« قائمة الدروس
الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله
بحث الأصول

46/10/11

بسم الله الرحمن الرحيم

-تذكية اللحوم.

الموضوع- تذكية اللحوم.

     " إلا ما ذكيتم" هل تدل على نفس الافعال او على الحالة الناشئة من نفس الافعال.

 

نعود. كان الكلام في " إلا ما ذكيتم" هل تدل على نفس الافعال او على الحالة الناشئة من نفس الافعال، من قبيل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [1] هذه الافعال هي نفسها الطهارة، أو الطهارة هي الحالة الناتجة عن الافعال.

الثمرة في هذا الكلام انه إذا كان في الحالة الناتجة، هذا امر بسيط اما يوجد أو لا يوجد فلا يدخل في مبحث الصحيح والاعم.

اما إذا كان من الافعال: ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾، فإذا شككنا في اشتراط فعل جزء أو شرطا، فبناءا على القول بالاعم يمكن اجراء اصالة الاطلاق ونطرد الشرط المشكوك.

اما لو كانت الطهارة عنوانا بسيطا فلا تدخل في محل النزاع لانه إما يوجد واما ان لا يوجد.

واستدل الشيخ النائيني (ره) على ان المراد من التذكية هو الافعال بقوله تعالى: " إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ " نسب التذكية للناس للمؤمنين وللمسلمين، يعني هذه الافعال.

واجاب السيد الخوئي (ره) على ذلك: بان التذكية عبارة عن حالة بسيطة تنشأ عن الافعال، والاسناد في " اليكم " نوع من المجاز في الاسناد من قبيل قوله تعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ [2] "راضية" تعود لصاحب العيشة الانسان وليس لنفس العيشة، فكيف جعل " راضية " نعت "لعيشة"، هذا من باب المجاز في الاسناد.

لذلك السيد الخوئي (ره) قال ان هذا الكلام ليس في محلّه لانه يمكن ان يراد الحالة البسيطة التي هي مجاز في الاسناد.

لكن الانصاف: ان اصالة الحقيقة كما تجري عند الشك في المفردات "حقيقة او مجاز" هذا إذا قلنا بجريان اصالة الحقيقة، كذلك انها تجري في المجاز في الاسناد الذي هو يحتاج إلى دليل، لوجود احتمالين: احتمال ان يكون "ما ذكيتم" هو حالة بسيطة ناتجة عن الافعال، والاحتمال الثاني هو ان ما "ذكيتم" نفس الافعال. فإذا دار الأمر بينهما ارجع إلى اصالة الحقيقة التي كما تجري في المفرد تجري في الاسناد.

اما نحن نقول ان اصالة الحقيقة اصلا لا تجري لا في المفرد ولا في الاسناد، لا وجود اصلا لاصالة الحقيقة، ولا اصالة الاطلاق ولا اصالة العموم، الموجود هو اصالة الظهور، فالظهور قد يكون في الحقيقة فسموها اصالة الحقيقة عند المتأخرين، واكثر المعاصرين على وجود اصالة الظهور واما اصالة الحقيقة تعبدا لا وجود لها وان اشتهرت عند القدماء.

- واما ما كان الشك فيه من جهة احتمال عدم وقوع التذكية، أي الشك في حصول الذبح بشرائطه الشرعية، مع العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية، وذلك مثل الحصول على لحم جاء من البلاد الاروبية واشك في تذكيتها على النحو الشرعي، واعلم انه لحم دجاج وقابل للتذكية، وايضا مثل جلود أو لحوم الأغنام التي تصلنا من بلاد غير المسلمين. فالمرجع فيها أصالة عدم التذكية، من باب استصحاب عدم الحادث.

قد يقال: أصالة عدم حصول التذكية معارضة بأصالة عدم وقوع "الاختناق واشباهه" مما ورد في الآية المباركة، وكما الحرمة تحتاج إلى اثبات العناوين التي ذكرت في الآية حتى يحرم، كذلك الحليّة تحتاج إلى ما ذكرناه، فاحتاج إلى تثبيت الحرمة وإلا استصحب عدم الحرمة. فان الاختناق أمر وجودي وهو من باب عطف الخاص على العام، وهو موضوع الحرمة، وهكذا بقيّة العناوين: "الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع". وعند تعارض الأصلين نرجع إلى أصالة الحل.

فانه يقال: إن المحرمات في الآية المباركة بدأت بالميتة "حرّمت عليكم الميتة" ثم خصصّ المنخنقة والمتردية وغيرها، ومع ملاحظة ورود التحريم في الأربعة الأول: "الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به" هذه قد وردت في آية سابقة، فيكون تكرارها لزيادة بعض العناوين من باب عطف الخاص على العام الذي له اسباب. وفي اللحوم لكن يشمل "الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع" من باب عطف العام على الخاص، فإن المنخنقة هي ميتة، ولبيان حكمها من جهة حليتها لو تمكنت من تذكيتها وفيها رمق من حياة "إلا ما ذكيتم". فيمكن أن نستفيد أصلا وهو: الأصل في الميتة التحريم إلا ما ذكيتم، ومع الشك في حصول التذكية، نجري هذا الأصل.

لكن في استظهار ذلك محل للتأمل فيها وهو ان هذا الاستثناء لا يمكن ان يكون من الجميع لانه لا تذكية للدم ولا للخنزير، هناك اشياء غير قابلة للتحليل، لذلك الاستثناء ليس من الجميع فقوله تاعلى: "إلا ما ذكيتم" لا علاقة لها بالميتة، لها علاقة بالفقرة الاخيرة او بالاخير وذكرنا مثلا على ذلك في قوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [3] ،

استثناء " إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا " هل يرجع إلى الاخير الفاسق، او للجميع؟

وفي "الا ما ذكيتم" هل ترجع إلى خصوص الأخيرة، وبالتالي يكون الاصل اللفظي في اللحوم الحليّة ولا يرتفع إلا مع ثبوت كونها ميتة، فإذا ارجعنا "ما ذكيتم" للأخير ولم يعد هناك استثناء للميتة، والتحريم اصبح للميتة، حينئذ يجب ان اثبت عنوان الميتة حتى اثبت عنوان التحريم، فصار الاصل في اللحوم الحليّة، وبهذا يرتفع ما يتوهم من التعارض بين الآيتين: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [4] استفدنا من هذه الآية: " قل لا اجد فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ " اصالة الحليّة في اللحوم إلا ان يثبت عنوان الميتة. اما في الآية: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ " فكيف تكون حرمت "الميتة" إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾ فصار "حرمت عليكم الميتة" بلا استثناء، وحينئذ يصبح الاصل الحليّة في اللحوم، وبذلك كلاهما يتطابقان أي لا تتنافيان.

بتعبير آخر لاهمية كلامنا: في الآية الاولى: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ﴾ الاحكام تباعة لعناوينها، عنوان الميتة يجب ان يكون موجودا حتى يثبت التحريم، اما في ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ " فكذلك لان الاستثناء لا يرجع إلى الميتة. فالكلام واضح بان الآيتين تؤديان إلى اصالة الحليّة في اللحوم، والاخرى تؤدي إلى اصالة الحرمة في اللحوم.

النتيجة: انه عندنا من الآيتين نستطيع ان نؤسس اصالة الحلية في اللحوم.

اما في مقام الفتوى نحتاط ولا نعمل بها لكن كبحث علمي وصلنا إلى ان التتيجة هي ان الاصل الحلية.

نقول في تحقيق المسألة: الشك في حلية اللحم من جهة كونها شبهات حكمية ففيه صور:

الصورة الأولى: عند العلم بقبول الحيوان للتذكية، وكذلك تحققها، ولكن شككنا في حلية اللحم من جهة أخرى، كتعارض الروايات أو الأدلّة، أو عدم أو أمارة على الحليّة، وذلك كما لو شككنا في حلية لحم الارنب أو الطاووس أو النعام.

فالمرجع هو أصالة الحلّ بالاصل اللفظي من الآيتين الكريمتين، ولا معارض لها إلا ما قد يذهب إليه بعضهم من أصالة الحرمة في اللحوم، وهو مذهب الشهيد (ره) وقد بيّنا فساده.

والنتيجة: في هذا القسم الأصل الحليّة.

الصورة الثانية: أن يكون الشك في الحليّة من جهة الشك في قابلية الحيوان للتذكية، كما في الحيوان المتولد من الشاة والخنزير، من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما، وكما في الكنغر أو اللآمة .

وفي هذه الصورة يكون المرجع أصالة الحلية التي ذكرناها من باب الأصل اللفظي الذي استنبطناه من الآية الكريمة: ﴿ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [5] .

 


logo