46/07/21
بسم الله الرحمن الرحیم
تفسير الآيات 59-51 من سورة الحج/الآيات المصدرة بيا ايها الناس /التفسير الموضوعي
موضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الناس /تفسير الآيات 59-51 من سورة الحج
﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ﴾[1]
ان الله تعالى امر نبیه ان یخاطب عامة الناس بانه انما یکون هو نذير ببيان واضح فتحدّثت، الآية الشريفة عن حقيقة الأديان السماوية وهي ان الأنبياء ليسوا كالملوك الجبابرة يحمِّلون انفسهم على الناس بل انهم يدعونهم الى الحق وعبودية ربهم، والناس يختارون طريق الحق بإرادتهم كما قال في سورة الانسان ﴿إنّا هَدَيْنَاهُم السَبِيلَ إمّا شَاكِراً وَإمّا كَفُوراً﴾ و قوله تعالى فی بیان شأن الانبیاء:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [2] فالانبیاء يعرضون البينات والكتاب والميزان ثم الناس هم يقومون بالقسط. نعم الناس إذا طلبوا من نبي ان يأخذ لهم بزمام الأمور وشكل لهم الحكومة فمن أراد ان يخرّب ويعارض بعده النظام القائم يواجههم النبي بالمؤمنين ويحاربهم حتى يفيؤوا الى امر الله كما حصل هذا الامر لرسول الله محمد صلى الله عليه واله، حيث ان اهل المدينة طلبوا منه ان يذهب الى المدينة ليأخذ ذمام امورهم ثم بعد ما وصل الى المدينة المنورة استقبلوه استقبالا حاشدا ورفعوا أصواتهم بالأيمان والطاعة له ولم يكتف بذلك حتى اقام استفتاء عام فصوّت الأغلبية له بالرسالة وحكّموه على أنفسهم، فشكّل اول حكومة إسلامية.
وجميع الغزوات التي أقيمت بعد ذلك كانت دفاعا عن بيضة الإسلام ومجتمع المسلمين.
وامير المؤمنين عليه السلام ايضاً لم يتصدى بالحكم ولا اجبر أحداً على مبايعته، وبعد مقتل عثمان لمّا اجتمعت عامة الناس حوله ليبايعوه على الخلافة لبّى طلبهم وأخذ بذمام الأمور وهو سلام الله عليه يقص القصة فقال: "لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما اخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولأسقيت آخرها بكأس أولها وألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز"
الآيات التی سبقت هذا المقطع تحدثت عن استعجال المشرکین بالعذاب الإلهي، وهو فعل الله وليس من شأن النّبي صلى اللّه عليه وآله وبل إنّما يرتبط بمشيئة اللّه تعالى، فأوّل آية من الآيات أعلاه تتحدث عن الإنذار الذي تناسب هؤلاء وتقول: ﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.
خاطب نبیه صلى اللّه عليه وآله، فيأمره أن ينذر الناس بعذاب اللّه إن تخلّفوا عن طاعته.
وممّا لا شكّ فيه أنّ النّبي صلى اللّه عليه وآله نذير وبشير، وتأكيد الآية هنا لصفة النذير جاء لملاءمة ذلك مع المخاطبين الكفّار المعاندين الذين کانوا ینکرون التوحید ويستهزئون بآیات اللّه.
نعم في هذا المقطع كذلك اجتمع الإنذار والبشارة في آيتين متواليتين وقدم البشرى على الإنذار، لأنّ رحمة اللّه تسبق غضبه وهی اوسع منه، فابتدأ بقوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ فيتطهّرون بماء المغفرة، ویتنعمون برزق الله الكريم.
هنا وصف رزق الله بالکریم «رزق كريم» (والکریم تطلق على أي موجود شريف وثمين) فله مفهوم واسع يشمل جميع الأنعم المادية والمعنوية.
فالله الکریم رزقهم فی الدنیا: الایمان به وبرسوله والقران الکریم بما فیه من الأیات الشریفة وحبّ اوليائه المعصومين عليهم السلام وسائر الصالحين من عباده وما الى ذلك من المكرمات والفضائل التي تكون للمسلمين، وفي الآخرة الجنة ورضوانه الذي هو اكبر من الجنة وجوار اوليائه والمنازل الكريمة. قال الراغب في مفرداته: (لا يقال الكرم إلّا في المحاسن، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل اللّه، أو تحمّل حمالة ترقئ دماء قوم. فعلى هذا لا يطلق الكرم على الإحسان الجزئي).
وفسّر البعض الرزق الكريم بالرزق الدائم الذي لا عيب ولا نقص فيه.
وقال آخرون: إنّه الرزق الذي يليق بالمؤمنين الصالحين، وبما بیناه ان الکرامة تشمل کل نعمة فیه الکرامة ولعل من وجوه الكرامة ان الله عرض نعمه على عباده من دون ان يجبرهم قهرا عليهم لتلقي تلك النعم، بل هو الذي يختار السعادة في جميع درجاتها او الشقاوة في جميع دركاتها.
ثم تلی الآية البشارة بآية الشقاوة فقال: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ﴾ أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهيّة ومحوها، و كانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة اللّه المطلقة، فهم أصحاب الجحيم.
قال فی الامثل: («جحيم» من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النّار، وتقال كذلك لشدّة الغضب، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة).[3]
هنا أوٍدّ أن نطل اطلالة على بعض الآيات التي تشير الى فعل الأنبياء في انذار العباد واليك إياها:
﴿أَ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[4]
﴿أَ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.[5]
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.[6]
﴿هٰذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾.[7]
﴿قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً﴾.[8]
﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.[9]
﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ﴾[10] ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [11]
قال علی علیه السلام: "وَقَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَذُمُّ الدُّنْيَا: أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا، الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا الْمُنْخَدِعُ بِأَبَاطِيلِهَا، أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ؟ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَمَرَضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِبَّاءَ، غَدَاةَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَلَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ، لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ، وَقَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ،
إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَمُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اكْتَسَبُوافِيهَا الرَّحْمَةَ وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا؟ وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَنَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ وَشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ، رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَتَرْهِيباً وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَذَكَرُوا وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا"[12]
نستفید من هذه الخطبة المباركة ان الدنيا دار تذكير وتحذير وتبشير وكلها فضل من الله لعباده، جعلنا الله من الشاكرين والمستفيدين منها، لتكون لنا النعمة العظمى ولا نكون من المُكفِّرين لها لتصبح علينا النقمة بفضله ومنه وكرمة والحمد لله رب العالمين.