« قائمة الدروس
الأستاذ السيد عبدالکریم فضل‌الله
بحث الأصول

46/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الأصول العملية، اصالة الاحتياط.

الموضوع: الأصول العملية، اصالة الاحتياط.

     الطائفة الأولى من الروايات: وجوب التوقف: ارشادية لثلاثة أمور بيناها سابقا.

     لا يصح الاستدلال بها على الاحتياط للزوم الدور، واخذ المتقدم في المتأخر.

     الطائفة الثانية: " خذ بالحائطة لدينك" واشباهها.

     هذه الروايات لا تشمل المشكوك، لعدم صدق عنوان الدين على المشكوك، والاحكام تابعة لعناوينها.

     هذه الروايات إرشادية، فهي لفت نظر المكلف كي لا يقع بالحرام.

 

بعد التذكير بما مرّ بان هناك طائفتان من الاخبار التي استدلوا بها على اصل الاحتياط.

طائفة أولى تنهى عن الاقتحام بالهلكة ووجوب التوقف، وقلنا ان النمط في هذه الروايات الكثيرة ارشادية وذكرنا الدليل.

الطائفة الثانية من قبيل: " اخوك دينك فاحتط لدينك " وجوب الاحتياط للدين.

وقد ذكرنا ان الأوامر بالتوقف وعدم الالقاء في التهلكة ارشادية لثلاثة أمور:

أ- لأنه مما يحكم به العقل من وجوب حفظ النفس.

ب- عدم امكان التخصيص، ولو كان مولويا لامكن.

ج- لوجود عقاب واحد لا عقابان، ولو كان مولويا لثبت عقابان.

الوجه الثاني: بان وجوب التوقف عند الشبهة معلل بانه خير من الاقتحام في الهلكة " الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة. [1] وهذا يعني ان الهلكة موجودة قبل التوقف، بمعنى ان هناك هلكة لا تقتحمها، أي انها كانت موجودة ثم صدر الامر بعدم الاقتحام.

بهذا الوجه لا يمكن من هذه الاخبار ان نستفيد عدم جواز الاقتحام، لان هناك تعليل وهو وجوب التوقف عند الشبهة لأنه خير من الاقتحام في الهلكة. وهذا يعني ان الهلكة موجودة برتبة سابقة على وجوب التوقف.

بعبارة أخرى: الاخباريون يريدون بهذا النص الاستدلال على وجوب الاحتياط المولوي.

الكلام في هذا الوجه ان هذا النص لا يمكن ان استدلال بها على اصالة الاحتياط ، لان الهلكة اما ان تكون موجودة قبل الحكم بوجوب التوقف أو بعد؟

فإذا كانت موجودة قبل فلا داعي للنص أصلا فتكون الروايات ارشادية.

اما إذا كانت موجودة بعد لزم الدور لان وجوب التوقف بعد الهلكة، والمفروض ان الهلكة بعد وجوب التوقف فيلزم اخذ المتقدم في المتأخر.

قلنا ان الفرق بين الأصوليين والاخباريين في ادلة الاحتياط: الاصوليون يقولون انها ارشادية لحكم العقل، اما الاخباريون يقولون بانها مولوية وإنما وجب الاحتياط للروايات، لذلك لم يوجبوا الاحتياط في الشبهة الوجوبية ولا الشبهة الموضوعية.

الوجه الرابع: إن وجوب التوقف عند الشبهة معلل بانه خير من الاقتحام في الهلكة، وهذا التعليل يقتضي كون الهلكة موجودة في مرحلة سابقة على وجوب التوقف، لان الموضوع يجب ان يتقدّم على الحكم ولو رتبة، فالعرش ثم النقش. ولا يمكن ان تكون الهلكة مسببة عن عدم التوقف، وإلا لزم اخذ المتقدّم في المتأخر وهو الدور كما هو واضح. هذا كما لو قال: يحرم عليك الوقوع في نار جهنم إذا وقعت في نار جهنم.

وعدم ثبوت وجوب الاحتياط المولوي بالروايات يقتضي تخصيص روايات البراءة بأمرين: الاحتياط في الشبهة قبل الفحص، والاحتياط في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

اما الشبهة قبل الفحص فلكون اقتحامها قبيح عند العقلاء وخلاف حق الطاعة. اما بعد الفحص فهو غير قبيح، والمعاقبة عليها من باب العقاب بلا بيان عقاب على عير الواصل.

واما الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي فلان اقتحامها مما يحكم العقل بقبحه، بل يمكن ان يقال انها تخرج عن كونها شبهة، العلم يشمل الإجمالي والتفصيلي، كما انه يقبح ان ارتكب المحرّم تفصيلا أيضا يحرم ان ارتكب المحرم اجمالا، بالنتيجة هذا علم (كما ذهب اليه صاحب الكفاية (ره))، حيث يحكم العقل بلزوم الاحتياط.

وبهذا تخصص هذه الروايات – المؤمنات- بهاذين الامرين.

أقول: قد بيّنا احكام اطراف العلم الإجمالي في مباحثه ومسائله الأربع: الموافقة القطعيّة، المخالفة القطعية، الموافقة الاحتمالية، والمخالفة الاحتمالية. وقلنا نحن في المخالفة الاحتمالية انه جائز على خلاف ما هو متداول بان العلم الإجمالي منجز في الاحتمالية والقطعية. مثلا: المخالفة القطعية اشرب من الإناءين النجسين معا، هذا قطعا لا يجوز. اما المخالفة الاحتمالية نجاسة طرف دون الآخر، لماذا لا تجوز؟ القبح العقلائي غير ثابت، والعلم الإجمالي مركب من امرين: علم بالجامع وجهل بالأفراد، علم تفصيلي بالجامع وجهل بالأفراد، وانا ارتكب الفرد، فإذا اقتحمت الامر الجامع أكون قد خالفت العلم، اما ارتكاب الفرد فلم اقطع بالمخالفة، لكن في النفس شيء، للإجماع الواسع، وأيضا عندي لا فرق بين الشبهة المحصورة وغير المحصورة.

لاحظ قوله (ع): " كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه فتدعه". فمنشأ الشبهة هو الاختلاط في اطراف اختلطت. اختصاصها بالشبهة الحكمية تكلّف لا دليل عليه، لان منشأ الشبهة اختلاط الافراد. وأيضا انها خاصة بالشبهات المحصورة أيضا هذا تكلّف.

والخلاصة: نقول انه بحكم العقل القبح غير واضح، والروايات تؤيد هذا الكلام " كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه فتدعه"، أي اختلط الحلال والحرام، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. وهذا بغض النظر عن التيسير على المكلفين.

إذن التعليل ظاهر في ثبوت الاحتياط مع قطع النظر عن هذه الاخبار، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط المولوي بنفس هذه الاخبار كما هو مقصود "الاخباري".

الطائفة الثانية من الاخبار التي استدل بها الاخباريون على وجوب الاحتياط هي الاخبار الآمرة بالاحتياط.

منها:

41 - الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي في (أماليه) عن أبيه، عن المفيد عن علي بن محمد الكاتب ، عن زكريا بن يحيى التميمي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن الرضا عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لكميل بن زياد: أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت. [2]

ومنها: في الوسائل: ح 37 - محمد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن سليمان بن داوود ، عن عبد الله بن وضاح أنه كتب إلى العبد الصالح عليه السلام يسأله عن وقت المغرب والافطار، فكتب إليه : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك.

ح 38 - الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسير الصغير قال : في الحديث دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

ح 39 - قال: وفي الحديث إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

ح 40 - الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي في ( أماليه ) عن أبيه، عن علي ابن أحمد الحمامي، عن أحمد بن محمد القطان، عن إسماعيل بن أبي كثير، عن علي بن إبراهيم، عن السري بن عامر، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن لكل ملك حمى وإن حمى الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات . [3]

وفي غيرها من الروايات الواردة بهذا المعنى.

والاستدلال بها بظهورها بوجوب الاحتياط في الدين والاحتياط يكون عند الشبهات، فتدل على وجوب الاحتياط في كل الشبهات حتى بعد الفحص، وهو محل الكلام، خرج منها الشبهات الوجوبية والشبهات الموضوعية، وتبقى الشبهة التحريمية.

والجواب: ان هذه الروايات اجنبية عن المقام وليست صالحة للاستدلال على الاحتياط وان ورد كلمة " احتياط"، فالمشكوكات لم يثبت انها من الدين لكي تشملها رواية: "أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت". فهذا الحكم لا يشمله لان الاحكام تابعة لعناوينها، والمشكوك خارج عن الحكم، فلا يجب علي في المشكوك ان لا اقتحم.

بيانه: ان الحائط هو ما يجعل لحماية الشيء، ولذلك كان يسمّى البستان بالحائط، وذلك لانهم كانوا يسورون البستان بحائط - سور- لحمايته، من باب تسمية المظروف بالظرف.

فكأن الرواية تقول: " حافظ على دينك وافعل كل ما يحوطه ويحافظ عليه، فافعل الواجب واترك الحرام، وامنع الأفكار الأجنبية الهدامة عن التغلغل لتصبح من الدين، وامنع البدع ولا تأخذ بها، واحم نفسك منها، وسوّر نفسك وعقلك وفكرك للحفاظ على دينك، ولا تجعل للشيطان عليك سبيلا ".

وهذا المعنى اجنبي عما نحن فيه، فان مسألتنا هي: هل يجب الاحتياط المولوي الجعلي بعد الفحص عن الحكم وعدم العثور على دليل يدل عليه؟ فالعرش ثم النقش يجب ان اثبت أولا العنوان ثم اثبت المعنون الحكم.

هذا إذا اعدنا المسألة إلى جذورها، ونظرنا في المراد الجدي من الحديث.

 


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ح35، ص84.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ح41، ص122.
[3] المصدر السابق.
logo