« قائمة الدروس
الأستاذ السيد مجتبی الحسيني
بحث التفسیر

47/06/12

بسم الله الرحمن الرحیم

تفسير الآيات 15-16 من سورة المائدة/اهل الكتاب من منظر القرآن /التفسير الموضوعي

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/اهل الكتاب من منظر القرآن /تفسير الآيات 15-16 من سورة المائدة

﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [1]

هاتان الآيتان مسبوقتان بآيات تحدثت عن نقض اليهود لمواثيقهم، ونقض ميثاقهم يسبب شمول لعن الله عليهم وقساوة قلوبهم وتحريفهم الكلم عن مواضعه وخيانات بعضهم، وكذلك النصارى نسيان مواثيقهم يسبب استمرار انتشار العداوة والبغضاء فيما بينهم، ثم أتت الآيتان لتخاطب أهل الكتاب بصورة عامّة مباشرة، بينما اكثر خطابات الله لأهل الكتاب كانت بواسطة النبي صلى الله عليه واله فقال تعالى فيها مخاطبا لنبيه: ﴿قل يا اهل الكتاب﴾ وهنا صدر الخطاب اليهم مباشرة ليدعوهم إلى الإسلام الذي طهّر الديانتين اليهودية والمسيحية من الخرافات التي لصقت بهما، و ليهديهم إلى الصراط السّوي المستقيم، والذي ليس فيه أي انحراف أو اعوجاج.

ومما يستشف من هذه الآيات انها تبشرهم بما كانوا ينتظرونه ويتمنونه وهو ظهور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم المبعوث إليهم، جاء ليظهر الكثير من الحقائق الخاصّة بالكتب السماوية التي أخفوها وكتموها عن الناس، وإن هذا الرّسول يتغاضى عن كثير من تلك الحقائق التي انتفت الحاجة إليها لأنها كانت لظروف مضى عليها الزمان وزال تأثيرها بزوال تلك الظروف التي نزلت لها، فتقول الآية في هذا المجال: ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ‌ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾

وكثير من الآيات في القرآن تتطرق الى ما يبين انتظار اهل الكتاب لهذا الرسول كما نحن في هذا العصر نتمنى ظهور امام الحجة صلوات الله عليه ولعل كثير ممن يتمتع في هذا العصر بأعمال محرمة واموال لا يستحقها ومظالم يورد على المظلومين والمحرومين، اذا ظهر الإمام الحجة واكد على لزوم العدالة في المجتمع ويريد ان "يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملأت ظلما وجوراً" لا يعترفون بحضرته المباركة وقد يحاربونه بما يرون من قطع اياديهم عن كثير من المنافع التي كانوا يجلبونها من الطرق المحرمة. كما بعض هؤلاء اليهود والنصارى أنكروا رسول الله ولم يؤمنوا به لعدم انسجامهم مع العدالة وانفاذ الكامل للأحكام الإسلامية. وهنا نود ان نطلّ اطلالة على بعض الآيات التي تناسب المقام:

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [2]

في هذه الآيات المباركات تصريح بالموعود لأهل الكتاب وتصحيح انحرافاتهم وتحريرهم عن اصرهم والاغلال التي عليهم من سلطة الظالمين عليهم وفكهم عن الخرافات التي دخلت في حياتهم وتضمين فلآحهم، بالالتحاق بركب النبي الأعظم صلوات الله عليه، ثم في الآية التي تليها يأتي تعميم رسالة لجميع البشر وعلاقة النبي بخالق الكون والدعوة الى الايمان به ومتابعته الذي هو رمز للاهتداء وأخيرا تقدير هؤلاء من اهل الكتاب الذين يخضعون للحق وعودهم اليه.

وقال تعالى في سورة المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هٰذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون﴾ ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ ﴿أَ فَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [3]

فهذه الآيات تتحدث عن هؤلاء الذين يظهرون الايمان ولكن يتأثرون عن الدعايات المنحرفة ويصغون الى ما تلغي عليهم الأجانب ويتعاطون المحرمات ولا يخضعون للأحكام الإسلامية وقوانينها وكذلك الآيات تدعوا اهل الكتاب الى العمل بالتوراة والانجيل وتعاتبهم على عدم الالتزام بكتبهم السماوية وتحريفهم لها واقبالهم بالحكم الجاهلية.

نحن نتعلم من مثل هذه الآيات ان نبلِّغَ في سائر الأديان السماوية ونؤاخذهم على عدم الالتزام بتعاليمها كما علينا ان ندقق في تلك الكتب ونميّز ما يوافق العقل والدين وما يخالفهما ونشخص فيهما المطالب الصحيحة من المطالب الدخيلة.

كما يشير ربنا تعالى الى تقارب الأديان السماوية بقوله" ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ ﴿فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [4]

ولعلنا نستفید من هذه الآيات أنّ العمل بما ورد في الإسلام عملٌ بما ورد في سائر الشرائع الالهية خاليا عن التحريفات. طبعاً العقائد نفس العقائد من دون زيادة او نقيصة وفي مجال الشرائع كلها تحرّم الظلم وتوجب العدل وأداء الحق وحسن المعاشرة مع الآخرين ورعاية الامانة والصدق في القول وطاعة الرب والتوسل اليه والاجتناب من الشرك والفحشاء والمنكرات والاجتناب عن الربا والسُكر وحتى النسك الدينية وبعض مفردات الاحكام الشرعية من ناحية المضمون واحدة ومن ناحية الشكل والهيئة قد تختلف.

والله يقول: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [5]

 


logo