47/05/06
بسم الله الرحمن الرحیم
تفسير الآيات 72-74/اهل الكتب من منظر القرآن /التفسير الموضوعي
الموضوع: التفسير الموضوعي /اهل الكتب من منظر القرآن /تفسير الآيات 72-74
قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ﴿وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [1] .
كان بحثنا في الجلسة السابقة حول هذه الآيات المباركة وذكرنا قولين في شأن النزول من الميزان والمجمع. وقوينا القول الثاني خلافا للميزان ثم ذكرنا ثلاثة معاني حول الآية الأولى من المفسرين ما ذكرها في المجمع، ثم دخلنا في تفسير الآية الثانية من هذه الآيات وتركناها لهذه الجلسة.
ان الآية الثانية من الآيات المعقدة المعنى ولذا صار معركة الآراء في مخاطبها وفي معناها ونحن نذكر ما جاء في تفسير المجمع الذي جمع بيان جمع من المفسرين:
قال في المجمع: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا﴾ أي ولا تصدقوا ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ اليهودية وقام بشرائعكم وهو عطف على ما مضى. واختلف في معنى الآية على أقوال:
(أحدها): أن معناه ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والبيان والحجة إلا لمن تبع دينكم من أهل الكتاب.
وقيل: إنما قال ذلك يهود خيبر ليهود المدينة لئلا يعترفوا به فيلومونهم به لإقرارهم بصحته.
وقيل: معناه لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم وقوله ﴿أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لأنكم أصح دينا منهم فلا تكون لهم الحجة عليكم عند الله فيكون هذا كله من كلام اليهود. وقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ﴾ و ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ﴾ كلام الله جوابا لليهود ورداً عليهم أي ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ﴾ و ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ فلا ينبغي لهم أن ينكروا أن يؤتى أحد مثل ما
أوتوا، وهذا معنى الحسن وأبي علي الفارسي.
(وثانيها) أن يكون1 قوله: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ كلام اليهود وما بعده من الله ويكون المعنى ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ﴾ أيها المسلمون، كقوله ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾[2] أي أن لا تضلوا وإن لا يحاجوكم عند ربكم لأنه لا حجة لهم ويكون هدى الله بدلا من الهدى، والخبر، أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وهذا قول السدي وابن جريج.
2- وقال أبو العباس المبرّد أنّ لا، ليست مما تحذف هاهنا، ولكن الإضافة هنا معلومة فحذفت الأول وأقيمت الثانية مقامه والمعنى ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ﴾ كراهة ﴿أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ﴾ أي مما خالف دين الله لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين وكذلك تقدير قوله ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ كراهة ﴿أن تضلوا﴾
3- وقال قوم أن تقديره قل يا محمد أن الهدى إلى الخير هدى الله فلا تجحدوا أيها اليهود أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من النبوة ﴿أَوْ﴾ أن ﴿ُيحاجُّوكُمْ﴾ بذلك ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ إن لم تقبلوا ذلك منهم عن قتادة والربيع والجبائي.
4- وقيل ﴿إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ﴾ معناه أن الحق ما أمر الله به ثم فسر الهدى فقال ﴿أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ﴾ فالموتى هو الشرع وما يحاج به هو العقل وتقدير الكلام أن هدى الله ما شرع أو ما عهد به في العقل فهذه أربعة أقوال.
(وثالثها) أن يكون الكلام من أول الآية إلى آخرها لله تعالى وتقديره ﴿ولا تؤمنوا﴾ أيها المؤمنون ﴿إلا لمن تبع دينكم﴾ وهو دين الإسلام ولا تصدقوا ﴿بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم﴾ من الدين فلا نبي بعد نبيكم ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان و﴿إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ﴾ و ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ فتكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى عند تلبيس اليهود عليهم لئلا يزلوا ويدل عليه ما قاله الضحاك أن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون،
وقوله ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ قيل: يريد به النبوة وقيل: الحجج التي أوتيها محمد (ص) ومن معه، وقيل: نعم الدين والدنيا وقوله ﴿بِيَدِ اللَّهِ﴾ أي في ملكه وهو القادر عليه، العالم بمحله ﴿يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ﴾ وفي هذه دلالة على أن النبوة ليست بمستحقة وكذلك الإمامة لأن الله سبحانه علقه بالمشيئة ﴿وَاللَّهُ واسِعٌ﴾ الرحمة جواد وقيل: واسع المقدور يفعل ما يشاء ﴿عَلِيمٌ﴾ بمصالح الخلق وقيل: يعلم حيث يجعل رسالته ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾).[3]
أقول: الاظهر هذا القسم من الآية المباركة خطاب من الله تعالى لرسول الله وهو قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
في هذا القسم من الآية ان الله تعالى امر نبيه أولاً: ان يخاطب الناس في مسألة ايمانية ثقافية وهي ان الهداية هي التي يؤتيها الله ولا يستطيع أحد ان يصل اليها فلا يستطيع احد ان يحاجوكم بالهداية عند ربكم. وثانياً: ان جميع الخيرات بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾، الفضل هو الزائد عن الاقتصاد، ويستعمل في المعنى الايجابي كما أن الفضول يستعمل في السلبي، قال الراغب: وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل، كما في قوله: ﴿وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ- ﴿ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ﴾ ﴿ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وعلى هذا قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ورحمته فليفرحوا﴾ ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ ورحمته ما زكى منكم من أحد﴾ انتهى.
لا يخفى ان جميع ما وصل الينا من الخيرات لا نستحقها بالذات وعلى هذا فقوله: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾، من قبيل الإيجاز بالقناعة بكبرى الشامل فيفيد: قل: إن هذا الإنزال والإيتاء الإلهي الذي تحتالون في تخصيصه بأنفسكم بالتظاهر على الإيمان والكفر، والإيصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه على الله تعالى بل هو من الفضل، والفضل بيد الله الذي له الملك وله الحكم فله أن يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
هنا ذكر الله صفتين من صفاته وهما: "الواسع والعليم" معناه ان قدرته ليست متناهية فلا ينقصه شيء ولا حد لفضله، ومن ناحية أخرى هو العليم بمخلوقاته فيعلم من منهم يصلح لشمول الفضل. ولا قصور في الفاعل ولو كان قصور في البين يمنع عن شمول الفيض فإنما هو في القابل
قوله تعالى: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، فلما كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وكان واسعاً عليماً أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، له أن يختص بفضله من يشاء.
وقد ختم الكلام بقوله: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ وهو بمنزلة التعليل لجميع المعاني السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الإطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء، وأن يكون واسعا في فضله، وأن يكون عليما بحال عباده وما هو اللائق بحالهم من الفضل، وأن يكون له أن يختص بفضله من يشاء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته