« قائمة الدروس
الأستاذ السيد مجتبی الحسيني
بحث التفسیر

46/09/24

بسم الله الرحمن الرحیم

تفسير الآية 13 من سورة الحجرات/تفسير الآيات المصدرة بيا ايها الناس /التفسير الموضوعي

الموضوع: التفسير الموضوعي/تفسير الآيات المصدرة بيا ايها الناس /تفسير الآية 13 من سورة الحجرات

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى‌ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [1]

كان بحثنا في الليالي الماضية حول هذه الآية فانتهينا الى ان الإسلام اعترف بانقسام الانسان الى الذكر والانثى وان الله جعلهم شعوباً وقبائلَ، الا انه رفض كون هذه الانقسامات دليل على فضيلة قسم منها على قسم آخر، بل انما جعلت هذه الانقسامات الطبيعية لتحقق التعارف بينهم وتنظيم وضع الحياة، وبعبارة أخرى ان الانسان مدني الطبع أي لا يستطيع ان يعيش منفرداً، فلابد من مجتمع مدني يعيش الافراد في ظله سواء كان نظام ملوك الطوائف او بإدارة شيوخ القبائل او النظام الملكي او الجمهوري او النظام الفدرالي. وعلى قول المولى عليه السلام: "من كلام له عليه السلام في الخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله‌ قَالَ عليه السلام: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيْ‌ءُ وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ" [2]

نعم من ناحية الإنسانية والحقوق المدني كل الناس سواء، كما ورد عن رسول الله صلى اللَّه عليه وآله انه قال: "إنّ اللَّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا الى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنّن اللَّه عليه وإنّما أنتم بنو آدم وأحبّكم إليه أتقاكم"‌ [3]

حتى بالنسبة الى ذرية رسول الله صلى الله عليه واله نُدب الى حبهم وإكرامهم تقرّباً الى جدهم، فان هذا الحب او الاكرام لكونهم ذريته يعود الى حب النبي وإكرامه. ولكن من الناحية الحقوقية لا فرق بين السيد الفاطمي وسائر الناس، فلهم ما لسائر الناس، وعليهم ما على سائر الناس، من دون تفاوض وتفاضل في الكم والكيف، سواء في الحقوق الجزائية والحقوق الاقتصادية والحقوق المدنية او حق المواطنة وغيرها من الحقوق، وخطاب ﴿يا أيها الناس﴾ يشملهم كأحد من الناس.

فالجميع سواسية في الحقوق وانما الكرامة عند الله، فهي تعود الى مدى درجة التقوى عند كل فرد منهم.

وردت في القران تعابير مختلفة عن التقوى فان للتقوى طول وعرض طولها من ناحية الزمان فلابد ان تستمر الى حين الوفاة، وعرضها شمولها لجميع ابعاد الحياة، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [4] فقوله ﴿حق تقاته﴾ يشمل عرض التقوى وسعتها موضوعاً وقوله ﴿وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ يشمل طول الحياة.

وقد ورد في القرآن مواطن للتقوى:

منها: انّها خير الزاد الى الله قال تعالى:

﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‌ وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْباب﴾ِ [5] .

منها، انها اعتبرت لباس حيث تستر قال: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى‌ ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[6] فذكر في هذه الآية نعمة اللباس الذي يغطي عورات البدن ويعطيه الوقار والكرامة، ثم اردفها بلباس التقوى التي تغطي سوءات وقبائح النفس الإنساني وتحفظه عن التلوث بالفساد.

ورافقها بالعلم بعد ما شرح احكام الدَِّْيْن في أطول آية في القرآن ثم قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾[7]

كما قارنه بالتعاون على البِرّ فقال: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى‌ وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ َتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى﴾‌.[8] فيحذر المؤمنين من التجاوز عن العدالة والتقوى ولو بالنسبة الى هؤلاء الذين صدوا المسلمين عن مسجد الحرام فنفهم من هذه لآية المباركة لزوم رعاية التقوى حتى في مواجهة العدو.

ومثلها ما ورد في نفس السورة الآية الثامنة منها حيث يقارن العدالة بالتقوى فيقول: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‌ أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ [9]

واخيراً وصف الله نفسه بها: فقال: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‌ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾[10] . ورد في تفسير البرهان عن الصادق عليه السلام في المراد من هذه الآية قال: "قال اللّه: أنا أهل‌ أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة" [11]

وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل:

    1. حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الاعتقادات الصحيحة.

    2. تجنّب كلّ إثم وهو أعم من أن يكون تركا لواجب أو فعلا لمعصية.

التجلّد والاصطبار عن كلّ ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق، وهذه تقوى‌ الخواص بل خاص

الخاص.

‌ قال المولى عليه السلام: "ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحّمت بهم في النّار، ألا وإنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّة"[12]

روي عن امام الرضا عليه السلام انه قال:

"الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة وما قسم في الناس شي‌ء أقلّ من اليقين".

عَنِ الرِّضَا ع أَنَّهُ قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ وَتَمَاوَتَ فِي مَنْطِقِهِ وَتَخَاضَعَ فِي حَرَكَاتِهِ فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ الدُّنْيَا وَرُكُوبُ الْحَرَامِ مِنْهَا لِضَعْفِ نِيَّتِهِ وَمَهَانَتِهِ وَجُبْنِ قَلْبِهِ فَنَصَبَ الدِّينَ فَخّاً لَهَا فَهُوَ لَا يَزَالُ يَخْتِلُ النَّاسَ بِظَاهِرِهِ فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ وَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنِ الْمَالِ الْحَرَامِ فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ فَإِنَّ شَهَوَاتِ الْخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ- فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَنْبُو عَنِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَثُرَ وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى شَوْهَاءَ قَبِيحَةٍ فَيَأْتِي مِنْهَا مُحَرَّماً فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنْ ذَلِكَ فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّنَّكُمْ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا عُقْدَةُ عَقْلِهِ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ تَرَكَ ‌ذَلِكَ أَجْمَعَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ مَتِينٍ فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُ بِجَهْلِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ فَإِذَا وَجَدْتُمْ عَقْلَهُ مَتِيناً فَرُوَيْداً لَا يَغُرَّكُمْ تَنْظُرُوا أَ مَعَ هَوَاهُ يَكُونُ عَلَى عَقْلِهِ أَمْ يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ عَلَى هَوَاهُ وَكَيْفَ مَحَبَّتُهُ لِلرِّئَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ وَزُهْدُهُ فِيهَا فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيٰا وَالْآخِرَةَ يَتْرُكُ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا وَيَرَى أَنَّ لَذَّةَ الرِّئَاسَةِ الْبَاطِلَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ الْأَمْوَالِ وَالنِّعَمِ الْمُبَاحَةِ الْمُحَلَّلَةِ فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ حَتَّى إِذٰا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّٰهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهٰادُ فَهُوَ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ يُوقِدُهُ أَوَّلَ بَاطِلٍ إِلَى أَبْعَدِ غَايَاتِ الْخَسَارَةِ وَيُمِدُّهُ رَبُّهُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي طُغْيَانِهِ فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَا يُبَالِي مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ الَّتِي قَدْ شَقِيَ مِنْ أَجْلِهَا فَأُولَئِكَ الَّذِينَ غَضِبَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً وَلَكِنَّ الرَّجُلَ كُلَّ الرَّجُلِ نِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعاً لِأَمْرِ اللَّهِ وَقُوَاهُ مَبْذُولَةً فِي رِضَى اللَّهِ يَرَى الذُّلَّ مَعَ الْحَقِّ أَقْرَبَ إِلَى عِزِّ الْأَبَدِ مِنَ الْعِزِّ فِي الْبَاطِلِ وَيَعْلَمُ أَنَّ قَلِيلَ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرَّائِهَا يُؤَدِّيهِ إِلَى دَوَامِ النَّعِيمِ فِي دَارٍ لَا تَبِيدُ وَلَا تنفذ [تَنْفَدُ وَأَنَّ كَثِيرَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ سَرَّائِهَا إِنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ يُؤَدِّيهِ إِلَى عَذَابٍ لَا انْقِطَاعَ لَهُ وَلَا يَزُولُ فَذَلِكُمُ الرَّجُلُ نِعْمَ الرَّجُلُ فِيهِ فَتَمَسَّكُوا وَبِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا وَإِلَى رَبِّكُمْ فَتَوَسَّلُوا فَإِنَّهُ لَا تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ وَلَا يُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةٌ‌" [13]

فهذا الكلام المبارك بين لنا عقبات التي امام التقوى فلابد من التجاوز عن تلك العقبات الخطرة والمراحل الصعبة حتى يخلص نيته ويصبح رضاه وسخطه تبعا لرضى الرحمن وسخطه ويمشي على سكة الحق بلا انحراف الى اليمين واليسار.

 


logo