تعلّق بمجموع الأجزاء وقد انتفى بانتفاء المركّب، والحكم الثاني للباقي حكم جديد يغاير الأوّل، وعليه لا مانع من شمول القاعدة للمقام؛ لأنّ العمل بالوصيّة بتمامها إذا كان غير ممكن فلا مانع من العمل بالمقدار الممكن منها[5] .

وهذا (إذا ثبتت القاعدة) مخالف لما ذكره صاحب العروة (قده)، فلاحظ.

 


logo