46/08/10
الأصول العملية، تنبيهات البراءة والاستصحاب.
الدرس من الدقيقة الخامسة:
الموضوع: الأصول العملية، تنبيهات البراءة والاستصحاب.
• ذكر الشيخ الانصاري (ره) لتنبيهات للبراءة والاستصحاب
•
تنبيهات:
ذكر الشيخ الانصاري (ره) في رسائله بعد مبحث الأصل العملي فروع مهمة تحت عنوان تنبيهات، كتنبيهات البراءة، وتنبيهات الاستصحاب وسنبحثها تباعا.
تنبيهات البراءة:
التنبيه الأول: تقديم الأصل الموضوعي على البراءة: وهو انه كما تجري الأصول في الشبهات الحكمية تجري ايضا في متعلقاتها. وذكرنا ان تقديم الأصل الموضوعي على البراءة من باب تقديم السبب على المسبب، أو الموضوع على حكمه، العرش ثم النقش، وهذا امر طبيعي، فلو فرضنا ان خمرا غليناه حتى ذهب ثلثاه، ثم شككنا في انقلابه. وببركة " كل شيء لك طاهر" و " كل شيء لك حلال " تقتضي الحليّة، لكن موضوعها هذا السائل.
هذا السائل كان خمرا واستصحب خمريته، بالاستصحاب ثبت موضوع الحرمة وهي الخمرية او النجاسة. عندما يتم الموضوع، يتم حكمه قطعا لان الحكم والموضوع تقريبا من باب العلّة والمعلول.
هذا الموضوع تارة يثبت وجدانا، وتارة يثبت تعبدا بالاستصحاب بعد تمام اركانه فإذا تم الموضوع ثبت الحكم، فاستصحب الموضوع. هذا نعبّر عنه تقديم الاصل الموضوعي على اصل البراءة.
ولذلك: لو ورد "كل خمر حرام" وأثبت خمرية السائل بالاستصحاب، فيكون الاستصحاب علما تعبديا، ويتنقح موضوع الحرمة. ذلك ان موضوع أصل البراءة العقلية هو عدم البيان، لأن البراءة العقليّة هي كما ذكروا: "قبح العقاب بلا بيان". وموضوع البراءة الشرعية هو عدم العلم: "رفع عن امتي ما لا يعلمون".
ولذا، لو ثبت أمر بالعلم الوجداني أو التعبدي، فانه يرتفع موضوع أصل البراءة. فلو ان خمرا شككنا في انقلابه خلا واستصحبنا خمريته لارتفع موضوع البراءة، وهو البيان في العقلية وعدم العلم في الشرعية، ولكنه علم تعبدّي فيتقدّم الأصل الجاري في الموضوع من باب الحكومة أو الورود، وان كنا قد ذهبنا إلى تحقق الحكومة بداية وذلك بتوسيع معنى العلم ليشمل الظن الذي قام الأصل أو الأمارة على اعتباره، ثم يحصل الورود أي رفع الدليل برفع موضوعه.
فلو ان سائلا كان خمرا، ثم شككنا في خمريته للشك في انقلابه إلى خلّ، واستصحبنا الخمرية، أي تحقق لنا علم تعبّدي ببركة الاستصحاب، ارتفع موضوع البراءة: "رفع عن امتي ما لا يعلمون"، فيمتنع التمسك بأصل البراءة، وهكذا "قبح العقاب بلا بيان".
الشيخ الانصاري (ره) طبق هذا الكلام على اصالة عدم التذكية، بان عدم إجراء أصالة الحلّ في اللحم المشكوك في حليته وحرمته من جهة الشك في قابليته للتذكية وعدمها، فأجرى أصالة عدم التذكية، ويؤدّي إلى علم تعبّدي يرتفع به موضوع أصل البراءة، وثبت موضوع حرمة الاكل وحرمة اللباس والنجاسة، وذلك بأصالة عدم التذكية.
وفي مقام معالجة المسألة أورد الشيخ (ره) على نفسه بأن أصالة عدم التذكية تعارضها أصالة عدم كونه ميتة. واجاب عن هذه المعارضة بأن الميتة هو نفس غير المذكى.
في الحقيقة ان هذا درس اصولي وليس درسا فقهيا، ولكن وجدت ان من المناسب جدا ان نتوسع قليلا في هذه المسألة لأهميتها ولشدة الإبتلاء بها.
فانه يردنا من انحاء العالم جلود ولا نعلم انها مذكات او لا، واشك في شرط من التذكية مثلا هل يشترط في الذبح ان يكون بالحديد، او ان يكون الذابح مسلما. ومثلا في السمك شككت ان ما حل اكله ان يكون له فلس وإلى آخره.
في هكذا مسائل فالأصل ما هو؟ هل تجري اصالة عدم التذكية في كل هذه الموارد. فإذا ثبت الموضوع ثبت الحكم انتهى الكلام، او ان في كل مورد حكم. وجدت ان من المناسب ان نغوص في هذه المسألة لاهميتها ولكثرة الابتلاء بها خاصة في ايامنا هذه.
إذن لا بأس بلي العنان لبحث المسألة، وقبل بحثها لا بد من مقدّمتين:
الاولى: أن الميتة، هي وصف وجودي لا عدمي، أي هي موت بغير تذكية شرعية او هي عدم المذكى، وبالتالي الميتة والمذكى وصفان وجوديان ضدّان، ولا ثالث لهما. وما ذكره الشيخ الانصاري (ره) غير صحيح بان الميت هو نفس غير المذكى، فالميت ليس عدم المذكى بل هو وصف وجودي كالفرح والحزن أمر قائم بشيء، وسنبيّن ذلك بعد قليل.
الثانية: إن الأصل اللفظي في اللحوم هو الحليّة أو التحريم، بعضهم ذهب إلى التحريم وبعضهم ذهب إلى الحليّة.
نقول مختصرا ان الاصل اللفظي هو الحلية بمعنى قبول التذكية. مثلا: لو شككت ان الكنغر أو حيوان اللاما قابل للتذكية أو لا؟. وحيوان وجد في الغابة هل هو قابل للتذكية أو لا؟
نقول ان الاصل اللفظي هو الحلية بمعنى قبول التذكية وذلك لقوله تعالى ردا على اليهود والكفار: ﴿ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[1] .
والآية الكريمة ظاهرة في الحصر، وتدّل على عموم الحليّة في ما لم يعلم حرمته، فالحليّة تشمل المعلوم الحليّة ومشكوكها. فكلمة " لا اعلم ولا اجد " في قوله تعالى: " قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ" يعني انه غير مجعول وغير ملزم، وليس فقط " رفع عن امتي ما لا يعلمون".
وكلمة " الميتة " في هذه الآية يراد بها المعنى الشرعي وليس المعنى اللغوي، ويدل على ذلك أن ما يؤكل من اللحوم هو الميّت إلا نادرا. فلو كان المراد المعنى اللغوي وهو كل ما زهقت روحه للزم تحريم كل اللحوم إلا نادرا، وهو ما نعلم بعدم إرادته للشارع المقدس، كيف وقد وردت الروايات في الحث على أكل اللحم، نعم، ورد عدم الإكثار منها، مثل: "لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان".
ولما كانت الأحكام تابعة لعناوينها، فلا بد من إحراز عنوان الميتة بالمعنى الشرعي لإثبات التحريم وليس العكس. والمعنى الشرعي هو الموت بغير التذكية، وقد صرّح بذلك العلامّة الطريحي (ره)، وعليه، يكون الموت أمر وجوديا، وليس عدميا كما توهمه البعض كالشيخ الانصاري (ره). فقد توهم أن الموت هو عدم الحياة، فيكون ذلك من باب الملكة والعدم.
ويدّل على كون الموت أمرا وجوديا قوله تعالى: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " [2] فالخلق أمر وجودي ولا يتعلّق الوجودي بالعدمي.
ولذا، فإن الأوصاف الثلاثة: الميتة، والمذكى، الحيّ، هي أوصاف وجودية وليس عدمية، أي هي أضداد وليسا ملكة وعدم، هما متقابلان ضدان وليسا متضايفين. [3]
ولما كان لا بد لاثبات حرمة اللحم من إحراز أحد العناوين المذكورة في الآية الشريفة، فمشكوكها يقع تحت أصل الحليّة.
ومما يستدل به على أصالة الحليّة في اللحوم رواية علي بن يقطين الوارد في الجلود وهو ما استدل به صاحب الجواهر (ره) حيث انه لم يستدل بالآية: الوسائل: ح 1 - محمد بن الحسن بإسناده (معتبر)، عن أحمد بن محمد (ثقة)، عن الحسن بن علي بن يقطين (ثقة) عن أخيه الحسين، عن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (ع) عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود، قال: لا بأس بذلك. [4]
ولذا: في اللحم الاصل هو الحليّة، بمعنى الأصل اللفظي قبل التذكية، وهذا أصل لفظي مستفاد من الآية الكريمة، لأن الآية لسانها لسان بيان لواقع، حيث تقول: "قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ " أي واقع الحال هو حرمة الأمور المذكورة، وحليّة الباقي عن الشك.
نعم، يمكن الاستدلال على أصل الحليّة في اللحوم بحديث: " كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه"، أو بحديث " كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه" لكن هذا الأصل أصل عملي لكون الشك مأخوذا في موضوعه.
فالفرق بين الاصل اللفظي والاصل العملي هو انه في الاصل اللفظي الموضوع كما هو والشك مورد من موارد تطبيق القاعدة، اما الاصل العملي الشك مأخوذ فيه، مثلا: " اوفوا بالعقود " هنا عموم أي كل عقد يجب الوفاء به، هنا اخذت الموضوع وصببت عليه الحكم وهناك ظهور في العموم، ثم إذا شككت اطبق الظهور، فيكون الشك. اما في الاصل العملي الشك مأخوذ في موضوع الحكم: " من كان على يقين فشك "، ولذلك كان الاصل اللفظي مقدما على الاصل العملي.