46/08/13
بسم الله الرحمن الرحیم
تفسير الآيات 33-34 من سورة لقمان/الآيات المصدرة بيا ايها الناس /تفسير الموضوعي
موضوع: تفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الناس /تفسير الآيات 33-34 من سورة لقمان
قال الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [1]
فی بادئ البحث نقف مفردة الخشية: الفرق بین الخشیة والخوف: قیل: الخوف تألّم النفس من العقاب المتوقّع، والخشیة خوف خاص، فالنسبة بينهما عموم مطلق قال تعالى في صفة المؤمنين: ﴿ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب﴾ وقيل: الخوف توقع الضرر المشكوك في وقوعه ومن يتيقن الضرر لم يكن خائفاً له، وكذلك الرجاء لا يكون الامع الشك، ومن يتيقن النفع لم يكن راجياً له، والحذر توقي الضرر سواء كان الضرر مظنونا او متيقنا، والحذر يدفع الضرر، والخوف لا يدفعه، لذا يقال: خذ حذرك ولا يقال خذ خوفك،
هاتين الآيتين تنبيه للإنسان بما انه انسان ولا يخص المسلمين لان التوحيد والمعاد اتفق عليهما الأديان السماوية والوجدان والعقل يناديان بهما.
قال في الأمثل: (في هاتين الآيتين اللتين هما آخر آيات سورة لقمان، تلخيص للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلّة التوحيد والمعاد، وتوجيه الناس إلى اللّه واليوم الآخر وتحذير من الغرور الناشئ من الدنيا والشيطان، ثمّ الحديث عن سعة علم اللّه سبحانه وشموله لكلّ شيء) [2]
هنا ورد الامر بالتقوى ثم الامر بالخشية، الذي ورد بعد الامر بالتقوى هو الامر بالخشية عن يوم المعاد وقد وصفته بيَوْم ﴿لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً﴾
ولا يَجْزِي من مادّة الجزاء، و«الجزاء، ورد بمعنيين من الناحية اللغوية: أحدهما: المكافأة والمعاقبة مقابل شيء، كما يقال: جزّاه اللّه خيرا. والآخر: الكفاية والنيابة والتحمّل للشيء عن الآخرين.
فيبعث في الانسان قوة المراقبة والحذر ويصور له الوحدة التي يعيش فيها في ذلك اليوم وانفصاله عن أقرب الناس اليه ثم يؤكد على حتمية المعاد وهو قوله: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ثم يحذّره عن مغريات الدنيا وإغراءات الشيطان، فان الإنسان قد يتأثر من شهواته وميله الى الدنيا فينحرف عن الطريق السوي، وقد يغريه شياطين الجن والإنس فيذهب يميناً ويساراً ويخرج عن طاعة الله وارشاد العقل
وهذه الآية تفيد أنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها بحیث یشغله عن الأخرین ولا ينظر إلى أحد ولو كان أبیه، أو ابنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقا.
کما وصف الله المحشر فی سورة الحجّ بقوله: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾.
و الملفت للنظر ان الآية الكريمة في نفي علاقة الوالد لولده استفاد من مفردة -يجزي- على صيغة المضارع و في نفي علاقة الولد لوالده استفاد من مفردة -جاز- بصيغة الفاعل ولعلّه کان من باب التفنن في الكلام، لان من الفصاحة عدم تکرار لفظ واحد متعاقباٌ، وذکر فی الامثل وجه آخر ايضاً وهو کونه: (إشارة إلى واجب ومسئولية الابن تجاه الأب، لأنّ اسم الفاعل يؤدّي معنى الدوام والتكرار أكثر، فإنّ المتوقّع من العواطف الأبوية أن يتحمّل الأب مقدارا من العذاب عن ابنه، كما كان في الدنيا يتحمّل المصاعب والمشاكل في سبيله، لكن من الابن أن يتحمّل مصائب الأب أكثر وفاء لحقوق الابوّة المترتّبة عليه) [3]
في حين أن أيّا منهما لا يتحمّل أدنى مشكلة عن الآخر، وكلّ منهما مشغول بأعماله، وحائر في أمره ونفسه.
و تحذّر الآية في النهاية البشر من شيئين، فقال: ﴿ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾. فأتى هنا بنهيین في مقابل الأمرين اللذين كانا في بداية الآية، فإنّ الإنسان إذا تمت فيه مسألة التوجّه إلى اللّه، والخوف من الحساب والجزاء، فلا يُخاف عليه من الانحراف والفساد، إلّا من طريقين:
أحدهما: أن تزین النفس زخارف الدنيا وزبرجها في عينيه بحیث یصیر مبهورا بها، وفتسلب منه القدرة على التشخيص، لأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ الخطیئة وأساسها.
والآخر: التآثر من إغرئات الشیطان وخدعه وأمانیه فتغرّه، وتبعده عن المبدأ والمعاد.
ولکن من وقى نفسه واستطاع ان يملكها لا يبقي منفذ للشيطان الى قلبه ولا يخضع لمغريات النس الأمّارة بالسوء فهو أغلق باب نفوذ المعصية والذنب الیه، ویکن فی وقایة التقوى فسوف لا يهدّده أيّ خطر، وعلى هذا فإنّ الدساتير والبنود الأربعة أعلاه تمثّل مجموعة كاملة من برنامج نجاة وخلاص الإنسان.
بهذه المناسبة ذكر في المجمع حديثا جميلاً فقال: " في الحديث الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت والفاجر من اتبع نفسه هواها و تمنى على الله".[4]
وقد ورد في نهج البلاغة عن مولانا امير المؤمنين عليه السلام (وَقَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَذُمُّ الدُّنْيَا أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا (الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا الْمُنْخَدِعُ بِأَبَاطِيلِهَا) أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَ مَرَضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِبَّاءَ (غَدَاةَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ) لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَقَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَمُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ وَشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَتَرْهِيباً وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ وَ حَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَذَكَرُوا وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا"[5]
وفِي أُصُولِ الْكَافِي بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: "سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلٍ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَفْضَلَ مِنْ بُغْضِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ لِذَلِكَ لَشُعَباً كَثِيرَةً وَلِلْمَعَاصِي شُعَباً، فَأَوَّلُ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ الْكِبْرُ وَهِيَ مَعْصِيَةُ إِبْلِيسَ حِينَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَالْحِرْصُ وَهِيَ مَعْصِيَةُ آدَمَ وَحَوَّاءَ حِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: ﴿فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فَأَخَذَا مَا لَا حَاجَةَ بِهِمَا إِلَيْهِ، فَدَخَلَ ذَلِكَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَطْلُبُ ابْنُ آدَمَ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ الْحَسَدُ وَهِيَ مَعْصِيَةُ ابْنِ آدَمَ حِينَ حَسَدَ أَخَاهُ فَقَتَلَهُ فَتَشَعَّبَ مِنْ ذَلِكَ حُبُّ النِّسَاءِ وَحُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ وَحُبُّ الرَّاحَةِ وَحُبُّ الْكَلَامِ وَحُبُّ الْعُلُوِّ وَالثَّرْوَةِ، فَصِرْنَ سَبْعَ خِصَالٍ فَاجْتَمَعْنَ كُلُّهُنَّ فِي حُبِّ الدُّنْيَا، فَقَالَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ: حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالدُّنْيَا دُنَيَاءَانِ: دُنْيَا بَلَاغٌ وَ دُنْيَا مَلْعُونَةٌ".[6]
وسوف نبحث عن الآية الثانية في الأسبوع القادم ان شاء الله.